الحرب الأمريكية على أفغانستان في نهاية العام 2001، ثمّ الحرب على العراق في مطلع العام 2003، وما رافق هاتين الحربين من انتشار عسكري أمريكي في محيط دول الشرق الأوسط، وإقامة قواعد في بعضها، كانت أعمالاً عسـكريـة من أجل خدمـة رؤيـة سـياسـيـة لها مضامين أمنيـة واقتصاديـة.
فقد سعت إدارة (جورج بوش) الابن في عهدها الثاني (2004-2008) لتوظيف سياسي وأمني واقتصادي لما قامت به الإدارة بعهدها الأوّل في المجال العسكري، ومازالت محاولات التوظيف الأمريكي مستمرّة رغم تغيّر الإدارة في واشنطن. ولعلّ أبرز الأهداف في الرؤية الأمريكية لمستقبل الشرق الأوسط، هو ضمان اسـتمرار التحكّم الأمريكي بأهمّ مصادر الطاقـة الدولية لعقودٍ عديدة قادمة، خاصّةً وأنّ منافسين جُدد للقطب الدولي الأعظم يعتمدون في نموّ اقتصادهم على الطاقة المستخرجة من هذه المنطقة.
ولأنّ التواجد العسكري الأمريكي لم يكن وحده كافياً من أجل تحقيق الأهداف الأمريكية في "الشرق الأوسط"، فإنّ عناصر سياسية ثلاثة عملت إدارة (جورج بوش) الابن على توافّرها بشكلٍ متلازم مع الوجودين العسكري والأمني:
1- تغيير التركيبـة السـياسـيـة القائمـة في بعض دول المنطقـة لتُصبح مبنيّـةً على مزيج من آليات ديموقراطيـة وفيدراليات إثنيـة أو طائفيـة. فالديموقراطية لو تحقّقت، دون التركيبة الفيدرالية (التي تكون حصيلة تعزيز المشاعر الإنقسامية في المجتمع الواحد)، يمكن أن توجِد أنظمة وحكومات تختلف مع الإرادة أو الرؤية الأمريكية، كما جرى بين واشنطن وبعض بلدان أوروبا الغربية، أو مع الحكومة التركية بشأن الحرب على العراق.
أيضاً، فإن إثارة الإنقسامات الإثنية أو الطائفية، دون توافر سياق ديموقراطي ضابط لها في إطار من الصيغة الدستورية الفيدرالية، يمكن أن يجعلها سبب صراعٍ مستمر يمنع الاستقرار السياسي والاقتصادي المطلوب لتحقيق المصالح الأمريكية، ويجعل القوات الأمريكية المتواجدة في المنطقة عُرضةً للخطر الأمني المستمر في ظلّ حروبٍ أهلية، مفتوحة هي أيضاً لتدخّل وتأثير من قوىً دولية وإقليمية تُناهض السياسة الأمريكية.
إضافةً إلى أنّ التركيبة الفيدرالية القائمة على آلياتٍ ديموقراطية سـتسـمح للولايات المتحدة بعلاقات خاصـة مع المتناقضات المحليـة، وبالتدخّل الدائم لضبط الاختلافات بينها في داخل كلّ جزء من ناحيـة، وبين الأجزاء المتّحدة فيدرالياً من ناحيـة أخرى.
2- التركيز على هويّـة "شـرق أوسـطيـة" كإطار جامع لبلدان المنطقـة كبديل لهُويّتها العربيـة؛ إذ أنّ العمل تحت مظلّة "الجامعة العربية" يمكن أن يؤدّي مستقبلاً إلى ما ليس مرغوباً به أمريكياً من نشوء تكتّل كبير متجانس ثقافياً ومتكامل اقتصادياً، كما حدث ويحدث في تجربة الاتحاد الأوروبي، رغم وجود القواعد العسكرية الأمريكية في أوروبا، ورغم وجود حلف الأطلسي والانتماء المشترك لحضارة غربية واحدة. لهذا يدخل العامل الإسرائيلي كعنصر مهم في "الشرق الأوسط الكبير" الذي دعت له إدارة (جورج بوش) الابن، والقائم على "فيدراليات" طائفية وإثنية، إذ بحضوره الفاعل، تغيب الهويّتان العربية والإسلامية عن أيِّ تكتّل إقليمي محدود أو شامل، ويكون (لإسرائيل) دورٌ فاعل بعموم المنطقة.
3- العنصر الثالث المهمّ، في هذه الرؤيـة الأمريكيـة المسـتقبليـة للشـرق الأوسـط، يقوم على ضرورة إنهاء الصراع العربي/الإسـرائيلي من خلال إعطاء الأولوية لتطبيع العلاقات العربيـة مع (إسـرائيل)! ووجدت الولايات المتحدة الأمريكية ـــــ منذ توقيع المعاهدات مع مصر والأردن و"منظمة التحرير الفلسطينية" ـــــ أنّ تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية سيدفع الأطراف كلّها إلى التسوية والقبول بحدودٍ دنيا من المطالب والشروط، كما أنّه سيُسهّل إنهاء الصراعات حتّى من غير تسوياتٍ سياسية شاملة، وسيُساعد على وقف أيّ أعمال مقاومة مسلّحة في المنطقة.
