لم يكن ضيق الوقت، هو سبب امتناع الرئيس الفلسطيني "محمود عباس" عن لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" بناء على دعوته التي تقدّم بها أوائل الشهر، من أجل عقد لقاء قمّة، يهدف إلى تشغيل عملية السلام، ولكن لشعوره بأن الدعوة تجيء لتسجيل النقاط فقط، سيما وأنه مرّ بتجارب مخيفة، وأقلها يدل على أن لا جدوى من اللقاء، وخاصة إذا ما بادر إلى تكرارعرض ما لديه من المواقف والشروط أمامه، والتي يتوجب عليه القيام بتلبيتها والإتيان بها أمام العيان، كي يحدث مثل هذا اللقاء ومنها: تجميد الاستيطان، وإطلاق سراح الدفعة الرابعة من أسرى أوسلو، والاعتراف بحدود عام 1967.
الرئيس رجّح خسران هذه النقطة لصالح "نتانياهو" باعتبار أن لديه نقاطاً أخرى رابحة ومنها: الثبات على المبادئ الفلسطينية، والتخوّفات الإسرائيلية الدائمة، وسواء من تفجّر الأوضاع الفلسطينيّة الداخليّة، أو من تزايد العزلة الدولية، ثم توغّل السلطة كـ(دولة) داخل المؤسسات الدولية، ويمكن إضافة الدعم الدولي للسياسة الفلسطينية، برغم تأكّده مرّة أخرى بأن المجتمع الدولي عاجز عن فرض شروط تعيد إسرائيل إلى المفاوضات مع أفق وجدول زمني موثوق به.
وإن وُصِفت هذه النقاط بالجيّدة، لكن ما يضعفها وبشكلٍ مُلاحظ، هو سماحه لمسؤولين فلسطينيين بالاقتراب من طاولة الإسرائيليين المتنقلة بين عواصم عربية وغربية، وعقد جلسات تفاوضية سرّية عليها، والتي امتدت على مدار أربعة شهور متتالية، من غير أن تسفر سوى عن الاستعداد بالبحث عن كيفيّة ترميم الثقة المهدّمة، وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل توقف المفاوضات في أبريل/نيسان عام 2014.
بدا "نتانياهو" بلسانين غريبين ومتضاربين في آنٍ معاً، فبرغم مروره على قبول حل الدولتين، والذي أعلن عنه في خطابه الشهير الذي أذاعه من على منصّة (بار إيلان) المتشددة في العام 2009، بما يعني قبوله بدولة فلسطينية، لكن مع استعماله لسانه الثاني، كان يتضح للكل بأنه يرفض أيّة تحركات تقوم على أساس ذلك الحل، وكان- مثال- قد رفض المبادرة الفرنسية، لمجرّد أن قبِل بها الفلسطينيون، كأساسٍ صالحٍ للبناء عليه، وأوصى بالضغط على الإدارة الأمريكية، للعمل على إزالتها من مداولات الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
يُعتبر "نتانياهو" ناجحاً إلى حد اللحظة، في شأن إدارته لحل الصراع مع الفلسطينيين، والتي يهدف من ورائها إلى إنهاء حل الدولتين، أو دولتين لشعبين، ويعزز ذلك، بما لديه من قاعدة شعبية كبيرة ومتعاظمة، والتي لاتزال تُعطيه المزيد من الفرص في قيادة الدولة، بناء على هذه الإدارة، وقاعدة أخرى لا تقِل كثيراً عن الأولى، وهي التي تكمن في وجهات نظر أمريكية متطابقة مع أفكاره، وخاصة في تلك المتعلقة بمتطلبات الأمن الخيالية، وبالاعتراف الرسمي بدولة يهودية.
ربما في وقتٍ ما، يتم التوصل إلى صيغة مناسبة بشأن المتطلبات الأمنيّة، وإلى صيغة أخرى بشأن الاعتراف بدولة يهودية، ولكن من الصعب أن تقع أعيننا على منطقة نافعة كي تُقام عليها دولة فلسطينية قابلة للحياة، كما تقول المصطلحات السياسية، خاصة وأن المنطقة المقترحة لقيام الدولة، هي منطقة الضفة الغربية وقطاع غزة، وبما أن القطاع مفروغ منه كونه مُحاط من الجهات الأربع بإسرائيل، فإن الضفة الغربية لا تبدو مستعدة لترسيم دولة.
