في غمار الثورة العربية: ما هي مواصفات البلد الحديث؟ موضوع للنقاش
ما بعد انتصار الثورة
كشفت التطورات التي أفرزتها انتفاضات الشارع العربي عن عدة مآزق ناجمة بالأساس عن أزمة رؤيوية لدى النخب العربية بكل مشاربها ومذاهبها؛ وهذا ما نلمسه في الحالتين التونسية والمصرية؛ حيث بعد نجاح الانتفاضة في إسقاط النظامين لا يزال الشارع يواصل احتجاجه صونا للثورة من القرصنة، ويشكك في كل الإجراءات التي أعقبت تنحي رموز النظامين السابقين، ولا شيء يوحي أن حلم الثائرين يتوفر على شروط تحققه على المدى القريب. الأزمة كما يبدو أزمة معرفة وتمثل لمفهوم الدولة التي نحلم بها، أو بالتحديد مفهوم البلد.
الثائرون، في تونس ومصر، نجحوا في سحب البساط من تحت أقدام نظام تأكدوا من مقاصده المعادية للمجتمع، لقد أرغموه على الانكماش دون أن يعثروا على البديل المنشود. بفضل الثوار دخلت أحزاب كانت مقصاة إلى مضمار السباق نحو السلطة، وأصبحت شريكة لما تبقى من النظام السابق. الثوار متيقنون أن تحالفا ما يتشكل حول السلطة، ومتيقنون أن هذا التحالف لا يفضي إلى التغيير المنشود، لذلك صمموا على مواصلة الاحتجاج. فمن أجل ما ذا يحتجون؟
إنهم يحتجون من أجل تحقيق مطالبهم. ما هي مطالبهم؟ ومن يحققها؟
تتلخص مطالبهم في بلد يحترم الحقوق والحريات، وتسهر سياسته على توفير شروط حياة كريمة. لكن من يحقق هذه المطالب؟ أي من يبني هذا البلد المنشود؟ هل لدى الثوار نموذج سياسي لهذا البلد في أذهانهم؟ هل لديهم تصور عن "الدولة" بمفهومها الديمقراطي الحديث؟ هذا هو السؤال الذي يجب طرحه؟؟
في انتظار مصير الثورات اليمنية والسورية والبحرينية، فإن احتجاجات الشارع الليبي تحولت إلى ثورة مسلحة، وبدعم من الشعوب والمجتمع الأممي، أفلح الثوار في تحرير ليبيا من قبضة نظام القذافي، وقد أبلى المجلس الانتقالي بلاء حسنا في تسيير دفة الثورة وتجاوز المآزق التي اعترضته على عدة أصعدة.
من الملاحظ أن الثورة انتصرت في شمال أفريقيا، وشاءت الصدف أن البلدان التي تحررت من أنطمتها الاستبدادية كلها متجاورة، وإذا نجحت البلدان الثلاثة في مشروعها الديمقراطي فإن النظام الجزائري (الناجي لحد الآن) سيكون الخاسر الأول بوصفه نظاما لا يتوفر على شروط تغيره الديمقراطي الذاتي، وبخسارته ستخسر قوى الفساد العالمية أهم معقل لها في شمال أفريقيا؛ ولهذا لن تبقى هذه القوى مكتوفة الأيدي وستعمل على دعم هذا النظام بكل الطرق حتى يضطلع بدوره "الإرهابي" ضد أي مشروع ديمقراطي في المغرب الكبير.
الغرب: من هو؟
احتد النقاش واتسع الجدل حول من يقف وراء هذه الثورات، وعلاقتها بالغرب. بل هناك من اتهم الغرب بالتخطيط لها وهناك من اعتبرها حربا صليبية، وهناك من اعتبرها انقلابا، وهناك من يعمل على تقديم صورة قاتمة لليبيا ما بعد القذافي، اعتمادا على تقارير إعلامية وتصريحات سياسية تفيد أن الثورة قادها أصوليون يكنون العداء للغرب، وفي نفس الركاب تسير بعض التحليلات لخبراء ومحللين غربيين وعرب.
