تعيشُ البلاد العربية حالةً شبيهة بما حدث في مطلع القرن العشرين من إعادة رسم الخرائط السياسية والجغرافية لبلدان المنطقة، في ظلّ الهيمنة الخارجية عليها وعلى مقدّراتها، لكن مع إضافة العامل الإسرائيلي الكائن في قلب الأمَّة العربية، والذي أصبح فاعلاً في العديد من مجريات الأحداث الراهنة بالمنطقة. وهناك الآن أيضاً حالـةٌ فكريّـة وسـياسـيـة مماثلـة لحال العرب آنذاك، من حيث انعدام التوافق على مفهوم "الأمّـة" والهويّـة المشـتركـة، وأيضاً ضعف الانتماء الوطني وانعدام مفهوم المواطنـة، بينما تحضر بشـدّة الانقسـامات الداخليّـة على أُسـس طائفيّـة وقبليّـة وإثنيّـة.
لقد بدأ القرن الحادي والعشرون بحربٍ أمريكية على الإرهاب برّرتها أعمال الإرهاب التي حدثت في الولايات المتحدة عام 2001، لكن ساحات هذه الحرب الأمريكية كانت البلاد العربية والإسلامية، والقُوى المشاركة فيها شملت العديد من الدول الغربية، ممّا أعاد للذاكرة العربية ما حدث في مطلع القرن الماضي من استعمارٍ واحتلالٍ وهيمنة أوروبية على المنطقة العربية، ومن تقسيمٍ للأرض والشعوب العربية، حيث قامت كياناتٌ ودولٌ متصارعة على الحدود فيما بينها، بينما هي أحقُّ بأن تكون أمَّةً واحدة ذات كيانٍ سياسيٍّ واحد، كما هي أمم العالم الأخرى.
أيضاً، هل ما يحدث الآن في العراق وسوريا ولبنان وليبيا وغزّة، ينفصل عمّا حدث قبل ذلك في العراق عام 2003 من احتلالٍ وتفكيك لوحدة الشعب والكيان، وما جرى في السودان أيضاً في العام 2011 من فصلٍ لجنوبه عن شماله؟! ومن نجاح المقاومة في لبنان وغزّة في مواجهة وطرد الاحتلال؟ وهل توريط الجيـش المصري في صراعات عنفيـة داخليـة مسـألـة منعزلـة عمّا حصل مع جيـش العراق، ويحصل الآن مع جيـش سـوريا؛ وهي الجيوش العربيـة المسـتهدَفـة إسـرائيلياً منذ حرب عام 1973؟!
للأسف، تتحقّق الآن مشاريع غربية لعددٍ من بلدان المنطقة تقوم على إعادة تركيبها بأُطر سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل "الفيدرالي الديموقراطي" لكنّها تتضمّن بذور التفكّك إلى (كانتونات) متصارعة في ظلّ الانقسامات الداخليّة والدور الإسرائيلي الشغّال، في الجانبين الخارجي الأجنبي والمحلّي العربي، لدفع الواقع العربي إلى خدمة المشاريع الإسرائيلية بإشعال حروبٍ أهليّة عربيّة شاملة تؤدّي إلى ظهور دويلات تحمل أسماءً دينية وإثنية، كإعلان اسم "الدولة الإسلامية" الآن، وهو ما سيُبرّر الاعتراف (بإسرائيل) كدولةٍ دينية يهودية.
(فإسـرائيل) هي في قلب المنطقـة العربيـة، ولها طموحات إقليميّـة تتجاوز حتّى المشـاريع الأمريكيـة والغربيـة عموماً، رغم توافق المصالح أحياناً مع هذه القوى. ولا يُعقل أن تكون (إسـرائيل) فاعلـةً في أمريكا وأوروبا وإفريقيا وشـرق آسـيا، ولا تكون كذلك في محيطها الإقليمي الذي منـه انتزعت الأرض، وعليـه تريد بناء إمبراطوريتها الخاصّـة..!!
وكم هو مؤسفٌ أن تكون الخيارات الحالية للمنطقة قائمة على واحدٍ من مشروعين فقط: مشروع "نظام شرق أوسطي جديد" دعمته واشنطن منذ حُقبة التسعينات، ويحاول صياغة كيانات عربية جديدة تقوم على الفيدرالية المقسّمة للداخل، وعلى التطبيع مع (إسرائيل) وعلى إنهاء حالات المقاومة، أو الخيار الآخر وهو المشروع الإسرائيلي الداعم لحروب أهلية عربيّة تُهمّش القضية الفلسطينية وتبني الدويلات الدينية، ويحصد نتائج الزّرع الحاصل في المنطقة خلال العقدين الماضيين حيث امتزجت فيهما عناصر ثلاثة تنخر الآن في الجسم العربي، وهي: ضعف وترهّل الأوضاع العربية، مع حضور التدخّل الأجنبي الإقليمي والدولي، ومع انتشار "السرطان الصهيوني" داخل هذا الجسم! فهذه هي الأبعاد الثلاثة في المأساة العربية الراهنة، وحيث كلّ عنصرٍ منها يخدم ويُفيد العنصر الآخر.
إنّ احتلال أيّ بلدٍ في العالم لا يكون ناجماً عن قوّة المحتل وجبروته فحسب، بل أيضاً عن ضعفٍ في جسم البلد الذي خضع للاحتلال، وهو أمرٌ بات يُعرف بمصطلح "القابليّة للاستعمار أو الاحتلال". وبالتالي فإنَّ كلاً من العنصريْن (قوّة الغازي وضعف المغزوّ) يؤدّي إلى تقوية الآخر. هكذا كان الحال في الحروب العربية ــ الإسرائيلية، وما سبقها في مطلع القرن العشرين من حُقبة الاستعمار الأوروبي عقب الحرب العالمية الأولى. ومواجهة الاحتلال لا تكون بالمواجهات العسكرية وعمليات المقاومة ضدّ الجيش المحتل فقط، بل أيضاً (وربّما تكون هذه هي المواجهة الأهم) في إسقاط الأهداف السياسية للمحتل، وفي بناء قوّةٍ ذاتيّة تُنهي عناصر الضعف التي فتحت الباب لنير الاحتلال.
