على الرغم من علمي بحاجة ألمانيا خاصة، وأوروبا عموماً، إلى قوى عاملة مهاجرة تسد النقص السكاني الذي تعرضت له خلال السنوات العشر الماضية، ورغم إحساسي بنُبل عواطف (ميركل) وصدق موقفها الإنساني من اللاجئين، لكنني لم أكن متفائلاً على الإطلاق بمستقبل أفضل للنازحين الشرقيين العرب والمسلمين الهاربين من ضنك العيش والإرهاب في بلادهم قاصدين اللجوء إلى أوروبا "الفردوس المنتظر" كما كانوا يرونها أو يعتقدون، ولم أطمئن إلى مظاهر الحفاوة التي أبدتها بعض الدول الأوروبية تجاههم بعد أن هزَّت صورة الطفل السوري الغريق "إيلان" العالم وهو ملقى على شاطئ البحر، وكان لسان حالي يتمثل الفارين من أوطانهم، "بالمستجير من الرمضاء بالنار": وتوقعت وتنبأت بما يحصل لهم اليوم من صدق المثل الشعبي "جاءت الحزينة تفرح ما وجدت لها مطرح"..!
وبالفعل ما أن مرَّ الأسبوع الأول وقبل أن ينتهي شهر العسل، غاب القمر المنتظر؛ أوروبا اليوم لا تختلف عن أوروبا زمان يوم غزتنا بحروبها الصليبيـة طمعاً بثروات بلادنا، وكسـر شـوكتنا، وما دعوتها المبطنـة إلى العولمـة وفتح الأسـواق والحدود التي تبنتها في السـنوات الاخيرة إلا شـعارات تضليل وابتزاز ومصائد مغفلين، أوروبا بحاجة إلى خمسة ملايين من البشر المهاجرين، دماء جديدة لسد نقص الأيدي العاملة، والعولمة أحد مفاتيح العلاج السحرية؛
علينا أن نفتح أسواقنا لتصريف بضائع أوربا وسلعها البائرة وامتصاص التضخم الذي بدأ يضرب اقتصادها، مقابل استقدامها الأيدي العاملة الشرقية الرخصية، "منشار طالع يأكل نازل يأكل" تصدر لنا الكاسد والبائر من حملة شهاداتها ليعملوا مدراء ورؤساء بأعلى أجر وأفضل الامتيازات، وتستقدم شبابنا الصاعد المتفوق ليعملوا لديها بأبخس الأثمان وأدنى الوظائف، أوروبا لن تنسى الماضي، وأن الشرق شرق والغرب غرب. فهل كان ترحيب أوروبا واحتفائها باللاجئين لأيام فقط فخاً!؟ وإلا ما الذي بدا مما عدا لتتغير اللهجة وأسلوب التعامل، وتحل الشكوك والريب والخشية والتوجس محل الترحاب والاستقبال الحار، وينقلب الحال بين عشية وضحاها من الحفاوة إلى إلقاء التهم؟
كيف تحوّل اللاجئون في أوروبا إلى أسرى عالقين على حدود الدول بلا مأوى ولا معين بعد كل مظاهر الحفاوة تلك!؟
أوروبا اليوم تجتمع لتُساوم وتقايض بمصير اللاجئين، دولة تُصادر أموالهم ومقتنياتهم وتسلبهم خواتم الزواج ولا تُبقي لهم إلا مائتي دولار لا تكفي لشراء حذاء، فزادت محنتهم محنة فقر وجوع وتشرد، وثانية شرعت بتسوير حدودها بالأسلاك الشائكة والحواجز مصدات لعبورهم، وتتركهم على الحدود يعيشون في العراء بين الوحل وتحت المطر والصقيع بخيم أشبه بقبور فوق الأرض، وثالثة تمنع استقبال أُسرهم إلا بعد سنوات، ومن استُقبل بالورود إلى عزل واحتجاز في مخيمات هزيلة بعيداً عن الناس كأنهم مصابون بالجذام والجرب، أو مرضى يُحجر عليهم خشية العدوى! أوروبا التي استقبلت اللاجئين بالورود والأهازيج ومنّتهم باستقبال الملايين منهم بدأت تُساوم عليهم وتنتقي منهم من تحتاج إليه وتُعيد الآخرين من حيث أتوا مكسوري الخاطر والجناح، تُعيدهم إلى تركيا لتُعوضهم بلاجئين جُدد بدلاً عنهم يخضعون للفحص مجدداً،" أسير بدل آخر" بل وهناك من يمنع عودتهم إلى أوطانهم.
حياة اللاجئين التي تعرضها القنوات أصبحت أسوء من حال الأسرى والمساجين، وأضحت مخيماتهم محاجر حضائر الحيوانات أفضل منها، أوروبا "الحرية والديمقراطية، والانفتاح والإنسانية"، تجتمع اليوم لتُساوم وتُفاوض على حقوق الإنسان، والسؤال الذي نطرحه عليها، لو كان اللاجئون مسيحيين أو من بلد غربي تُرى هل ستتركهم أوروبا بالحال التي يعيشها اللاجئون العرب المسلمون اليوم؟
كيف انقلب الدفئ إلى صقيع؟ والترحيب إلى تعذيب؟ أين قلب أوروبا "الرؤف الرؤوم"؟ أين قوانيين ومواثيق حقوق الإنسان ومقررات مؤتمر جنيف ومنظمات الدفاع المدني عن حقوق اللاجئين مما تفعله أوروبا "الإنسانية" بالإنسان من إستهانة وخذلان؟ هل تخلّت أوربا عن "إنسانيتها"، حال اللاجئين تصعب على الكافرين. لم يحظوا بما كانوا يأملون، ولا بمقدورهم العودة إلى بلادهم. وليس أمامهم إلا الموت جوعاً تحت الصقيع أو غرقاً بين أمواج البحر. فمن المسؤول ولمن المُشتكى!؟
واقرأ أيضاً
رسالة من لاجئ فلسطيني إلى لاجئ سوري