يبدو لعدد من الملاحظين أن النقاشات والتحليلات على كثرتها ظلت أسيرة نظرة نمطية تجاوزتها الأحداث. لا أحد ينكر أن الأنظمة الاستبدادية كانت من صنع الغرب، لكن السؤال الذي ظل غائبا هو: من هو الغرب الذي كان وراء الأنظمة الاستبدادية؟ ومن هو الغرب الذي يناصر الثورات العربية التواقة إلى الديمقراطية؟ ومن هو الغرب الذي يعمل على إفشال هذه الثورات؟ وما علاقة الغرب بالدوائر غير الغربية؟ (النظام السوفياتي سابقا الروسي حاليا ومن يدور في فلكه، بعض أنظمة أمريكا الجنوبية، الصين،..) الغرب ليس واحدا، وليس كله ديمقراطيا، فعلى مدى قرنين على الأقل، أي بعد الثورتين الأمريكية والفرنسية انخرطت القوى الديمقراطية في الغرب، في صراع ضد القوى المعادية للديمقراطية، وقد أحرزت نجاحا باهرا في مجال الحريات والحقوق مما جعل القوى المعادية للديمقراطية تنكمش وتبحث لها عن متنفس في بلدان أخرى، وهذا ما دفعها للبحث عن فضاء آخر لممارسة أنشطتها المافيوية فوجدت ضالتها في أغلب البلدان الإسلامية.
وعليه فإن الغرب الديمقراطي لم يحسم المعركة لصالحه نهائيا ضد قواه المعادية للديمقراطية، باعتبار أن الديمقراطية معركة مفتوحة ومتجددة، وهذا يعني أن القوى الديمقراطية الغربية لا تزال في صراع مع القوى الغربية المعادية للديمقراطية والمتمثلة في اللوبيات والدوائر المالية السرية والشركات المتوحشة والتيارات الدينية المتطرفة والعنصرية والشوفينية، وهذه الشبكة تخترق كل المؤسسات والهيئات والمنظمات، بشكل أو بآخر، وتعمل على تمرير مخططاتها وفرضها على حكومات بلدانها بطريقة ديمقراطية طبعا (لكنها ديموقراطية يراد منها خلاف ذلك) ومادامت قادرة على اللعب في الديار الخالية فلا جدوى من التنطع بتلك الكلمات والعبارات الفارغة التي ظل يحفل بها القاموس العربي: القومي والديني واليساري وحتى الديمقراطي.
وفي الوقت الذي فشلت القوى الديمقراطية الغربية في بناء جسور التعاون مع الشعوب الإسلامية، فإن قواها المعادية أحرزت نجاحا منقطع النظير في بناء تحالفات مع جهات إسلامية ذات نزعة معادية للديمقراطية، وقد أسفر هذا التحالف بعد الحرب العالمية الثانية على إنشاء أنظمة استبدادية ذات نسق مافيوي، اتخذت من القومية والدين والاشتراكية مرجعيات وصفتها بالشرعية واتخذت منها أقنعة لممارسة جرائمها باسم السياسة. وقد استثمر هذا التحالف الخصوصيات الثقافية وجعل منها وسيلته المثلى لتعطيل الديمقراطية والتفريق بين الغرب والمسلمين. وقد نجح إلى حد ما في تقديم الإسلام كخطر على أمن الغرب ونمط عيشه، وتقديم الغرب كعدو للمسلمين.
على مدى قرنين سعت القوى الديمقراطية والإنسانية إلى تطوير مفهوم دولة الحق والقانون ولا تزال تخوض المعركة في سبيل دولة لا مكان فيها للشطط بكل أشكاله وألوانه، وبالموازاة ظلت القوى الغربية المعادية تعمل على تطوير أساليبها الماكرة، ويمكن القول أن أخطر أسلوب لهذه القوى هو قدرتها على قرصنة المكاسب الديمقراطية وإفراغها من محتواها والمتاجرة بها من أجل مقاصد معادية للحقوق والحريات.
الشارع العربي اليوم هو ساحة لهذا الصراع (صراع القوى الغربية الديمقراطية وحلفائها العرب من جهة، والقوى الغربية المعادية وحلفائها العرب من جهة ثانية)، ويجدر بنا في هذا المقام أن نشير أن تحالف الغرب الديمقراطي مع القوى الديمقراطية العربية لا يزال هشا بينما تحالف المافيا الغربية بالمافيات العربية، وهو تحالف سري أكثر منه علني، كان ولا يزال أكثر قوة وتنظيما وتماسكا ما يؤشر على قدرة هذا التحالف المافيوي على إعادة بناء شبكته بالعالم العربي، ثقافيا، سياسيا واقتصاديا.