وذلك بسبب أن (إسرائيل) حشدت منذ الباكر، كل قوّتها ووسائلها السياسية والعسكرية، في احتواء جل أنحائها وتأسيس مستوطناتها عليها، وكرست حكوماتها مسألة تنميتها والحفاظ عليها، و"نتانياهو" نفسه يباركها بكل قوّة صباحاً ومساء، ويجاهد سرّاً وعلانية، باتجاه شرعنة بؤر استيطانية أخرى، ويخاف خوف الخائفين من أن تُمسّ أيُّها بسوء.
نكاد نعتقد بأن (إسرائيل)، لا تُعبّر عنها مدينة القدس، ولا تل أبيب، في المركز، ولا مدن حيفا وعكا أو إيلات وبئر السبع في الشمال وأقصى الجنوب، بل تُعبّر عنها تلك المستوطنات المنتشرة بلا انتظام، والمتوغلة في قلب وأعماق الضفة الغربية، والآهلة بالمستوطنين بغير عدد- 500 ألف تقريباً-، بحيث لا تترك مجالاً يمكنه الانفصال مستقبلاً، فضلاً عن الادعاءات بتواجد أثار دينية وتراثية يهودية، والتي تجعل من إمكانية تخلّي إسرائيل عنها بصورة (حقيقية) أمراً غير ممكناً.
ولو افترضنا وتبعاً لتغيّرات خاصة أو مُفاجئة، بأن هناك إمكانية لحصول اتفاق نهائي، يبدأ بقيام إسرائيل بسحب بعض المستوطنات، كي توفر مكاناً ملائماً لقيام دولة فلسطينية، فهل يستطيع "نتانياهو" إقناع عشرات الألاف من المستوطنين بالخروج من الضفة الغربية؟ وبدون تكرار الجدل والعنف، اللذين استمرّا طويلاً من قِبل زعماء العمل الاستيطاني ومستوطني قطاع غزة بخاصة، والذين لا تتجاوز أعدادهم عن 8000 فقط؟
وهل يستطيع الطلب من قيادات الجيش، الذين يتواجدون تحت تأثير حاخامات اليهودية الدينيّة، وفي ظل ثبوت فشل أهداف الخروج من القطاع، بتنفيذ مهمّة إخلاء مستوطنات، وبطريق القوة إذا ما تطلبت المهمّة تلك القوّة؟
وحتى في حال إحراز نجاحات معتبرة باتجاه كل ما سبق، فهل ستكون هناك دولة فلسطينية مستقلة تماماً عن إسرائيل سياسياً واقتصادياً؟ وكيف سيكون مستقبل العلاقات معها؟ ربّما لا تكون إجابة من الأصل، أو تكون مشوشة وغير واضحة.
ربما نضطر إلى وقف التعامل بحل الدولتين، أو حتى التعرّض بشأنه، ويشجع على ذلك الكثير من الساسة والخبراء (عرب وغربيين، إسرائيليين وفلسطينيين) الذين توصّلوا إلى ما يفيد، بأن مجرد الحلم بدولة فلسطينية خالصة، هو غير ممكن وغير لائق أيضاً، وخاصة في هذا الوقت الذي نجتازه الآن، واتجهوا بالدعوة، صوب تجريب فكرة التخلّي عن حل الدولتين، واستمرّوا يوضّحون: بأن هذه هي ظروف الدولة الواحدة، وبأنه آن الأوان نحو تحقيقها كدولة ثنائية القوميّة، برغم معرفتهم بأن مجرّد المسير نحو هذا الطرح يُعتبر حلماً أيضاً.
واقرأ أيضا:
حيرة أوباما بين إيران والسعودية وإسرائيل!/ نِزال رياضي ونتيجة سياسية!/ حركة الصابرين.. تشكيل اضطراري!/ جولة في غانيه تال -3- !