وسط حالة من الارتخاء الحكومي المعيب تتهشم مصر الآن بين مطرقة السلفية الإسلامية وسندان السلفية المسيحية، فبعد أن نجحت ثورة ٢٥ يناير في انتزاع مصر من بين أنياب مبارك وأسرته وعصابته وحزبه وأمن دولته، وقعت مصر مرة أخرى بسبب انصراف الثوار أو غفلتهم في أيدي فئتين لم يشاركا في الثورة بل كانت كل منهما تتحرك تحت تأثير جهاز أمن الدولة السابق وبإشارة منه، وكانت كل منهما تصدر الفتاوي المحرمة للثورة وتعتبرها خروجا على الحاكم ، وكانت كل منهما ستبصم لمبارك أو ابنه في أي انتخابات رئاسية . فالسلفيون الإسلاميون والمسيحيون كانوا ضد الثورة، وهذا لا يمنع مشاركة بعض الأفراد من الجانبين وكانوا لا يمثلون إلا أنفسهم وقد تعرضوا للوم أحيانا وللتفسيق أو التكفير أحيانا أخرى.
إنها نفس العقلية السلفية "المعاصرة" التي تتسم بأحادية الرؤية واختزالها وباحتقار المرأة حين تئدها وتخفيها خلف ستائر سوداء على اعتبار أنها ليست إلا مصدر غواية وموضوع للشهوة، وتحتقر الرجل على اعتبار أنه فحل شهواني بلا عقل ولا يفكر إلا في النساء، وتحتقر العقل وتعتبره طريق الانحراف عن النص المنقول والمتوارث. إنها الرؤية السلفية التي تسقط حسابات الزمان والمكان ولا تفهم الأولويات ولا تقرأ ولا تكتب في دفتر أحوال العصر وإنما تعيش في كهف ماضوي سحيق، يريحها النص من عناء التفكير والعمل ويريحها الجمود من هزات الحركة وتريحها العودة إلى الوراء من تحمل تبعات الانطلاق نحو المستقبل.
وأخطر ما في العقلية السلفية "المعاصرة" رؤيتها السلبية للآخر المخالف لها في العقيدة أو الطائفة أو الملة، فهي ترى الآخر كافرا أو فاسقا أو مبتدعا، وهنا تتلاشى أي فرصة للتعايش مع ذلك الآخر حتى لو صدرت دعوات أو ادعاءات للتعايش هنا أو هناك، حيث يعوق هذا التعايش الصورة السلبية للآخر.
ونحن حين نتحدث عن التيار السلفي "المعاصر" وعن منهجية تفكيره، فنحن نفصل ذلك عن منهج السلف الصالح الذي كان يعي دينه جيدا ويعيش عصره ويجيد التعامل معه ويمتلك أدواته ومفاتيحه. وأيضا لا نعمم الرأي على كل السلفيين فمنهم العلماء الأصوليين والمجاهدين المخلصين، وهؤلاء عليهم مسئولية تصحيح المسار لجمهور كبير من السلفيين فهموا السلفية بشكل خاطئ، وابتعدوا عن الهم العام والشأن العام، وحين تصدو للسياسة بعد طول غياب تورطوا في إحداث كوارث تكاد تأتي على الأخضر واليابس في هذا الوطن لتحقق مصالح أعدى أعدائه .
إذن كيف نضع حاضر مصر ومستقبلها في أيدي أناس كل ما يشغلهم أحوال كاميليا أو وفاء أو عبير سواء كن قد أسلمن أو عدن إلى المسيحية؟ ... وكيف نرهن مصر في أيدي من لا يفهمون أن من تتحول عن دينها لها كل الحق في أن تعيش وسط الناس ولا يحق ﻷحد أن يحتجزها في دير أو كنيسة أو يفرض وصاية عليها .... وكيف نطمئن على مصر وفيها كيانات تفتئت على سلطان الدولة وتصبح دولة داخل الدولة ... وكيف ننام ليلا أو نهارا ونحن نرى رخاوة الدولة في التعامل مع أحداث غاية في الخطورة بطريقة غاية في النعومة ... وكيف نأمن على أنفسنا وأولادنا والجهاز الأمني يقوم فقط بتمثيل دور الأمن .. .