أما التطرف الديني فقد ثبت أنه ينشط بدعم جهات لا علاقة لها بالدين الشعبي بمبادئه الإنسانية السمحة، وأجندة هذه الجهات تتلخص في استغلاله لضرب استقرار الشعوب.
إن أي تحليل للثورات العربية يغفل هذا السياق سيصب في مصلحة قوى الفساد العالمية التي نجحت في نشر الإرهاب باسم الإسلام وتسعى، اليوم، إلى نشره باسم المسيحية، ولن تدخر جهدا في الدفع بالأحزاب الدينية المتطرفة إلى سدة الحكم من أجل وضْع يخدم مصالحها ويعطل الديمقراطية ليس في العالم العربي فحسب بل حتى في البلدان الغربية نفسها. وبالقدر الذي تعمل قوى الفساد الغربية ضد التغيير الديمقراطي بالبلدان العربية تعمل بالقدر نفسه على إفشال مشروع الاتحاد الأوروبي.
ما هي الديمقراطية؟ وما دور المسلمين؟
تتأسس الديمقراطية على مبدأ الحوار في حل النزاع بدل العنف، والتضامن بدل السيطرة؛ وإن قوة الديمقراطية تكمن في ارتباطها الجدلي والعضوي بالتجارب الحياتية من جهة ومن جهة أخرى، بجعل هذه التجارب في دائرة التأمل العقلاني الإنساني: فلسفيا، أخلاقيا وقانونيا؛ ومن الخطأ كما أنه من التضليل ذلك الاعتقاد أن الديمقراطية تقتضي نوعا متميزا من الوعي يختلف
عن وعي عامة الناس.
إن غياب الكفاءة والعزيمة، والتعالي عن الواقع، وعدم القدرة على الاندماج والتواصل مع المحيط الاجتماعي لدى بعض النخب ظل عاملا من عوامل الادعاء أن الديمقراطية غير ممكنة وأن شروطها لم تتوفر بعد. إن الشرط الوحيد، الشرط المؤسس لأي نظام ديمقراطي هو الدستور المنبثق من صلب الشعب عبر نخبه بكل مشاربها وانتماءاتها وتطلعاتها. و"إن قدرة الإنسان على أن يكون عادلاً تجعل الديمقراطية ممكنة- يقول اينولد نيبور - لكن نزوعه للظلم يجعل الديمقراطية ضرورية". الصراع اليوم بين القوى الديمقراطية والقوى المعادية أصبح أكثر وضوحا، وبدا جليا منذ العقد الأخير من القرن المنصرم، أن الديمقراطية أصبحت محل تهديد. فكلما أحرز الديمقراطيون في الغرب نجاحا على صعيد ما، تجد المافيا الغربية تضرب بعض المكاسب الديمقراطية على صعيد آخر.
أغلب الأصعدة التي انتصرت فيها المافيا الغربية في حربها على الديمقراطية، كانت بفضل استغلالها الماكر للإسلام، وبالتواطؤ مع المافيا العربية، فبالإسلام خلقت تيارات متشددة سممت حياة المهاجرين في ديار الغرب والمجتمع الغربي على حد سواء، وبه خلقت جماعات مسلحة سلطتها على شعوبها العربية... وكل هذا من أجل تبرير المقاربات الأمنية والعسكرية على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ظلت المافيا تقدم للمسلمين أن الإسلام هو أفضل الأديان على الإطلاق وما عداه باطل، وفي ذات الوقت تقدمه للغرب أنه أكثر الديانات تعصبا وإرهابا، ولا مفر من محاربة المسلمين بالوسائل العسكرية، وتشديد الخناق عليهم حتى لا يفسدوا نمط العيش الغربي. لقد شوهت صورة المسلمين في مرآة الغرب كما شوهت صورة الغرب في مرآة المسلمين. إن الجهة التي توعز مثلا لمعتوه غربي كي يتهكم على الإسلام، هي ذاتها من يوحي لمعتوه مسلم كي يغتاله أو يعتدي عليه.
