تحتاج رعاية إنتاج مصطلح ذو دلالة نفسية أو اجتماعية إلى الكثير من العمل، حيث تحتاج تلك اللفظة أو الإطلاقة الاصطلاحية إلى توضيح الغاية والهدف من وجودها وتكوينها، لذلك يتعين على الباحث تحديد حالة التوصيف للظاهرة التي يقوم بوصفها أو يرغب بإدراجها تحت المصطلح لتكون دلالاتها واضحة. رغم بعض الأخطاء في الأسلوب الإسقاطي للمصطلحات، مثل وصف سلوك ما في مملكة الأنعام والدواب والإدعاء أن ذلك يصلح لتفسير أو وصف شيء من السلوك البشري- هذه من طريقة أهل العلم في الغرب- وقد استوردها أبناء جلدتنا مثلما استوردوا الكثير الكثير مما غث أو سمن، ليجعلوها حجة لهم في أوصافهم وتحليلاتهم ويدعوا أن هنالك أساساً علمياً لانتقاد الظواهر، مع إدعاء صحة المصطلحات والأوصاف كونها من رحم علم النفس، هذا العلم الذي أمضينا عقدين من الزمن ندرسه، وزهاء العقد والنصف نعمل على تطبيق أسسه في العلاج النفسي، ولذلك سنستخدم ذلك اليوم – ما دام المعلمون الأجانب وحتى لو لم تكن عيونهم زرقاء- أصبحوا هم المشرعون لوجهة وتوجه هذا العلم وأحتج بهم بعض المتنطعين في الحديث عن قضايانا وظواهرنا الاجتماعية، بل والأدهى من ذلك حين جعلوا منه حجة لتوصيف الظواهر الصحية على أنها سلبية استجابةً لهواهم وأهوائهم.
سيكولوجية الضواري، وهي عبارة عن وصف لسلوك المفترسات الفتاكة في المملكة الحيوانية، حيث يتم وصفها بالأسرة لصغر حجم المجموعة، من مثل الضباع، أو الذئاب أو ...، والتي تتميز أيضاً بشراسة التراتبية الهرمية فيها، خاصة حين يأكل بعضها بعضاً، أو حين تأكل أولادها عندما يقض مضجعها الجوع، إن إطلاق هذا المصطلح يتوافق مع حال سلوك البعض، ولكثرة المشاهدات لما يواجهنا يومياً ممن يُروعون ويهاجمون ويفترسون كل من يقابلهم من أفراد المجتمع، مرة بحجة فساد عقل الأغلبية وصلاح عقله هو، ومرة لشعوره بالتفوق والتفرد بالحقيقة، ومرات أكثر لإتباعه هواه وهواياته، إن هذا الاستقواء اليومي الذي يطل من شباك الصحف تارة، ومن عِلّية القنوات الفضائية تارة أخرى، قد صار شائعاً لدرجة استحق فيها توصيفاً كونها صارت ظاهرة ذائعة الشيوع والانتشار وصارت تستحق مصطلحاً لوصفها وتوصيفها، لذلك سنعتمد لتوصيف هذه الظاهرة السلوكية مصطلح "سيكولوجية الضواري".
نجد الأصل التاريخي لوصف قلوب بعض البشر بقلوب الضواري فيما قاله المسيح عليه السلام، فقد قال عيسى ابن مريم ((يا بني إسرائيل: ما لكم تأتون عليكم ثياب الرهبان، وقلوبكم قلوب الذئاب الضواري، البسوا ثياب الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية))، وهذا حال من تنطبق عليه سيكولوجية الضواري حتى في أيامنا، يأتي بثياب الزاهد المصلح لكن قلبه قلب الذئب الضارِ، وليته لبس ثياب الملوك وكان قلبه ليناً بالخشية من الله.
تحاول الضواري يومياً التنقل في أرجاء الأرض، متسللة بين غيرها من خلق الله، وكلما استضعفت خلقاً انقضت عليه ناهشة ومفترسة، لكن الفرق بين الضواري من الدواب على أربع، والضواري من بني البشر، أن الدواب على أربع تفتك بفريستها، فإذا شبعت قامت عنها، أو أخفتها لتأكل منها حين جوعها، فهي لا تقتل ولا تفترس لذات شهوة القتل والافتراس، بينما الضواري من الناس يفتكون ويفترسون لشهوة الفتك والافتراس، دون شبع أو قناعة.
