"كَانَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه إِذا مَشَى أسْرع، وَإِذا قَالَ أسمع، وَإِذا ضرب أوجع، وإذا حكم أبدع، وإذا قرأ أدمع ، وإذا أطعم أشبع ، وإذا استشفع شفعّ" .
أنا لا أعرف صاحب هذا القول الذي وصلني من الصديق "أحمد العقدة" تعقيبا على ما كتبته عن ذكاء الرؤساء، وشعبيتهم إلخ، توقفت عند وصف "إذا حكم أبدع" ياه!! أنا أحب عمر بن الخطاب، ومثل كل حبي للزعماء والقادة والصحابة، أتحفظ ولا أقدس.
أنهيت مقالي السابق في الموضوع بتساؤل يقول: كيف نأمل أن يتمتع رئيس ما بالقدرة على الإبداع بعد أن عرفنا أن الإبداع ليس مرادفا للذكاء، وأنه متغير مستقل عن الكاريزما؟"، واليوم أحاول البدء بالرد على السؤال جزئيا:
أبدأ بتوضيح ما أقصده بالإبداع حتى لا يذهب فكر القارئ إلى غير ما أردت، فالإبداع الذي أقصده ليس أن ترسم لوحة، أو أن تكتب رواية، وإنما أنا أعنىي الإبداع "أي تغير نوعي، يختلف عن المألوف، وعادة عن المتوقع، إلى أعلى، ومن هذا المنطلق أعتبر كل شخص ينام ويصحو، مختلفا، أنه أبدع نفسه، النوم نبض حيوي، يتناوب فيه النوم الحالم (نوم حركة العين السريعة)، مع النوم غيرالحالم (المرحلة الأطول) وهو بذلك إبداع منتظم حبانا الله به، بمعنى يصل إلى إعادة الولادة، مصداقا لدعوة المسلم وهو يستيقظ "الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور"، إذن فأي واحد منا مبدع كما خلقه الله حتى يثبت العكس، فما أطلبه من الرئيس، وللرئيس، هو أن يحافظ على هذه النعمة وينميها لصالح شعبه، ولصالحه.
الثورة إبداع جماعي، تبدأ بتحطيم القديم، فيتفكك القديم قبل أن يحلال جديد، فيلزم إعادة التشكيل، تماما كما يحدث للفرد أثناء النوم الرئيس الذي يستلم العهدة، فيحافظ عليها كما هي، أو يكتفي بأن يحسنها ثم يبالغ في اللعب في الهوامش حتى تتجمد منه، هو رئيس معقول، مجتهد أو كسول (مريح نفسه)، يشكر إن سلمت معه، إذ ليس مطلوبا من كل رئيس أن يكون مبدعا بنفس الدرجة، من حق الرئيس أن يتمتع بالطور الذي وجد أنه يحذقه أكثر، شريطة ألا يترسخ التكرار وتثبيت الثابت حتى تتوقف الحركة، وتتضاعف السلبيات، كما حدث لنا، حتى احتاج الأمر إلى اقتحام إبداعي جماعي، وهو ما يسمى الثورة.
عبد الناصر كان مبدعا بكل معنى الكلمة، اقتحم، وغامر، واختلف، وخاصم، وأقدم على قرارات غير متوقعة، بتوقيتات غير تقليدية، وكان كلما تهددت إنجازات إبداعه كان يقفز مقتحما، حتى نفسه، لينتقل إلى نقلة نوعية تعلن حفاظه على حركيته على حساب أي حل تقليدي معطل، وكان إبداعه –بداهة -ممتزجا بطبعه، ووعي شعبه، وطموحاته، (مثل كل إبداع)، وأيضا كانت لإبداعه مخاطره ومضاعفاته التي دفع ثمنها، ودفعناه معه.
السادات كان مبدعا، بطريقته، وكان إبداعه أيضا متسقا مع شخصيته، وتاريخه، ومغامراته، وناسه، وذكائه، وشجاعته، ولؤمه (الفلاحي الأصيل)، وفعلها بكل تفرد وإقدام، (سياسات الصدمات الكهربية) ودفع هو أيضا ثمن أخطاء إبداعه وخطورة مغامراته ومضاعفاتها، ودفعناها معه.
مبارك لم يكن مبدعا إلا مثل الشخص العادي، ولعلنا كنا نحتاج إلى فترة بناء والتقاط أنفاس، فجاء دوره مناسبا حتى "يهدّي اللعب"، فراح يضرب على وتر الاستقرار وبالغ كثيرا حتى توقف النبض أو كاد من فرط الاستقرار الذي إذا فرض من أعلى كان أبشع وأكثر إماتة، لكن واكب هذا الاستقرار أن غاب العدل،لكن علينا أن نعترف أن مبارك أنجز بالاستقرار ما لم يكن يمكن، ولا هو يستطيع، إنجازه لا بالكاريمزما القومية، ولا بالصدمات الكهربية، لكن طالت فترة الجمود حتى خمدت الحركة، وزاد الظلم والغباء والاستهانة بل والاحتقارحتى كدنا نيأس من أية حركة إبداعية تالية.
هكذا انطلق الشعب –ولو حتى بأنه انتهز الفرصة بفعل فاعل -يقوم بنفسه بمهمة الإبداع الذي سمي مشروع ثورة، فحل الإبداع الجماعي محل الإبداعات الفردية الرئاسية المتناوبة مع الاستقرار الخامد المنتج بلا عدل، وقد أنجز الشعب مرحلة التفكيك، لكنها طالت وانتقلت منه إلى مرحلة الفوضى (وهي جزء من العملية الإبداعية) ثم طالت هذه المرحلة، وتشوهت، وأفرزت مضاعفات كادت تنتقل بالإبداع إلى عكسه، وهو التفسخ بلا رجعة، لكن –والحمد لله –لملم الشعب نفسه بإبداع جماعي آخر في العناية المركزة.
أليس من حقنا أن نأمل في القائد القادم أن يستوعب كل ذلك، وأن نرى منه حلولا غير تقليدية، وهو يسعى إلى استقرارا غير ظالم ولا خامد، دون أن يفقد حقه وحقنا في حلول إبداعية غير تقليدية، بدءا بالاستقلال الاقتصادي، الذي يسمح للشعب أن يعود يواصل مشواره لإبداع الحضارة التي يحذق لعبتها حتى لوكانت غابت عنه طويلا؟
(ملحوظة: محمد علي باشا كان مبدعا، والخديوي إسماعيل كان مبدعا، لكن لا الخديوي توفيق ولا الملك فؤاد كانا كذلك).
ربنا يستر!
السبت، 29 -3-2014
واقرأ أيضاً:
أخبار اليوم تظهر في زفتا وتشكيل وعي الصغار / تسابيح رمضانية / الدين لله والوطن لله والجميع لله / التآمر هو الحل !!!