الكاتب: رضا العشماويالبلد: مصر - الكويتنوع العمل: قصة قصيرةتاريخ الاضافة 11/03/2012 07:38:41 تاريخ التحديث 25/07/2019 00:05:58 المشاهدات 5004 معدل الترشيح
لحظات بطيئة متثاقلة تمرُّ من الزمن، أو بالأحرى فإنَّها لا تمر!
لا يدري على وجه الحقيقة؛ هل توقَّف الزمن فتلاشت معه الأصوات واحتبست الأنفاس وتجمَّدت الصور والشخوص؟! أم أنَّ مجهولاً قديرًا كان يعبث بجهاز التحكُّم في الزمن؛ فراح يضغط لاهيًا على أزراره؟! يضغط زر التشغيل للحظات مبتسرة، ثم ينتقل إلى زر التقديم السريع، ثم إلى زر الاسترجاع، ثم إلى التقديم مرَّة أخرى.. وهكذا دواليك في لهو متصل بلا كلل! هكذا شعر في تلك اللحظات التي لا يدري حقيقة امتدادها في الزمن، وقد وقف أخوه الأكبر على بابه بعد أن طرقه في عنف وقد تصلَّبت ملامح وجهه، ليقول له كأنَّه يرمي رأسه بصخرة عظيمة فيشدخه: - انزل يا حبيبي.. أبوك مات!
تنطلق الصخرة العظيمة من يد أخيه فترتطم برأسه في قوَّة فتشجُّه، يستشعر خيوط الدماء لزجة دافئة وهي تتلوَّى في بطء فوق جبهته لتجتمع فوق أرنبة أنفه، وتمرُّ ثقيلة من بين شعرات حاجبيه الكثيفة نازلة على جفنيه؛ يشعر برغبة مستفزَّة في الحكاك! قبل أن يفيق من الصدمة والألم، تعيد اليد العابثة الصخرة العظيمة إلى يد أخيه مرَّة ثانية في سرعة، لتندفع مرة أخرى باتجاه رأسه فتحطِّمه! وهكذا.. مرَّات ومرَّات! يحاول أن يتجاوز تلك اللحظة المؤلمة الآسنة إلى اللحظة التالية؛ لعلها تكون أقلَّ إيلامًا وركودًا، ولكن كأنَّما ضُرب بينه وبينها بسور مصمت عال لا يستطيع اجتيازه! أخيرًا جدًّا شعر بأنَّ جسده قد بدأ يتحرَّر قليلاً من خدره، كأنَّ أحدهم قد زجر الطفل العابث فكفَّ فجأة عن اللعب بجهاز التحكم! تحرَّك سريعًا طاويًا درجات السلم التي أحسَّ بأنها تنبسط أمامه كأنَّها بلا نهاية؛ أو كليلٍ لا أمل معه في صباح!
أثناء اندفاعه يرى أحداثًا باهتة مشوَّشة من حوله، شخوصًا تتحدث، لكنه لا يسمع شيئًا، على الدرجة الأخيرة يرى أحد أطفال أخيه ملوِّحًا بذراعيه في الهواء وهو يبكي في ضيق ويدفع والدته في هيستيريا. أمُّي تقف على باب غرفة والدي تبكي، شفاهها تتحرك بكلمات تصل إلى أذني كأنَّها تمتمة، لا أدري إلى أية لغة تنتسب! كأنَّ كلَّ ما يدور من حولي مشاهد من رؤيا قديمة غامضة! وصلتُ إلى الجسد المسجَّى في سكون واستسلام.. آه! كم هو مؤلم هذا الصمت، ذاك السكون، وذلك الاستسلام البارد! اشتقتُ لحظتها لصراخ والدي!
للمرَّة الأولى في حياته يدرك أنَّ المرء قد يحنُّ للصراخ والشجار، نعم.. اشتاق لصراخ والده وشجاره! اشتاق لكل عاداته؛ حتى المقلق منها! اشتاق لنحنحته الصاخبة وكحته الجافَّة، اشتاق لعناده وعصبيته، اشتاق لتوبيخه له لأتفه الأسباب، واشتاق لمزاحه الثقيل حينما يريد مصالحته! يتلفَّت حواليه في ذهول.. رائحة الموت تلتصق بكل شيء في الغرفة، بالسرير والغطاء والوسائد، بكراسي الغرفة، والتلفاز الصغير الموضوع في جانب منها، بالكاسيت (الناشيونال) القديم المتهالك الذي حمله معه بعد عودته من العراق، والراقد بجواره كأنَّما يبكي في صمت ينعاه! بذلك الدولاب الذي بلا مرآة، والذي صبغه منذ فترة قريبة بلون بني كئيب؛ فبدا كأنَّه ميت آخر يُحتضر في عالم موازٍ!
رفع الغطاء واحتضن الجسد الراقد محاولاً اقتناص لحظات أخيرة من الألفة، تسرَّبت الأحاسيس من بين ضلوعه كماء يسرب من بين الأصابع! لم يشعر بشيء سوى اللوعة! طالع وجه أبيه، دقَّق في ملامحه، رآه كشخص آخر غريب عنه، اقترب أكثر، مسح على رأسه وقبل جبينه، لم يشف الأمر غليله، تحجَّرت الدموع في عينيه ألمًا!