إذن، كخلاصة، فإنّ حروب واشـنطن العسـكريـة في الشـرق الأوسـط، والتي بدأت في مطلع التسـعينات بعد سـقوط الإتحاد السـوفيتي، أرادت "ديموقراطيات سـياسـيـة" في المنطقـة، لكن ليـس على أسـاس أوطان موحّدة أو إلى حدّ الاسـتقلال عن القرار الأمريكي. حروب شجّعت على صراعات عسكرية محلية قائمة على انقسامات إثنية أو طائفية، ولكن ليس إلى حدٍّ لا يمكن معه ضبط الصراعات. حروب تستهدف بناء صيغٍ دستورية فيدرالية جامعة لما جرى تفكيكه في كلّ وطن. حروب تريد إنهاء الصراع العربي/الإسـرائيلي بفرض التطبيع، وليـس بالاعتماد على معيار الحقوق الوطنيـة المشـروعـة للشـعب الفلسـطيني. حروب تريد ترسيخ التواجد العسكري والأمني في بلدان المنطقة، ولكن ليس إلى حدّ التورّط بصراعات داخلية إستنزافية أو الإضطرار لإبقاء قواتٍ كبيرة العدد إلى أمدٍ مفتوح.
ولعلَّ ما حدث في العراق عام 2003، ثمّ في لبنان وفلسطين عام 2006 وما بعد ذلك، ثمّ في السودان وتقسيمه بمطلع العام 2011، ثمّ بالتداعيات الحاصلة الآن في سوريا وليبيا واليمن، ما يكفي من أمثلة عن خلاصات تُفسّر الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط والمواقف الأمريكية حالياً من عدّة حكوماتٍ وقضايا عربية.
إدارة (أوباما) مارست من دون شك مراجعة عميقة لهذه الرؤية الأمريكية، على أعلى المستويات الأمنية والعسكرية والسياسية في واشنطن، ولكن من غير تراجعٍ واضح عن مضامينها؛ ففي فترة الرئيس (أوباما) وخلال هذه "المراجعة" الأمريكية استمرّت الصراعات في "الشرق الأوسط" بالمضامين نفسها للرؤية "البوشية" المحافظة، والتي قامت على نظرية "الفوضى الخلاّقة" والدعوة لـ "شرق أوسطي كبير"، لكن مع فارق أنّ إدارة (أوباما) اعتمدت على أسلوب "عضّ الأصابع"، لا قطع الرؤوس أو كسر الرقاب!
إضافةً لذلك كلّه، فإنّ الولايات المتحدة مسؤولةٌ بشكلٍ كبير عن توظيف حركات دينية في حروبها وعن تحوّل هذه الحركات إلى جماعات عنفٍ وإرهاب، كما حدث مع "المجاهدين الأفغان" وتحوّلهم لاحقاً إلى تنظيم "القاعدة" ثمّ "داعش". والولايات المتحدة مسؤولةٌ أيضاً عمّا حدث ويحدث في العراق وفي وسوريا وفي بلدان أخرى بالمنطقة نتيجة السياسات الأمريكية التي اتّبِعت منذ مطلع القرن الحالي، والتي اسـتفادت منها (إسـرائيل) فقط، وهي السياسات التي خطّطت لها جماعات أمريكية/صهيونية منذ منتصف تسعينات القرن الماضي بالتنسيق مع قيادات إسرائيلية (راجع:Clean Break) والتي جرى البدء بتنفيذها عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، ثمّ من خلال غزو العراق، ثمّ بدعم الحروب الإسرائيلية على لبنان وفلسطين، ثمّ بالمراهنة على إسقاط أنظمة عن طريق العنف المسلّح وبدعمٍ لجماعات دينية سياسية، وبالمساعدة على إشعال أزمات داخلية، وبتوظيف المشاعر الطائفية والمذهبية في الصراعات مع الخصوم.
وها هي الولايات المتحدة وقُوى دولية وإقليمية تحصد نتائج سلبية على مصالحها بعدما زرعت أيديها بذور هذه الأزمات المتفجّرة الآن. لكن الخطر الأعظم هو على شـعوب المنطقـة وأوطانها، ممّا يتطلّب من الحاكمين والمعارضين فيها وعياً وطنياً وقومياً يتجاوز حدود مصالح الحكومات والطوائف والمذاهب، وهو أمرٌ مازال غائباً رغم أنّ النيران قد وصلت إلى "منازل وحدائق" أطراف عديدة.
وربّما تكون هذه الفترة الآن هي الفرصة الوحيدة المتاحة حالياً لإدارة (أوباما) لتحقيق تسويات سياسية في "الشرق الأوسط" تُحافظ على المصالح الأمريكية، لكن تمنع انتشار خطر الإرهاب والتطرف المسلّح الذي سيسود المنطقة والعالم في حال الفشل بهذه التسويات. فالصراعات الدمويـة الجاريـة الآن في المنطقـة العربيـة لن تقف عند حدود دولـة معينـة بل سـتؤدي تفاعلاتها إلى مزيج من حروبٍ أهليـة وإقليميـة، وإلى تصاعد حركات الإرهاب في العالم كلّـه، وإلى هدم كياناتٍ وأوطان وليـس فقط تغيير حكوماتٍ وأنظمـة.
واقرأ أيضاً:
أشهرٌ حاسمة لتقرير مصير العرب/ شرطان للنهضة تجاوز التاريخ وتصحيح الجغرافيا/ مأساةٌ عربية ثلاثيّة الأبعاد!/ غموض مفهوم الإرهاب ووضوح المستفيدين منه!/ قراءة لتجربة جمال عبد الناصر في ذكرى وفاته/ الشعوب العربية والمشاريع الصهيونية/ العنف باسم الإسلام/ واقع الانقسام.. وقِيَم التوحد