العرب اليوم في مفترق الطرق، فماذا هم فاعلون بدينهم وبخصوصياتهم الثقافية؟؟ لقد رأينا كيف لجأ السفاحون في الأنظمة العربية إلى استغلال الدين، فوصفوا الثورات العربية بالحرب الصليبية، ووصفوا شعوبهم بالخونة والجرذان والعملاء؛ لكن من هيأ لهم المناخ؟ اللذين هيأوا لهم المناخ هم كل أولئك الذين يحشرون الدين في كل شيء ويفرطون في تعميمه على كل المجالات ويبخسون من كل الاجتهادات العقلانية، وظلوا يحاربون بغير وجه حق الديمقراطية والعلمانية والغرب.
لتفعيل التعاليم السمحة في الإسلام، ليس من حل أمام الشعوب المسلمة سوى أن تسحب البساط من تحت أهواء المتاجرين بالإسلام، وأن تنخرط في المعركة الحقيقية لتنقذ نفسها أولا، وبالتالي تنقذ الديمقراطية بمفهومها النبيل ثانيا وتعمل على تطويرها ومن ثمة تساهم في إنقاذ البشرية من المافيا العالمية.
الدولة أداة تخضع للتطور
إن مقاربتي هذه لا تصدر مني كمنتم لأهل الاختصاص، ولا أزعم الإلمام بمناهج وآليات الجدل في ما هو قانوني ودستوري أو سياسي. ولكن، وكمثقف يحاول فهم المعضلات التي تعانيها البلدان العربية، يبدو لي، أن المعضلة في المسار السياسي العربي، كانت ولا تزال في تبني نظريات ومفاهيم دون الإحاطة بالتطورات التي صاحبتها، وقد ظلت "الدولة" و"الديمقراطية" و"المواطنة" و"المجتمع المدني" من المفاهيم الأكثر تمنعا على الفهم، ومرد ذلك في نظري، إلى محدودية الحرية والخيال والإبداع لدى النخبة العربية؛ فـ"الدولة" مثلا، مفهوم مافتئ يتطور، من مكان إلى مكان، ومن زمن إلى آخر، غير أن النخبة العربية بقيت أسيرة فهم نمطي تجاوزه التاريخ.
إن النخبة العربية التي لم تدخر جهدا في نقل المعارف والعلوم إلى شعوبها، واجتهدت وأبدعت وضحى بعض مفكريها ومثقفيها بكثير من الامتيازات حبا في المعرفة، ومع ذلك فكل المحاولات الرامية إلى الإصلاح والتغيير والتجديد اصطدمت بعوائق حالت دون تحقيق أهدافها، كما لو أن السير كان في الطريق الخطأ.
ورد في كتاب "مفهوم الدولة" لعبد الله العروي مايلي: "في بداية القرن الماضي (القرن التاسع عشر)، كان المفكرون يتوخون تمثل –لا نقول تعريف- الدولة العصرية. وكانت الظروف الموضوعية مواتية تماما آنذاك حيث كانت الأحداث تقدم لهم، وبكيفية درامية، صراعا بين فرنسا النابليونية (المثل الإيجابي) وأوروبا الأرستقراطية (المثل السلبي). كانت هكذا المقابلة الضرورية لبلورة الفكر السياسي ظاهرة للعيان.
إن المؤرخين المتخصصين- يضيف كتاب "مفهوم الدولة" يلحون على أن الدولة النابليونية لم تتعارض كل التعارض مع الدول الأوروبية الأخرى، حيث أن نابليون ورث الكثير من تنظيمات الملكية المطلقة، التي لم تستطع الثورة أن تقضي عليها في ظرف وجيز، كما أن بروسيا وروسيا وحتى النمسا عرفت في القرن السابق إصلاحات عميقة تحت ما سمي بالاستبداد النيّر، زيادة على أن تلك الدول استفادت أثناء الصراع من الإبداعات الفرنسية.
إن ما أثار استغرابي في كتاب المفكر عبد الله العروي، هو اقتصاره على أوروبا وبشكل خاص على التجربة النابليونية، ولم يتطرق إلى التجربة الأمريكية ولا إلى التطورات التي انخرطت فيها أوروبا الغربية في إعادة بنائها لمفهوم الدولة ووظيفتها. ولم أفهم سبب هذا التجاهل. لقد اعتمد على عدد من المفكرين الأوروبيين: هيغل، كارل ماركس، فريدريك إنكلز وماكس فيبر...، ولا أستطيع الجزم إن كان هؤلاء، أهملوا أيضا، في أبحاثهم، التجربة الأمريكية.