ما الذي اختلف؟! لا يدري! ربما هو ذلك الاستسلام المقيت الذي لم يعتد أن يري والده عليه، تذكَّر ما قرأه من أن الروح هي مصدر الأنس في الإنسان، وأنه بفقدها يفقد الأنس به حتى من أقرب أقربائه! آه أيها الموت! ما أقساك! ما أقساك حين تطرق بيدك الغليظة الأبواب! أبوابنا نحن! مهما قدَّمت بين يديك من رسل ونذر.. ما أقساك! أيها الموت! حين تتسلَّل في بطء وخفاء.. ما أقساك! حين تفجؤنا في تبجح وجفاء.. ما أقساك! ما أقساك أيها الموت على كل الوجوه! جذبته يد رقيقة فأعادته إلى الواقع التعيس المقبض مرَّة أخرى..
- يجب أن نسرع بترتيبات الجنازة! نظر إلى الحامل المعدني البارد القبيح الذي تمدَّد عليه والده عاريًا إلا من قطعة من القماش الأبيض؛ فأحس بأن والده قد ازداد بُعدًا، كأنَّما يحثُّ الخطى في طريق مبتعدًا، بينما هو يراوح مكانه تمنعه قوَّة قاهرة من اللحاق به! دثَّروه في تلك الأغطية البيض؛ فتقدَّم خطوات أخرى مُبْعِدًا. ودَّ لو يزيل تلك الأغطية، أو يعود بالزمن إلى الوراء قليلاً، احتضن الجسد الذي بلغت غربته حدًّا أفزعه فبكى بشدَّة، كأنَّه أدرك لتوِّه أنَّه يسير منفردًا في طريق ذي اتجاه واحد إجباري! حملوه ملفوفًا إلى الصندوق الخشبي الأخضر، لم يظن يومًا أن اللون الأخضر قد يبدو قبيحًا إلى هذا الحد حتى رأى ذلك الصندوق يُغلق على جسد والده، الذي أوغل في البُعد! تحركوا به في عجل يحملونه على الأعناق، نظر إليهم في مقت.. كأنَّهم يأخذون منه أحد أشيائه العزيزة عَنْوة!
بعد أن صلُّوا عليه تحرَّكوا بالجسد المستسلم في ذلك الدرب المترب؛ الفاصل بين عالم الأحياء وعالم الموتى في بلدتهم الريفية الهادئة، طريق طويل.. ما أقصره! الغبار يتصاعد والأقدام تتزاحم فيزداد شعوره بالاختناق، ويتنامى شعوره بالفقد كلما تقدَّم خطوة في ذلك الدرب المترب. وصلوا إلى مقبرة العائلة، والده أول الوافدين من أسرتهم الصغيرة على تلك المقبرة الجديدة، وحشة مضاعفة بعضها فوق بعض! أحسَّ بالأسى من أجله، فدعا الله أن يؤنس وحشته.
- أصبح لنا في تلك المقابر عظام! حدَّث نفسه بينما يتقدَّم ناحية الشقِّ المقيت الذي صنعه الرجال في جوف الأرض، بدا له الموت كوحش أسطوري، فاغرًا فاه في سعادة ليلتقم ذلك الجسد المستسلم حتى آخر حدود الاستسلام! حين ألقموه الجسد وأسلموه إليه؛ بدا له كأنَّه يضحك مقهقهًا في سخرية من ضحايا يقدِّمون بين أيديهم ضحية! نظر إلى الناس وهم ينصرفون في عجل ويطالبونه بالانصراف؛ بدت له وجوههم ساعتها تقطر نذالة ولؤمًا، تخيَّلهم كقوم بدائيين قدموا لتوِّهم جسد والده المسكين قربانًا لإله أسطوري مكذوب، وها هم في رهبة مكبوتة يفرون هاربين بجلودهم.. إلى حين! التصق بالقبر وراح يمسح عليه في عطف باكيًا وقد دُفع إلى حافة الانهيار، جدُّوا في وضع اللبنات فوق القبر ثم أهالوا عليه التراب؛ فشعر بأن غربة الجسد قد اكتملت.. يقولون لا تبعد وهم يدفنوني وأين مكان البعد إلا مكانيا
عادوا إلى بيوتهم أجمعين، وبقي هو لحظات قبل أن يستسلم لأيدي بعض أقربائه التي انتزعته من جوار القبر الذي التصق به، ليعود هو الآخر إلى البيت الذي كان منذ سويعات بيت والده! حين اقترب من البيت نظر إلى شباك غرفة والده من الخارج وقد اندفعت الستارة خارجه، رآه كفم موارَب تدلَّى لسانه وقد أسلم صاحبه الروح لتوِّه! دخل الغرفة، نظر في ولهٍ إلى أشياء والده الشاخصة في أسى، كأنما أخذت روحه معها كلَّ مظهر من مظاهر الحياة كان فيها. أخيرًا.. جفَّف دمعه وقرَّر الخروج ليواسي والدته الحزينة.
اندفعت ناحيته طفلته الصغيرة، دفعت باب الغرفة في عنف ليس من طبعها، ونظرت إلى سرير جدها الذي لم تعاشره سوى لأيام قليلة، ثم قالت مندهشة في تلقائية الصغار: - ما فيش جدو! فانهمرت الدموع للمرَّة العاشرة!