ساعة ونصف فقط فصلت بين (نتنياهو) وكابوس سياسي لم يسبق له أن عاشه من قبل. نعم، كانت فرحته، وثقته بتشكيل إئتلاف في وقت قصير على المحك، وتشابهت توقعاته بتشكيل إئتلاف حكومي سريع مع تلك التوقعات التي لم ترَ نصراً له في الإنتخابات عشية يوم 17 مارس 2015. ورغم إتصال الكثير من رؤساء الدول والحكومات (بنتنياهو) ليُباركوا له هذا النصر، إلاّ أن ذات العواصم لم تُخفِ إحباطها وتخوفها على مستقبل عملية السلام بعد هذا النصر. استطاع (نتنياهو) تشكيل حكومته بشق الأنفس، وعلى الرغم من أن المنطقة العربية باتت تتجرع حروباً وإقتتالاً، ظل الإعتقاد السـائد لدى جميع السـاسـة العرب والغرب على حد سـواء بأن القضيـة الفلسـطينيـة وحل الصراع العربي ـــــ الإسـرائيلي هو مفتاح حل جميع مشـاكل المنطقـة. ولكن، حتى وإن أراد، هل يستطيع (نتنياهو) أن يصنع سلاماً مع الفلسطينيين!؟
التسعون دقيقة الأخيرة التي جلبت حكومة (نتنياهو) الرابعة وقبل إنتهاء المهلة القانونية التي منحها الرئيس الإسرائيلي (روفين ريفلين) تُلخص جوهر القضية؛ الكاتب (بين كاسبيت) رأى أن ما حدث هو محاولة إغتيال سياسي صريحة مدبرة من وزير الخارجية الإسرائيلي السابق (أفيغدور ليبرمان)؛ فللأخير قائمة طويلة من الأسباب التي تجعله يُفكر في الإطاحة، بل الإنتقام، من (نتنياهو). انتظرَ (ليبرمان) ليترك بضع ساعات قبل إنتهاء المدة القانونية الممنوحة (لنتنياهو) لكي يُعلن إستقالته من منصبه وعدم رغبته في الإنضمام إلى إئتلاف (نتنياهو) الجديد، وذلك لكي يمنع (نتنياهو) من البحث عن أحلاف جديدة، وبالتحديد مع زعيم المعسكر اليهودي (إسحق هيرتزوغ).
ومن هنا أصبح قدر (نتنياهو) السياسي متوقفاً على قرار زعيم حزب البيت اليهودي (نافتالي بينيت)، الذي أنقذ بدوره (نتنياهو) وقبل الإنضمام إلى الإئتلاف في آخر ساعة ونصف من وقت المهلة المذكورة. ومنه، حظيت هذه الحكومة الوليدة الجديدة على أغلبية صغيرة (61 صوت) في الكنسيت، وأصبحت تخضع للكثير من الضغوط والإبتزازات والتحديات. (ليبرمان) هو أحد أهم هذه التحديات، حيث أعلن صراحة أن هدفه الرئيس أصبح إسقاط حكم (نتنياهو) ووأد أية فرصة لنجاحها.
(فليبرمان) يرى أن (نتنياهو) غير قادر على فعل شيء، بل انتقد الكثير من سياساته، مثل عدم وفائه بوعوده بإلغاء الإصلاحات التي تتعلق بالمتشددين (ألترا أورثوذكس)، وقراره زيادة عدد الحقائب الوزارية، ومحاولته إرغام جميع شركاء الإئتلاف التوقيع على شرط ضمان حكم (نتنياهو) الحصري على وسائل الإعلام الإسرائيلية، إضافة لمحاولة إستقطاب (إسحق هيرتزوغ) الذي كان بكل تأكيد سيحل محل (ليبرمان) كوزيرٍ للخارجية. ولكن قد يكون السبب الأهم وراء تشدد (ليبرمان) حيال (نتنياهو) هو إتهامه للأخير بتدبير تحقيقات الشرطة التي فُتحت ضد كبار مسؤولي حزبه قُبيل الانتخابات.
وبعيداً عن أسباب هذا الحُنق الكبير الذي يحمله (ليبرمان) حيال (نتنياهو)، فقد نجح (نتنياهو) بتشكيل حكومة يمينية قومية دينية تتألف من أحزاب (الليكود)، (يهدوت هتوراة)، (شاس)، (كولانو)، و(البيت اليهودي). وحتى يأتي ذلك الوقت الذي يستطيع (الليكود) توسيع هذا الإئتلاف من أجل الحصول على المزيد من المقاعد لتؤهله التخلص من (البيت اليهودي)، تبقى هذه الحكومة مسيطر عليها من الأحزاب الدينية والمتشددة.