على سبيل المثال لا الحصر ما حصل قريباً في اليوم العالمي للمرأة، لقد أحتفل الغرب بهذا اليوم للمرأة للدلالة على الاحترام العام، وتقديراً للمرأة على إنجازاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، خاصة بعد ما عانته في حياة الغرب من العمل بالسخرة في عدة قطاعات، حتى أن النساء كن يعملن في حمل الحديد لبناء سكك الحديد وبنصف الأجر الذي يدفع للرجال، بينما كان رجالهن يجوبون الحانات والمواخير، وأرباب العمل يضربونهن ويمتهنونهن ويساومونهن على شرف العرض والحياة، فضجت النساء لحالهن ولاستضعافهن والاستقواء عليهن، ولتهميشهن في التمثيل المجتمعي، ومنذ إعلان حقوق المرأة في الغرب عام 1791 الذي نشرته جوجيس، وتوالت المطالبات النسوية في العالم الغربي، للاعتراف بحق المرأة في الانتخاب، والعمل بنفس أجر الرجل، والعدالة، وتبع ذلك منجزات نسوية على مختلف الصعد، ولذلك احتفلت المرأة والعالم. أما في عالمنا العربي فقد تفاعلت الضواري مع أبعادها السيكولوجية، حيث وجدنا من ينال من المرأة في يومها العالمي، وحاول النيل من المرأة المحجبة، لأن قلب الذئاب الضواري يتلحف بلباس المصلحين، فعاث فساداً في ساحة المرأة المحجبة بحجة أن ذلك من تخلفها وتخلف أهلها، وأنه يجب عليها أن تتحرر من الحجاب، في شعب لم يستطع تحرير شبرٍ من أرضه وكرامته المغتصبة، فوجدت بعض الضواري تبريراً لعِنَّتها بأن تخلف الشعب وعدم قدرته على تحرير أوطانه يكمن في عدم تحرير المرأة من حجابها وعفتها، فبدل أن يعترف لها بحقها في تدينها وحجابها، وأن يعترف للمرأة المحجبة بفضلها في المشاركة بكافة الميادين، فقد وجه لها اللوم والعتب، وبث سمه زعافاً في كأس صفو حياتها، ليعادي حجابها، وهذا إن دل على شيء فيدل على اعتراف الضواري بعجزها عن مواجهة أعداء الأمة ومحتلي الأرض والعرض، فقد ذهبوا ليستعرضوا مصطلحات الثقافة الفارغة المحتوى، ويرددوا كببغاء كلمات واصطلاحات مستوردة، فكانوا وبالاً على الأرض والإنسان والأوطان، إن تبرير عجز الضواري بحججهم الواهية غير مقبول، فكم من متشدق منهم يتحدث عن حريته ويمارس ذلك كضرورة من خلال قمع حرية الآخرين، حتى ليخال للمستمع له بأنه عائدٌ للتو من تحرير الأقصى أو الجولان. فالأخر حتى وإن كان عدواً سيكون مقبولاً للضواري وسيتحدث لك هذا الضارِ عن أهمية التقبل للآخر، لكن إذا كان الآخر متديناً أو محجبة صار له عدواً لا قبول له ولا تقبل، وبرر هذا الضارِ تهجمه وإفتراسه له بأنه متحجر ورجعي ولا يقبل الحوار، رغم أن هذا المفترس هو من يلعب هذه اللعبة النفسية، فهو يسقط ما في نفسه على الآخرين.
لذلك صارت ظاهرة أن يفتك الضواري بالمحجبات والمتدينين بحجة أن ذلك تخلف ورجعية، ثم يحاول هذا الضارِ عرض بضاعته فيقول لك: حرية، وتعبير، ورأي....، ولكن لماذا هذه البضاعة التي يدعي نشرها وتوزيعها لا يقوم بالاستفادة من حقيقتها هو شخصياً، فيعامل أبناء وطنه على تلك الأسس التي يدعيها؟. بل تجده متهكماً، ويضع نفسه في ترتيب طبقي رفيع، فالكل متخلفون دامهم ليسوا مثله، وأغرب الغرائب عندما يكون هذا الضارِ مدعياً الإصلاح الديني، فتجده يتحدث بالدين، رغم أنه لا يصلي أصلاً، فكيف تكون يا هذا مصلحاً للناس، وأنت عاصٍ لله في أول واجبات العبادة؟. لكنها لبسة الرهبان بقلوب الذئاب الضواري كما قال المسيح عليه السلام.
اليوم العالمي لحجاب المرأة، هو يومٌ للوقوف في وجه كل من يدعي تخلفها، ويريد حرمانها من حق العمل بمقتضى إيمانها، هو اليوم العالمي للوقوف للمجاهرين بالعداوة لكل امرأة ترى العفة مسلكاً وطريقاً، هو لمن ينكرون ما جاء في العهد القديم: “وَرَفَعَتْ رِفْقَةُ عَيْنَيْهَا فَرَأَتْ إِسْحَاقَ فَنَزَلَتْ عَنِ الْجَمَلِ. وَقَالَتْ لِلْعَبْدِ: ‘مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الْمَاشِي فِي الْحَقْلِ لِلِقَائِنَا؟’ فَقَالَ الْعَبْدُ: هُوَ سَيِّدِي. فَأَخَذَتِ الْبُرْقُعَ وَتَغَطَّتْ” (سفر التكوين 24 :64-65)، أو من لم يقرأ في العهد الجديد: “وَأَمَّا كُلُّ امْرَأَةٍ تُصَلِّي أَوْ تَتَنَبَّأُ وَرَأْسُهَا غَيْرُ مُغَطّىً فَتَشِينُ رَأْسَهَا لأَنَّهَا وَالْمَحْلُوقَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ. إِذِ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَتْ لاَ تَتَغَطَّى فَلْيُقَصَّ شَعَرُهَا. وَإِنْ كَانَ قَبِيحاً بِالْمَرْأَةِ أَنْ تُقَصَّ أَوْ تُحْلَقَ فَلْتَتَغَطَّ” (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورونثوس (11 :5-6)، أو كما جاء في القرآن الكريم (وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( النور 31:24).