إن حرية العقيدة من حيث المبدأ حق أصيل من حقوق الإنسان أقرته الأديان قبل الدساتير والقوانين ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ومن حيث الواقع فالعقيدة محلها العقل والقلب والروح ولا يمكن ﻷحد أن يسيطر أو يتحكم في عقل أحد أو قلبه أو روحه، وأن محاولات السلفية المسيحية في استرداد من تعلن إسلامها أو يعلن إسلامه إنما هي محاولات عبثية ﻷنك ربما تسترد جسد إنسانه أو إنسان ولكنك لا تستطيع استرداد عقله وقلبه وروحه .
وماذا يزيد دين أو يضر دين حين يتحول إليه شخص أو يهجره شخص آخر، إنه في النهاية شعور بالضعف والهشاشة من أتباع أي دين حين يصيبهم الفرح أو الهلع لدخول شخص أو خروجه من دينهم. إنهم يتخيلون – لضعفهم – أن دخول
شخص في دينهم هو إقرار بصدق هذا الدين، وأن خروج شخص هو وصم لهذا الدين بأنه غير صحيح، فهل هناك ضحالة وهشاشة فكر أكثر من ذلك؟ .
وإننا لنتساءل بأي عقل ومنطق يتجمع السلفيون أمام مسجدين من أكبر مساجد القاهرة ثم يزحفون نحو الكاتدرائية بالعباسية للتعبير عن غضبهم (في أحد الروايات ) أو لتحرير كاميليا وأخواتها (في رواية أخرى)، وهل عرف قادتهم عواقب تصرف مثل هذا لو أن سلفيي المسيحيين من الشباب المتحمس خرج لملاقاة سلفيي المسلمين. ثم نتساءل مرة أخرى: ماذا يعني زحف أعداد هائلة من الإخوة المسيحيين صوب السفارة الأمريكية لطلب الحماية والنصرة ... ألا يؤكد هذا قول القائلين بأنهم يستقوون بالخارج الأمريكي أو الغربي عموما، ذلك الخارج الذي يحمل أجندة عدائية لمصر والعرب بعضها ظاهر وبعضها باطن .
ونتساءل أيضا: أين كان السلفيون حين قتل أمن الدولة سيد بلال أثناء التحقيق معه في حادث كنيسة القديسين ؟ .. ألم يكن سيد بلال مسلما يستحق النصرة ؟ أليس دمه المهدر يستحق المساءلة ؟ ... إن هذه الانتقائية في التعامل تجعلنا نتساءل عن محركي المظاهرات والتحركات السلفية وعن أهدافهم خاصة في هذا الوقت الحرج جدا في عمر الثورة وعمر مصر. ولماذا يتحرك السلفيون فقط حين تكون المستهدفة امرأة ؟
إننا نخاطب العقلاء في الجانبين أن يكفوا أيديهم وأن يبتعدوا عن كل ما يثير الفتنة الطائفية التي أصبحت أكبر خطر يهدد مصر واستقرارها ويهدد الثورة التي دفع فيها الآلاف حياتهم، وأن يعودوا إلى مساجدهم وكنائسهم ونشاطاتهم الدعوية كما كانوا ، ولا يتصدوا للقضايا العامة أو للسياسة دون أن يمتلكوا مفاتيحها ويعرفوا قواعدها، فهم قد ظلوا سنوات طويلة بين جدران دور العبادة وتحت إدارة أمن الدولة، وحين يخرجون الآن بأعدادهم الكبيرة ووعيهم السياسي المحدود فإن كوارث سوف تحدث خاصة في هذه الحالة من الضعف الأمني وخاصة أن لهم تأثيرا كبيرا على عوام الناس الذين يعتبرونهم رموزا دينية وقيادات روحية. ونحن هنا لا ندعو إلى الإقصاء أو الاستبعاد الذي اشتهر به عهد مبارك، وإنما ندعو للمشاركة الواعية التي تضع مصالح الوطن العليا فوق الاعتبارات الطائفية أو الفردية أو الرؤى ضيقة الأفق .