هذا الإئتلاف خلق جواً من الأرق وسط الكثير من الأوساط السياسية في العالم أجمع، إلى حد أن وصف بعض المراقبين الغربيين ما حدث بجحيم دبلوماسي وكابوس سياسي قد يضع (إسرائيل) على طريق التصادم مع الولايات المتحدة الأمريكية والكثير من حلفائها. الإنتقادات لم تكن فقط من خارج (إسرائيل)، بل وصلت الإنتقادات شوارع (إسرائيل)، فوصف (هيرتزوغ) ما حدث "بالفشل الوطني".
الكاتب (ألون بن مائير) رأى أن فوز (الليكود) بحد ذاتـه هزيمـة (لإسـرائيل)، مُقللاً في الوقت نفسـه من أيـة فرصـة للسـلام بين الفلسـطينيين والإسـرائيليين في ظل حكم (نتنياهو)، ورشـح أن تلقى محاولات الفلسـطينيين في هيئـة الأمم المتحدة والمنابر الأُمميـة قبولاً أمريكياً ودولياً أكثر من أي وقت مضى. هذه الإستنتاجات تقاطعت تماماً مع تصريحات دولية عديدة، وإنسجمت مع الإحباط الأمريكي من (إسرائيل) بسبب حجم الوقت والأموال اللذان استثمرتهما في عملية السلام دون جدوى. في ذات السياق، لم يُخفِ الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر) غضبه من (نتنياهو)، وشن هجوماً حاداً على الأخير معتبراً أنه سبب فشل جهود وزير الخارجية الأمريكي (جون كيري).
يُدرك (نتنياهو) تماماً هذا الأرق الدولي، لكن ما يهمه هو بقائه في سُدة الحكم، ولهذا لم يكن مستغرباً أن غيَّر موقفه حيال الدولة الفلسطينية أو حل الدولتين خلال أقل من يومين، أي قبل وبعد الإنتخابات؛ فقبل الإنتخابات رفض فكرة إقامة دولة فلسطينية من أجل جمع المزيد من تأييد المتشددين الإسرائيليين، أما بعد الإنتخابات والإطمئنان على نتائجها، بات تهدئه الغرب وتقليل هواجسهم أمراً هاماً يستدعي التصريح بأنه مع حل الدولتين.
هذه الإزدواجية لم تلقَ صدىً كبيراً، فلسطينياً أو حتى دولياً، وهي إن عكست شيئاً تكون قد عكست فداحة مستوى الثقة التي يتمتع بها (نتنياهو) مع شركاء السلام المفترضين (الفلسطينيين)، والراعين المفترضين للسلام (الأمريكيين)، وغيرهم من القوى العالمية الأخرى كالإتحاد الأوروبي وروسيا.
الجميع بات يعلم أن البحث عن السـلام في ظل حكومـة بهذا الشـكل، وبرئيـس لهذه الحكومـة بهذه الصفات، أمراً غايـة في التعقيد؛ فحتى في ظروف أفضل، كان قرار السـلام أمراً معقداً للغايـة في (إسـرائيل). فعندما كان (إسحق رابين) رئيساً للحكومة الإسرائيلية، وكان الشارع الإسرائيلي أكثر إستعداداً لاتفاق السلام، قُتِلَ (رابين) بأيدٍ إسرائيلية لأنه تجرأ على الإقتراب من الخطوط الحمراء، وعلى رأسها مدينة القدس. ومنه، فأي زعيم سياسي إسرائيلي سيُفكر ملياً في العواقب الخطيرة قبل اتخاذ أي قرار يتعلق بقضايا الوضع النهائي كالقدس والحدود واللاجئين.
حتى وإن تغيّرت الصفات الشخصية (لنتنياهو) وتملكته الشجاعة الكافية ليفكر في جلب جميع شركاء إئتلافه نحو السلام، سيجد سداً منيعاً متمثلاً في الكثير من المتشددين داخل (إسرائيل)، وعلى رأسهم (ليبرمان) الذي سيجد مبتغاه وسينقض على هذه الفرصة المواتية لإسقاط حكومة (نتنياهو) ليظهر بمظهر البطل القومي.
في ظل هذه الحكومـة الإسـرائيليـة المتطرفـة تبدو فرص السـلام في أحلك أوقاتها؛ قد يُقنع (نتنياهو) إئتلافـه في الحكومـة بضرورة الإقدام على تحركات تكتيكيـة من أجل إرضاء الحلفاء والأصدقاء الدوليين، أو من أجل وقف نزيف الثقـة بين (إسـرائيل) والمجتمع الدولي، ولكن الأمر المؤكد هنا هو أن هذا التكتيك قد يضمن إسـتمرار آحاديث السـلام أو إحياء المفاوضات لأجل غير معلوم ودون تقديم شـيئاً قد يؤدي في نهايـة المطاف لإسـقاط هذا الإئتلاف الهـش.
واقرأ أيضا:
الهجوم على سورية سقوط الأقنعة!/ ثورات العرب الجديدة: نظرية مؤامرة أم إرادة أمة/ النفق السوري فوضى لاختطاف الربيع أم لبعثرة الأوراق؟