يقول الله تعالى: ((الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ )) (1: إبراهيم)، فهذا كتابنا وما جاء فيه هو الحق، لنخرج من الظلمات التي يدعوا لها البشر بلا علم، إلى النور الذي أرشدنا الله إليه بالعلم، إلى صراط العزيز الحميد، إلى صراط مستقيم، لا يفهم كنهه متحدث بهوى، بل يفهمه المؤمنون، الذين وجدوا حلاوة الإيمان في قلوبهم، وعرفوا الحق من ربهم، فأتبعوا ما أمر به، واجتنبوا ما نهى عنه.
اليوم العالمي لحجاب المرأة، هو يوم ستدعوا له كل محجبة، لتعرض فيها قناعاتها التي بنتها على أساس معتقدها الديني، لإيمانها بالله وطلب رضاه، وليس لمرضاة مخلوق، فليست المرأة ضعيفة لتكره على الحجاب كما يظن الضواري، وليست المرأة جاهلة لتكره على الحجاب كما يظن الضواري، ويكفي بأن تقوم بجولة عبر الشبكة العنكبوتية لتستعرض أحاديث المسلمات الفرنسيات أو الألمانيات، أو الهولنديات، أو الإنجليزيات.... إلى آخر القائمة من المسلمات اللاتي أسلمن ودخلن في هذا الدين العظيم، ولبسن الحجاب تحقيقاً لإيمانهن وعقيدتهن، وبرضاهن، فلا من أخ أو أب ضغط عليهن، ولا عاداتهن وتقاليدهن فيها هذا الحجاب، بل هو الإيمان الذي لم تعلم عنه الضواري وتريد تشويهه، ولذلك في اليوم العلمي لحجاب المرأة ستقف ألف ألف امرأة لتقول كلمتها: "لقد لبست حجابي طاعة لله، واستجابة لرسوله، معتزة بديني، معتفة عن التبرج والسفور". فالمرأة جوهرة غالية، هي الأم وبرها، هي الأخت والعمة والخالة ووصلها، هي الزوجة ومودتها ورحمتها، هي الابنة الغالية ومفتاح الجنة لمن أحسن تربيتها ورعايتها. لندعوا ليوم الحجاب، لأنه أصبح رمزاً لحرية اعتقاد المرأة، أيقونة للقديسات، وزينة للمؤمنات.
أيها الناس دعكم من سيكولوجية الضواري وانتقلوا إلى سيكولوجية بني البشر، انتقلوا إلى تحقيق العدالة والأمن الاجتماعي، فحتى يتم لنا تحقيق العدالة والأمن الاجتماعي فلا بد لنا من أن نكون من بني البشر، والذين كرمهم الله بالعقل والمعرفة، يقول الله تعالى: ((وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)) (6: سبأ)
فهذا العلم الذي أنزل من الله فيه خير البشرية، وخير العدالة، وخير الأمن، فهو الحق، وهو الهادي للصراط المستقيم ولصراط العزيز الحميد، لذلك فعلمنا وعملنا الشرعي المنزل من الله هو حقٌ في نظرنا، فلا تثنونا أيها الضواري عن الحق، فالبناء أصعب كثيراً من الهدم الذي تمارسوه، والتعقل مجهدٌ أكثر من الانفعالية التي تتبنوها، ولذا فقد تميز البشر بسيكولوجيتهم المميزة بعناصر (التعقل، والضبط الذاتي، والتحمل، ...) لكن في حال تعطيل هذه المكونات فسوف يتم تعطيل الحياة، فهذه السيكولوجيا ليس هدفها مقتصراً فقط على إبقاء الفرد على قيد الحياة، لكنها أيضاً لإبقاء الإنسان وبني جلدته على قيد الأمل، هذا الأمل بالعدالة والأمن على الأنفس والإنسان والأوطان، فإما أن تراجعوا أنفسكم أيها الضواري وتشفقوا عليها، وإما ستكونون ممن ينقمون من المؤمنين، وصدق الله تعالى القائل: ((ومَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)) (9:البروج).
عمان/ 11-3-2018م
واقرأ أيضاً:
الرِّعاية النَّفسية / العبث بالعقل: الحلقة12 / صناعة الهدر / أيها المبتلى بالوهم : الموهومون / نحمل في داخلنا (٢) : الحاجة للأمان / بالعلم قاوم (3)