وليس خافيا على أحد ارتباط كل من السلفيتين بمراكز ودول من خارج الوطن لها مصالح تريد أن تحققها، بعض هذه المراكز في دول الخليج وبعضها في إسرائيل وبعضها في أمريكا، وقد يكون الوسطاء والوكلاء على وعي بما يقومون به وقد يكونون مخدوعين بعناوين برّاقة، ولكن في النهاية تصب جهودهم في خانة إحراق مصر ووقف حركة تقدمها وازدهارها، وهذا يؤثر بالسلب على المجتمع العربي بأكمله الذي تشكل مصر محور الارتكاز فيه.
وللإنصاف نقول بأن ثمة أحداث لا يقوم بها السلفيون وإنما يقوم بها بلطجية وعملاء يتخذون سمت السلفيين ومظهرهم، وهؤلاء ربما يعملون بتوجيه من فلول الحزب الوطني وأمن الدولة السابق، وهؤلاء يجب التعامل معهم بمنتهى الحزم والشدة تحت مظلة القانون، وأن يتبرأ السلفيون منهم ويكشفونهم أمام الرأي العام.
إن غياب سطلة الدولة، أو تراخيها أو غياب أحكام القانون على الجميع قد هيئا الجو لهذه الفتنة وأصبح من حق السلفية المسيحية أن تحتجز مواطنة مصرية في دير أو كنيسة فيستفز هذا (حقاً أو باطلاً ) السلفية الإسلامية فتهب ( حقاً أو باطلاً ) للدفاع عن ما تعتبرها أسيرة لدى أتباع الدين الآخر (وربما تصحو بداخلها صيحة: وامعتصماه)، وتستبعد كل القضايا والمخاطر التي تحيط بالوطن وتصبح القضية القومية والوطنية والروحية هي وفاء أو كاميليا أو عبير على الرغم من أننا لا نعرف من هن وأين هن، وما هي قناعاتهن الدينية في الوقت الحالي ، فقد تكن إحداهن قد تحولت عن دينها بدافع من انفعال وقتي أو ظروف أسرية أو تمرد على سلطة أبوية أو دينية ثم عادت مرة أخرى حين زالت الأسباب (أو لم تعد) ، أو تكون إحداهن قد تحولت إلى دين آخر تحت تأثير احتياجات عاطفية.
وفي كل الحالات يجب أن نكف عن العبث في الجانبين ونترك الحرية تزدهر في المجتمع .. حرية الاعتقاد وحرية الحركة والتنقل تحت مظلة سلطة الدولة التي يجب أن تحمي أبناءها وبناتها مسلمين ومسيحيين، وأن لا تترك مصيرهم أو مصيرهن بأيدي زعماء سلفيين على الجانبين لديهم قصور شديد في الرؤية والرأي ويعيشون خارج إطار الزمان والمكان ويتعبدون للنص ويحرمون العقل، ولو لم تقم الدولة المصرية بهذا الأمر فإنها لا تكون فقط مهملة في أداء واجبها بل تكون مشاركة في جريمة تعريض مصر للوصاية الأجنبية التي ربما تنتظر اللحظة المناسبة لتتحقق أو للحرب الأهلية التي تحرق الجميع بنارها.
ولا نريد أن نقع في نفس الأخطاء التي وقع فيها نظام مبارك حين كان يواجه المشاكل الطائفية بالمواءمات والتلفيقات والقبلات الزائفة والحلول السطحية وكان يجعل من بعض الكيانات الدينية دولة داخل الدولة، وإنما نريد أن نحكم القانون، فكل من يرتكب فعلا مخالفا عليه أن يخضع لسطوة القانون مهما كان موقعه أو دينه، وهذا هو صمام الأمان الوحيد وبدونه سوف تدخل مصر في حرب طائفية إن آجلا أو عاجلا ووقتها لن ينفع الندم .
واقرأ أيضًأ:
ذكرياتي في حارة الكنيسة (2)/ كنيسة القديسين أنا وصديقتي/ أحب مسيحية : رأي مجانين/ صداع مسيحية إسلام: البحث عن نظام/ صديقتي مسيحية فهل أنا مذنبة؟/ أحب ولد مسيحي: حب ومراهقة وكاراتيه!