يقترب الطيف منه، يتدلل عليه، وبين شفتيه تفاحة وهو يقترب في شبه وعي، يلبي همس عينيها.
تنفرج شفتاه، ويسيل لعابه، يكاد يلامس التفاحة, فإذا بها تبتعد فجأة على غير توقع منه, وتأخذ قطعة.. تلوكها في صمت بين شفتيها، ولا ييأس.
ويدنو منها من جديد.
تضع التفاحة بين شفتيها، تطرف بلحظ العين، وتهمس بالغمز، تتدلل، يفتح ضواحي قلبه، يهم، يحس بحرارة شفتيها، ثم تختفي من جديد.
لا يبكي، يتجمد دمعه بمتعة الحرمان، وتختفي صورتها من على الجدار، والمكتبة, وأوراق مبعثرة, ومصحف, ومفكرة صغيرة, بها كلام عن الحب، وقصيدة لها، للطيف، يتمنى، يتلمس، يرجو، في دعة, تساقط دمعه، ت.. ق.. ط.. ر..!
يرى الطيف.
يتقدم من بعيد، المسافة بينها تطوى، يقترب الطيف بنصف تفاحة, وهو يتجمد في الخيال. فتمد نصف التفاحة نحو شفتيه وهو ساكن، تحركها على شفتيه، تهبط بها لأسفل ذقنه, وتنساب الدمعة على الخد الحزين حتى تصل لشق التفاحة.
تروح تلوك لسانها بلعابها، تداعب بالبلل شفتيها المكتنزة, تقّرب التفاحة, تلاعب الدمعة.
تفرشها على سطح الشقّ لتغطي بها السطح كله حتى تخلطها بالتفاح. وكالعادة وضعتها فتماست وشفتاها بها تتحرك، ارتعشت، والدمعة تدفع الدمعة على خديه, ويقترب منها, وتبتعد, يسرع إليها, وتسرع منه. يجري وتجري، يدنو، يتحفز. تنتظر، يهم عليها.
ويعلو صوت الراديو.
زلزال في اليمن.
ضحايا الزلزال وصلوا إلى.
ويستيقظ.
يدخل نسيبه اليمني:
- الإعلام المصري مقصر.
- الضحايا بالاَلاف.
ويرد في شبه غيبوبة:
الحمد لله.
الأهل بخير، الأهل بخير.
يحاول أن يقرأ.
يدق الطيف باب قلبه, يهرول لإغلاق الكتاب, يقع بتبعثر الذات, ويتجمد فوق فراشه..!
يفترش بصره الجدران. يكاد يبكي. يتشنج وكأنه تذكر, ولكنه امتنع عن الفعل. أبى, وأغلق على الحلم في إبصار العين..!
تهادت إليه من جديد.
أتت إليه بربع التفاحة، لأول مرة ترى في عينيه تحفز، تحدٍ, لأول مرة تخاف، تفزع، تكاد تبكي، يسري فيها تيار الضعف، تتوقف عن تحريك التفاحة، حافة التفاحة أمام شفتيها، وتحاول أن تتسلح بالدعة.
يقترب منها وهي تبعد. تجري للخلف, وفجأة تلف لتهرب. يتعلق بثوبها. يتمزق. يتعرى. وربع التفاحة ملتصق بها. تحاول أن تغطي جسدها. صدرها. كل شىيء. دون جدوى وتبكي. تخونه دمعة.
تستعطفه بفزع نظراتها ورعشة رمشيها، تتحول لدجاجة تنتفض خرجت للتو من تحت الماء, تتحول لطفلة ستدخل تحت رجل لتخرج امرأة، وهم وحلم، خوف وتدلل..!!
لا تصرخ.
رغم كل شىيء لا تصرخ..!!
تكومت في ركن، تغطت بالجدار وركبتيها.