بعد أن قرأت تاريخ أمريكا، اتضح لي أنها بلد لا يحمل صفة "الدولة"، وأن "الدولة" تختلف لدى الأمريكان مفهوما ووظيفة، وهذا ما جعلهم يبتكرون كيانا اتحاديا، أطلقوا عليه اسم: United States of America، أي "الدول الأمريكية المتحدة". إن المصطلح الانكليزي (State)، المترجم إلى الفرنسية (Etat)، كلاهما يعني (الدولة) وليس (الولاية). ومادام معجمنا العربي يتوفر على هذه الكلمة (الدولة) فلماذا أشاح المترجم العربي عنها، وحرّف اسم كيان سياسي، أثبت التاريخ أنه لم يكن مجرد ولايات؟ يبدو أن المترجم لم يكن مؤهلا، وهو معذور. ولكن أن يتم تكريس هذا التحريف على أوسع نطاق عربي، زمانا ومكانا، فهذا ما لا يمكن استساغته.
إلى غاية 1776، لم تكن هناك مستعمرة واحدة في ظل التاج البريطاني، بل كانت مستعمرات بالجمع، لكل مستعمرة حدودها وعملتها. وهذا يدل على أن تلك المستعمرات كانت دولا ولم تكن ولايات.
- ثارت هذه المستعمرات ضد التاج البريطاني، وفي ذات الوقت دخلت في نقاش حول تصور للكيان السياسي المفترض تأسيسه عند الاستقلال، وبلا شك أنها عندما ارتضت الاتحاد، فإنما اتحدت كدول في نظام فدرالي، وهي بذلك دول متحدة، إذ لا يعقل أن يكون الاتحاد بين الولايات. فالجزائر مثلا تتكون من ولايات، والمغرب أيضا، فهل هذا يعني أن الجزائر أو المغرب "ولايات غير متحدة"، فلا معنى أن نسمي دولة ما بالولايات المتحدة، فكل الدول القطرية هي متحد من الولايات.
- يبدو أن المؤسسين الأوائل للدول المتحدة الأمريكية، كانوا يتمتعون ببعد النظر وبعبقرية تجاوزت نظام الدولة الوطنية كنمط سياسي أوروبي في تلك المرحلة، فاجتهدوا وأبدعوا دستورا ديمقراطيا متطورا ونظاما مختلفا، تمثل في نظام فدرالي، أصبح في ما بعد محل استلهام عدد من البلدان. كان هدفهم تجاوز نظام الدولة إلى نظام الفدرالية (اتحاد اندماجي لمجموعة من الدول، كل دولة تحافظ على استقلالها، وفي الوقت ذاته، تخضع للحكومة الفدرالية).
- البند العاشر من القانون يقول: "إن هذا الاتحاد يبقى مفتوحا على كندا" وكندا ليست ولاية، بل دولة. وما دام الأمر كذلك فهذا يعني أن الاتحاد كان مفتوحا على أي دولة في الجوار. وحتى إذا سلمنا أن "الولاية" مفهوم متكافئ مع نظيره الانكليزي "State"، فلماذا العرب وحدهم يصفون أمريكا بـ"الدولةّ"؟ السبب هو أنهم لم يدركوا التحول الذي خضع له هذا المفهوم، ولم يستسيغوا كيف تكون هناك "دولة" بلا جيش وعملة وتمثيل دبلوماسي، ولم يدركوا أن الحكومات المحلية يجب أن تكون أكثر قربا من الشعب، ومهمتها الأساسية هي الانشغال بمصالح الشعب، وما عدا ذلك فهو مهمة الحكومة الفيدرالية؛ فمفهوم "الدولة" الذي استقر في أذهاننا، ولم نقبل بغيره بديلا، هو "الدولة القطرية" الوطنية، وهو مفهوم بائد، وهذا ما جعل أوروبا تعمل من أجل التخلص منه.