لقد ترسّـخت في العقود الثلاثـة الماضيـة جملـة شـعارات ومفاهيم ومعتقدات تقوم على مصطلحات "الإسـلام هو الحل" و"حقوق الطائفـة أو المذهب"، لتُشـكّل فيما بينها صورة حال المنطقـة العربيـة بعد ضمور "الهويّـة العربيـة"، واسـتبدالها بمصطلحاتٍ إقليميـة ودينيـة وطائفيـة.
وهاهي بلدانٌ عربية تشهد صراعات عُنفية داخلية بدأت كحراكٍ شعبي واسع من أجل الديموقراطية، لكن مساراتها تحوّلت إلى اتجاهاتٍ أخرى بسبب عامل التدخّل الأجنبي، والمرض السرطاني الصهيوني وسطه وفي أحشاء الأمّة، وأيضاً، بسبب عدم توفّر العناصر اللازمة لنجاح أي حراك شعبي، وهي وضوح وسلامة القيادة والفكر والأسلوب.
وهكذا تمتزج الآن على الأرض العربية حالات تدويل لأزماتٍ داخلية عربية مع مخاطر تقسيم الأوطان والمجتمعات العربية، وسط رياحٍ عاصفة تهبّ من الشرق الإقليمي ومن الغرب الدولي، ومن قلب هذه الأمّة حيث مقرّ المشروع الصهيوني التقسيمي.
وللأسـف، يعيـش العرب اليوم عصراً أراد الفاعلون فيـه، محلياً وخارجياً، إقناع أبناء وبنات البلاد العربيـة أنّ مسـتقبلهم هو في ضمان "حقوقهم" الطائفيـة والمذهبيـة، وفي الولاء لهذا المرجع الديني أو ذاك، بينما خاتمـة هذه المسـيرة الانقسـاميـة هي تفتيت الأوطان والشـعوب وجعلها سـاحـة حروب لقوًى دوليـة وإقليميـة، تتصارع الآن وتتنافـس على كيفيّـة التحكّم بهذه الأرض العربيـة وبثرواتها.
هناك حتماً أكثريّة عربية لا تؤيّد هذا الطرح "الجاهلي" التفتيتي ولا تريد الوصول إلى نتائجه الوخيمة، لكنّها أكثرية "صامتة" إلى حدٍّ ما، ومن يتكلّم منها بجرأة يفتقد المنابر الإعلامية والإمكانات المادية، فيبقى صوته خافتاً أو يتوه هذا الصوت في ضجيج منابر المتطرّفين والطائفيين والمذهبيين، الذين همُ الآن أكثر "حظّاً" في وسائل الوصول إلى الناس.
وعلى جوار حدود الأرض العربية، تنمو مشاريع إقليمية تستفيد من غياب المرجعية العربية ذات المشروع الضامن لمصالح الأمّة العربية. فلو لم يكن حال الأمّة العربية بهذا المستوى من الوهن والانقسام، لما كان ممكناً أصلاً استباحة بلاد العرب من الجهات الأربع كلّها.
ويبقى أنّ الأمل الكبير هو بعودة دور العقل ومرجعيته في قضايا الدين وفهمه ومعاملاته، وفي دور الشعوب بنبذ التطرّف والمتطرّفين. فهناك الآن حاجةٌ قصوى لوقفةٍ مع النفس العربيّة قبل فوات الأوان، وهناك حاجة إلى فكر عربي جامع يتجاوز الإقليميّة والطائفيّة والمذهبيّة، ويقوم على الديموقراطيّة وعلى نبذ العنف والأخذ بالاعتبار مصالح الناس وتطلّعاتهم في إقرار النصوص والدساتير والقوانين...
هناك حاجةٌ مُلحّة للفرز بين "الثوّار العرب"، لمعرفة من يعمل من أجل الحفاظ على النّسيج الوطني الواحد، ومن يعمل من أجل خدمة مشاريع أجنبية تحقّق مصالح فئوية مؤقّتة...
هناك ضرورةٌ عربيّـة وإسـلاميّـة للتمييز بين من يُقاوم فعلاً في المكان الصحيح، وبالأسـلوب السـليم، الاحتلال الإسـرائيلي وأهدافـه، وفي دعم هؤلاء المقاومين، وبين من يُمارس العنف المسـلّح داخلياً ويخدم سـياسـياً (إسـرائيل) والقوى الأجنبيـة ومشـاريع الحروب الأهليّـة العربيّـة...
هناك حاجـةٌ لبناءٍ تضامن عربي جديد يجمع بين الفهم السـليم للأمّـة العربيـة الواحدة القائمـة على خصوصياتٍ متنوعـة، وبين الولاء للوطن الواحد القائم على أُسـسٍ سـليمـة في الحكم والمواطنـة...
هناك حاجـةٌ للاتفاق على "البوصلـة المشـتركـة"، كأسـاس لإنقاذ الأمّـة من حال الضياع في هذا الزمن العربي الرديء!
واقرأ أيضا:
الربيع العربي أفول أباطرة البلاد وصعود دكتاتوريات الحارات / إرادة العربة!! / إلى الثورات العربية: سر من نظر / دروس من العدوان على غزّة