بدأ يقترب، يقترب ويضعف، يقترب ويشعر بالذنب، يقترب وينحني على الثوب، يتحسسه، يلمه، يقبله بحنان, بينه وبينها خطوة، غطت صدرها بيد واحدة ومدت الأخرى بالتفاحة، قربتها منه كأنها تقول له:
"خذها واتركني"
"خذها وأعطني الثوب"
وتمتد اليد والثوب.
يتبعثر فوق الفراش، ينتفض، يدور في الحجرة بلا هدف، يدفع كل ما يقابله في طريقه، يرتجف ويبكي كطفل، ويجذب شعره:
"وغد.. حقير.. حب... دنس.. حلم ملتهب.. احترق.. روح تسممت.. تتسمم.. تتـــــ.."
يصرخ.. ويصرخ.
يتحسس المصحف تحت وسادته، يهدأ، يتوضأ ويصلي، حتى هدأ تماما وملك فكره.
"صديقي المصري يقول المرأة جسد, والرجل غريزة, والمرأة حاجة، جزء, الرجل كل حاجة, وكل جزء, مخلوق من أجل وجود الكل.."
يبتسم، يهمس، يعلو صوته.
"سأقنعه بأن المرأة أنبل مخلوق حتى ولو كانت مصرية وأنا يمني"
ويصعد لفراشه، الوقت يمر، لابد أن ينام، لكن نفس الشعور يتسرب مع سكون النفس ودقات المنبه الذي يعلو رأسه.
ينساب الشعور بالمتعة، يتوتر، يتقلب على جنبيه، يغطي وجهه بالمنشفة التي تشعره بالبلد الأم، ففيها عطر الوطن أينما حل, لا تفارقه, وفي النهاية استقرت على ظهره فوق الفراش.
ترتعش جفونه، يقاوم التحدي من الخارج والداخل, يقاوم الطيف بالمنشفة, من يقاوم الذات؟ بأي منشفة يغسلها؟ وإن فعل هل تنظيفها يصنع منه ذاتا جديدة؟!!
يستسلم..!!
يسّاقط الجفن على الجفن، يكتمل الطيف ونفس الثوب، لا يدري إن كان ممزقا أو غيره!
فهي لا تختلف لا تتغير في زي ثوب إلا للأجمل، نفس بريق عينيها، وفي إحدى يديها قطعة التفاحة المتبقية، في حجم قضمة واحدة، تقترب، في خطواتها، شوق، حب, تعبيراتها راقصة، نفس النغم المجهول، والدلال الأوحد!!
وهو.... وهو.
يقف في دهشة حتى كاد صدرها يحف به, التماس الأول لجوى الجسد, وثوبها يتماوج حوله... يلهبه, والصمت يمتطي صهد الشوق, والجمود, وجلد اليد..!
وفي لذاذة تحسست القطعة بشفتيها، أمسكتها، تحرك وأقترب بوجهه منها، ولأول مرة تتماشى حواف شفتيه, ويختفي الطيف وشفتيه، يروح من جـديد بعيدا، بعيدا.
ويمسح الدمع من جديد، ويتهادى إلى أذنيه صوت آذان الفجر الأول حقيقة.
ويمد يده للمصحف، يقبله في حنان، يضعه على صدره.. ويلقي بالمنشفة من جديد على وجهه، يجفف عرقه، ويتنهد، ويهمس بكل كيانه.
"يا رب"
ويحاول أن ينام، يحاول، وصوت المذياع يأتيه:
"زلزال اليمن،
ضحايا... ضحايا، كارثة، الآلاف تحت الأنقاض.."
ويحاول أن ينام.
يحاول.
واقرأ أيضا :
كوفاد / حيث في كلّ خطوة قمر مكسور / محاولة أخيرة لقهر الزمن / من أين يأتي الورد؟ / ليلة قدر / رسالة إلى أخي وصحبه في المعتقل / نصف روح! / لوْ أنِّي قلتُ الشعرَ؟! / أنا والشعر / خيانة العلم والشعر / قصص قصيرة جدا