الخطاب العربي، السياسي والإعلامي، يستعمل، دون تدقيق، كلمة الدولة، بمناسبة وبدون مناسبة، ولا يستعمل كلمة "البلد" و"القطر" إلا نادرا، كما نجد تعابير من قبيل "المنتظم الدولي" و"القانون الدولي" و"العلاقات الدولية" و"مجلس الأمن الدولي" وهي تعابير، يبدو لي، خاطئة، ومن المحبذ أن نستعمل بدلها صفة "الأممي" أو "العالمي". فالمؤسسون للفدرالية الأمريكية عمقوا من مفهوم الدولة على مستويين:
- المستوى الأول/داخلي/ جزئي: وهو أن تتخفف الدولة من بعض الأعباء، حتى تتفرغ للمواطن وانشغالاته وتكون قادرة على تدبير وتأثيث محيطه الحيوي القريب، وذلك من خلال حكومة محلية تدير شؤون الدولة، باعتبار الدولة جزء مستقل عن باقي دول الفدرالية وفي الآن داته، جزء لا يتجزأ من البلد.
- المستوى الثاني/خارجي/ كلي: ومعنى ذلك، لا يمكن للدولة أن تنجح منفردة في تحقيق المقاصد المنوطة بها، وهذا ما يحتم عليها الانتماء إلى دول أخرى بالمواصفات ذاتها وهو اتحاد اندماجي قائم على التضامن والتعاون، يكسبها المنعة والقوة إزاء الأخطار الخارجية (اتحاد الدول الأمريكية نموذجا، الذي اشتهر لدى العرب بالولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، ومن قبلهما المملكة المتحدة).
ويبدو أن النخبة العربية، لم تنتبه إلى هذه التطورات ما جعلها تنظر إلى أمريكا كنظرتها لأي دولة، ولم تستسغ أن هذا الكيان هو "دول متحدة" فاكتفت بتسميته "ولايات متحدة". الدول الأوروبية، وبعد الحرب العالمية الثانية، انخرطت في بناء اتحادها عبر إعادة بناء فهمها للدولة في ضوء التجربة الأمريكية؛ حيث عملت على مستويين:
الأول: إعادة الاعتبار للشأن الجهوي والخروج من سياسة التمركز.
الثاني: العمل على بناء اتحاد البلدان الأوروبية.
الشارع العربي ضحية نخبه
الدولة، في ضوء التجربة البشرية، أداة لها بعد وظيفي، ووظيفتها هي أن تخدم جهة ما، وقد ظلت على مدى الزمن تخدم الطبقة الأقوى، وبالموازاة لم تتوقف الفئات المقهورة عن الثورة من أجل دولة تخدم مصالحها، لكن سرعان ما تقرصن قوى الفساد شعارات الثورة وتضخها في رصيدها، وتمسك من جديد بزمام السلطة. لم تدخر القوى الإنسانية المستنيرة جهدا في ابتكار بدائل تنتصر للحق وللفئات المقهورة، وتقلص من نفوذ القوى المعادية للإنسان. شعوب البلدان الديمقراطية استفادت أكثر من غيرها من النضال الفكري الإنساني.
في زمننا الراهن، هناك مفاهيم ونظريات إنسانية أكثر عمقا وصلابة قابلة للاندماج في الحياة العصرية وقادرة على تحقيق المقاصد الإنسانية للسياسات الديمقراطية (نظريات ومفاهيم الأيكولوجيا العميقة وعلم الاجتماع البيولوجي، تمثيلا لا حصرا).
إن هذا الفهم العربي القاصر، تولد عنه جهل بالسياسة والتاريخ، كما تولد عنه تعسفٌ على المفاهيم والنظريات وانعكس ذلك على جميع المجالات وأحاط بحالة من الالتباس والارتباك كل المشاريع النهضوية والإصلاحية والاتحادية العربية، مما حرم الشعوب العربية من الاندماج في عصرها والتمتع بثروات بلدانها. فنظام الحكم الديمقراطي يحتاج إلى مشروع حضاري متكامل، يستمد قوته من عمق رؤيته الدستورية للإنسان ومحيطه، وترويضه للدولة مفهوما ووظيفة.
