فالكتابات السائدة في الصحف والمواقع والكتب ووسائل الإعلام, ما هي إلا كتابات ماضوية متوحلة في أطيان الذي مضى وما انقضى أبدا, وهي تفخر بما تمعن فيه من الموضوعات التي أكلت عليها الدهور وشربت, وكأن الحياة قد انتهت في مرحلة معينة من مراحل العرب, وأن العرب قد ماتوا وما عادوا يعترفون بأن ما فات مات, وما هو آتٍ آت, وإنما ما فات عاش وهو الذي يأتي ولا غيره من آت!!
إن الذي يطلع على ما يدور في الواقع الثقافي العربي, يتملكه شعور بأن ما يقرأه هو من إنتاج العقول الخرفة, التي ما عادت تمتلك القدرة على وعي ما يدور حولها, لكنها تستطيع أن تحدثك عن تفاصيل ما مضى منذ عدة عقود وقرون وكأنها تحياه, أما أن تحدثك عن يومها فهذا مستحيل, لفقدانها قدرات التذكر القريب والآني.
وهذه علة كبرى متفاقمة ذات تأثيرات شديدة على الحاضر والمستقبل, لأنها تقتلهما بإغفالهما وتجاهلهما, بل أنها تحسب الزمن ببعد واحد لا غير, فتلغي بعديه الأساسيين المساهمين بالقوة والقدرة على التفاعل مع الوجود المعاصر. أي أن الأجيال تُجرَد من أسلحتها الحضارية وتُعتقل في حفر وخنادق دامسة, ذات عفونة ورطوبة تصيبها بالأمراض السارية والمعدية, فتنتشر بينها الأوبئة الحضارية الخطيرة الساعية للمحق والإهلاك الفتاك, فتصبح ذات عاهات نفسية وسلوكية وتفاعلية ذات تداعيات قاسية ومعوقة لخطوات التحرك إلى أمام.
ومن هنا فإن الأمة في محنة تخندقية ذات آليات انطمارية وصيرورات انحسارية إهلاكية, تؤدي إلى تفاعلات تعفنية لها تأثيرات سمية طاعونية التوجهات, لأنها تحصد الوجود الحي في أرض الأمة وتحيله إلى عصف مأكول. وعندما يتم تحويل الحالة المائية للمعتقد أو الدين, إلى حالة نفطية سوداء, فإن الوجود سيحترق ويتحول إلى دخان وركام, فالماء رائق القوام بلا لون ولا رائحة, والنفط أسود كريه الرائحة كثيف القوام يقتل الأحياء ويحرق ما فوق التراب ويصيبه بالشلل.
فأكثر ما يتحقق اجتراره في واقع الأمة هو الدين وما يرتبط به من أحداث وتطورات, ومواقف وصيرورات سياسية وتسلطية اتصلت بالحكم وأحقيته, وهي تريد أن تغير ما لا يمكن تغييره لعدم الإمساك به, فالأموات لا يمكن تغييرهم, وما مضى لا يعود, وما تملكه الأمة هو حاضرها ومستقبلها, فهي التي عليها أن تستوعب آنها ولحظتها وتستولدهما أصيلا نافعا متجددا.
وإن لم تتحرر الأمة من هذه الوقيعة وما تفرزه من مكبلات ومدمرات, فإنها ستمضي في خطوات انقراضها, لأنها تأبى أن تدرك الطبيعة المائية لدينها, وتصر وبتصميم أعمى على أن طبيعته نفطية أو بترولية كثيفة سوداء, وتريد من البشر أن يشربونه وحسب؟!!
واقرأ أيضاً:
الكسوف والكشوف!! / إرادة ما فينا!! / التعرية والتورية!! / معا وسويةً !! / طريق وطريق!! / الانفعالية السائدة والعقل العربي المهزوم!! / ريحٌ صَرْصَرْ !! / بخ...بخ يا كلام!! / ساسة أم أدوات؟!!