تعثرات الربيع العربي حصلت وتحصل لأسباب يمكن حصرها، ويمكن التعامل معها، وليست ألغازا، ولا مؤامرات سرية!!
الشعوب التي تحركت ضد عصابات التسلط على الثروة والهيمنة على مقاليد الدول العربية - المختطفة لمصلحة نخب ضيقة - لم تكن تدرك أن نسيج المجتمعات العربية جميعها قد تمزق وتهرأ بسبب ضغوط التفتيت والقهر والاستبداد بدرجاته، وبفعل مغادرة التقاليد، والبنيات الموروثة، مثل القبيلة، والعشيرة، والعائلة الممتدة، مع عدم الإمساك بتلابيب الحداثة، وهي في مساحة تواصل الناس تعني: نقابات المهن، والأحزاب السياسية، والجمعيات المدنية الطوعية!!
وخلفت هذه التشوهات كيانات ومسوخ قد يجتمع فيها أسوأ ما في التجمعات التقليدية من بطريركية وكهنوت، وأسوأ ما في الحداثية من صراعات وتنافسيات ونرجسيات بلا حدود!
وكان مدهشا أن الجماهير التي تجمعت في الشوارع متجاوزة هذه الكيانات المسخ قد عادت مرة أخرى لتتوزع عليها، وتصطف، وتتنافس تحت ألويتها!!
بل كان مدهشا ومزعجا وفارقا أن ما أنجزته الجماهير في لحظة توحد أو تعاون نادرة قد ذهبت تبدده، وهي تعتقد أنها تستكمله عبر تنافسيات السياسة العاجزة عن استكمال الثورات بطبيعتها، وواقع ممارساتها، والمفتتة للنسيج المجتمعي الهش البادئ في التشكل بميادين الربيع من تونس إلى صنعاء مرورا بدمشق وحلب، وليبيا!!
التفسير الجاهز المحبط للناس قدمته ألسنة السوء التي نقلت عن "جوستاف لوبون" وكتابه عن سيكلوجية الجماهير، ومثله كلام "سيجموند فرويد" حيث الإدانة للجمهور الذي تسوده نفسية القطيع، ويتخلى عن العقل والمنطق لمصلحة الفوضى والغوغائية والتخريب!!
والنقل المقتطع من سياقه أغفل الفوارق في الزمان والمكان والأحوال، واكتفي بتسويغ الإدانة بمقتطفات ينتزعها من هنا أو هناك، ولا يكاد يذكر شيئا عن طبيعة المجتمع ولا الدولة، ولا العلاقة بينهما، ولا الخلفية التاريخية، أي عن أية جماهير كان يتحدث لوبون، أو فرويد، أو حنا أرندت، ونموذج الثورات أو الإخفاقات أو المعطيات التي كان هذا أو تلك يتعاطون معها وقتما كتبوا ما كتبوا!!!
تبدو ثورات الربيع إبنة لمكان وزمان ومعطيات جديدة تتعلق بجماهير وأجيال جديدة لم يكلف أحد نفسه بتأمل الجديد فيها، ولا تداعياته، ومن ثم استسلم الكل تقريبا للسير عكس اتجاه ما بدأوه، ثم ذهبوا الآن يتلاومون أو يتشككون أو يتناقضون مع أنفسهم، أو أقوالهم السابقة، بدلا من الاعتراف بالتقصير في شأن دراسة ما جرى ويجري!!
وفي غياب تنظير جديد توقف التطوير، وتحصل الانتكاسات، وستستمر!!
وفي غياب رؤية الممارسات اليومية الجديدة للناس ومحاولاتهم المبهرة للتعلم من أخطاءهم وإبداع معادلات تعامل أكثر فعالية مع معطيات اللحظة، سيكون الإحباط هو سيد الموقف، والفاشية بنت الإحباط، وحزبه الممثل له، ثم نندهش من شيوعها وتناميها، وأغلب أنصار التغيير هم من يشيعون الإحباط أكثر من أعداءه!!
يرى فرانسيس فوكوياما في كتابه (الثقة: الفضائل الاجتماعية، وتحقيق الازدهار): أن الثقة (Trust) هي كلمة السر في انتقال المجتمعات من حال إلى حال، وتطور الدول من وضعية إلى وضعية مغايرة، ويعبر عنه فوكوياما بـ "رأس المال الاجتماعي"، ويعني هذا المفهوم مكونات رأس المال البشري التي تسمح لأعضاء مجتمع ما بالتعامل المشترك في ظل منظومة أخلاقية قوامها الثقة المتبادلة، فالثقة لها أثرها الإيجابي في تحقيق النمو والازدهار في المجتمعات كما وتمثل قوة أساسية للثقافة في خلق مجتمع اقتصادي، وسياسي متماسك ومتجانس فقدرة المجتمع على التعاون، وتعزيز جوانب الثقة في ما بين أفراده من ناحية، والثقة في ما بين الفرد والحكومة، تعزز الرخاء والازدهار في بلد ما. ويرى فوكوياما أنه عندما تزدهر القيم، يتصرف الأفراد انطلاقا من أخلاقيات تعتبر أساسا لبناء الثقة بينهم، وتجعل التضامن هدفا في ذاته، بغض النظر عن المصالح الذاتية. ويؤدي غياب الثقة والتضامن إلى فقدان فرص التقدم الاقتصادي، بسبب ما يطلق عليه علماء الاجتماع: العجز في رأس المال الاجتماعي.
ولا يمكن الحديث عن مستقبل زاهر دون بناء لثقة وتفاهمات وعلاقات تعارف وتفاهم بين أناس يطمحون إلى تغيير، وفي مصر – على الأقل - يتقابل الناس ويتناقشون ويتدربون في هذه اللقاءات على القبول بالاختلاف، وعلى الوعي بالمعطيات اليومية الحالية، ويكتسبون معرفة جديدة، وتنشأ بينهم روابط أعمق من ذي قبل بكثير!!
هذه التجمعات لا يندرج فيها من يؤثرون الانعزال أو يكتفون بمقابلة نظائرهم وأشباههم، ويبهرني أن أغلب من يحرص عليها لا يكاد يرى أنه يمارس أهم خطوة وأرسخ ركيزة تأسيس لأي كلام عن مجتمع، أو جماهير، أو مستقبل!!
واقرأ أيضًا:
مؤتمر حوار الحضارات/ سارة وأخواتها في المؤتمر، ما شاء الله/ مقص السعدني أين بحثي يا مؤتمر؟ مشاركتان/ شكرا سوريا مؤتمر مختلف4/ مؤتمر دمشق لأطباء النفس العرب (3)/ الخميس القادم 24 مارس (مؤتمر هام) 16/3/2005 / على باب الله: وجوه في المؤتمر12 – 13 /3 /2005/على باب الله : الجمعة 25 / 3 / 2005 مؤتمر القاهرة