الشارع العربي اليوم ينتفض ضد الأنظمة التي حرمته من الحريات والحقوق، وقد أبلى بلاء سلميا، من أجل هذا المقصد، في حين تعاطت الأنظمة مع انتفاضته باستخفاف، وأحيانا بشكل همجي؛ بينما النخب بدت شبه عاجزة عن مواكبة هذه الانتفاضات وقاصرة عن ابتكار بدائل ديمقراطية كفيلة بتحقيق حلم الشارع، كما دخلت على الخط تيارات غامضة متطرفة قد تشوش بتدخلها اللاعقلاني على شرعية هذه الانتفاضات.
السؤال: في ضوء ما تقدم، لماذا لم تتمثل النخب العربية المؤمنة بالتغيير، بشكل صحيح مفهوم الدولة الحديثة؟ وهل تتوفر ثورة الشارع العربي، على الشروط المؤسسة للدولة المنشودة؟
- المغرب، من وجهة نظر عدد من المهتمين بالشأن العربي، يشكل استثناء، ويبدو مؤهلا أكثر من غيره للانخراط في إصلاحات سياسية عميقة، تجعل منه بلدا ديمقراطيا. إلى غاية التاسع من مارس 2011، تاريخ الخطاب الملكي القاضي بضرورة الإصلاحات الدستورية، كان الشباب المغربي من المتحمسين للتجربة المغربية التي تجسدت في المبادرات الملكية (المصالحة والإنصاف، الحكم الذاتي للصحراء، الجهوية الموسعة، الدعوة الملكية إلى الإصلاح الدستوري)، غير أن شعورا بالخيبة انتابه جراء الطريقة التي تمت بها الإصلاحات الدستورية والتعامل المريب مع احتجاجات حركة عشرين فبرايرP
فهل يحتاج المغرب إلى دستور بالمعنى التقليدي والنمطي المتعارف علية لدى بعض البلدان الديمقراطية؟ أم هو في حاجة إلى دستور مختلف يتوفر على قابلية التجدد والانفتاح على كل ما من شأنه أن يخدم الصيرورة الإصلاحية الطامحة إلى خدمة الإنسان في بعده الكوني؟ حيث يخلق شروط حوار شجاع يفرض على قوى الفساد أن تتراجع طوعا إلى الصف الخلفي، كما يأخذ في الحسبان تاريخه العريق وانتماءاته المتعددة (الإسلامية، العربية، المغاربية، الإفريقية والمتوسطية)، كما يأخذ في الحسبان الاستراتيجي، المخاضات التي يعيشها محيطه العربي وآفاق الاتحاد الأوروبي.
هل النخبة التونسية والمصرية والليبية، بكل مرجعياتها السياسية والأيديولوجية، وقبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع، قادرة على الحسم دستوريا في الثوابت الكفيلة بالتأسيس لبلد ديمقراطي؟ (بلد وليس دولة باعتبار أن البلد قد يكون متحدا من الدول بمفهومها الحديث). أطرح هذا السؤال لأن الجدل السياسي، في مصر وتونس، تهيمن عليه ثلاث نزعات على الأقل: القومية والإسلامية والاشتراكية، وكلها تُنظِّر للدولة الوطنية من منظورها الخاص، في وقت أصبحت الدولة الوطنية نموذجا متجاوزا.
في ليبيا مثلا، تحدث الإعلام عن مؤتمر سكان المناطق الشرقية في مدينة البيضاء، الذي ضم العديد من القبائل الليبية المنعقد يوم 1 – 10 – 2011، وقد تعرض لهجمة إعلامية و تظاهرات في مدينة البيضاء إبان التحضير له خوفاً من الدعوة إلى الفدرالية. فهل النظام الفدرالي خطر على الشعب أم على أعداء الشعب؟ وكيف تسرب إلى الذهن العربي العام أن النظام الفدرالي نظام يجب محاربته؟
هل من الحكمة أن تبقى النخب العربية أسيرة تفكير محلي ضيق أم أنها مدعوة إلى الانخراط في المعركة الديمقراطية في بعدها العالمي ضد قوى الفساد والاستبداد؟ هل من الحكمة أن يبقى الإسلام على الطرف النقيض من المشروع الديمقراطي أم أن النخب الإسلامية مدعوة لإنقاذ الديمقراطية التي أصبحت محل تهديد حتى في البلدان الغربية نفسها؟
واقرأ أيضاً:
القذافي مجنون أم مجرم أم ذا وذا؟ / الحكّام أم الشعوب.. مرضى نفسيا؟! / لا تشتمونا لسنا كالقذاقي!