وقف أمام المرآة يصفف شعره, وانتبه إلى زحف الشيب التدريجي على الجانبين, وتذكر لحظتها أنه قد تجاوز الخمسين من عمره منذ أيام فأصابته "خضة" الخمسين, كما أصابته من قبل "خضة" الأربعين, وأصابته قبلها "خضة" الثلاثين, وكأنه على موعد مع "الخضة" على رأس كل عقد من الزمن, ولكنه في هذه المرة تذكر المثل الشعبي "بعد الخمسين الله يعين", فابتسم لنفسه في المرآة وتذكر مقولة لأحد الحكماء بأن الحياة تبدأ بعد الخمسين, وشعر أنها تنطبق عليه فهو في هذه الأيام يمتلئ بمشاعر وأحاسيس وحيوية وطاقة لم يعهدها حتى في مراهقته وشبابه وتكاد تخرجه عن وقاره وجديته المعهودين عنه كرجل عصامي ناجح يهتم بعمله وطموحاته وشركاته وأسرته وعائلته الأكبر. إنه يشعر ببعث جسدي ووجداني وروحي جديد يغريه بدورة حياه جديدة أكثر بهجة واتساعا ورومانسية من حياته الحالية التي دب فيها الفتور والملل وأصابها الجفاف والتصحر, ولكن كيف ؟ ومتى ؟ ومن ؟ وأين؟.
هل للحب والمشاعر عمر معين ؟ ... هل تنتهي الصلاحية العاطفية والجنسية عند نقطة محددة ؟ ... هل نصبح في وقت ما من عمرنا خارج نطاق الخدمة ؟ ... هل يمكن أن ينشط الحب مرة أخرى بعد الخمسين أو الستين أو السبعين أو حتى المائة ؟ ... وهل هو حب أم نزوة أم رغبة في اللحاق بآخر ما تبقى من العمر ؟ .... وهل يحدث هذا أكثر للرجل أم للمرأة ؟ .... وما هي خصائص وعلامات هذا الحب -إن وجد– لدى الرجل والمرأة ؟ ... هل سهلت وسائل التواصل الحديثة علاقات الحب بعد الخمسين ؟ ... وهل فتحت المنشطات الجنسية شهية الحب لدى الرجل في مراحل العمر المتأخرة ؟ ....ما هو مسار ومصير الحب بعد الخمسين ؟ ... ما هو تأثير الحب والجنس على الحالة الصحية (الجسدية والنفسية) للرجل والمرأة بعد الخمسين ؟ ...ما هي الشخصيات الأكثر عرضة للحب بعد الخمسين ؟ ... ما هي تداعيات ذلك الحب على العلاقة الزوجية وعلى الأسرة عموما ؟ ...وكيف نحمي استقرارنا النفسي والعائلي في مواجهة موجة (أو موجات) الحب بعد الخمسين ؟ ... هل يملك أحد مهما كان علمه وكانت قدرته الإجابة على كل هذه التساؤلات ؟.
تؤكد تجارب الحياة وتؤكد الدراسات العلمية أن الإنسان - رجلا كان أو امرأة - يظل قادرا على الحب في كل مراحل حياته, بل إن الحب يكاد يكون ضرورة لاستمرار الحياة السوية والصحية, وأن الإنسان الذي يفقد قدرته على الحب تتدهور صحته وأحواله ويصبح قريبا جدا من الموت المعنوي أو الموت الحسي الحقيقي, ولكن تتفاوت هذه القدرة على الحب أو ما يمكن أن نسميها اللياقة العاطفية من شخص لآخر حسب تبادليات الاحتياجات المختلفة للإنسان, فقد يزداد احتياجا أو ينقص بناءا على موازين الإشباع أو الحرمان على المستويات الأخرى, وأيضا حسب إتاحة الفرصة لوجود هذا الحب. وبعض الناس يفقدون القدرة على الحب في ظروف مرضية, خاصة المصابون باضطرابات نفسية مزمنة أو باضطرابات في شخصياتهم أو الواقعين تحت ضغوط معتقدات وعادات وتقاليد مجتمعية تكبت طاقة الحب والمشاعر لديهم, وهؤلاء يتحول احتياجهم للحب وحرمانهم منه إلى أعراض مرضية متخفية ومراوغة تعلن معاناة هذا الإنسان المكتومة في صورة معاناة نفسية أو جسدية متكررة أو مزمنة. وهناك نسبة من الناس تكون لديهم حالة من البلادة العاطفية أو الخمول الوجداني, فهؤلاء تكون احتياجاتهم للحب ضعيفة ويعيشون بحثا عن احتياجات أخرى لاستبقاء حياتهم المادية.
والمشكلات تحدث حين يستمر أحد الشريكين بكامل لياقته العاطفية (ونسميه هنا شريكا نشطا) في حين يفقد الشريك الآخر تلك اللياقة ويصبح منتحي الصلاحية العاطفية أو خارج نطاق الخدمة الوجدانية أو الجنسية (ونسميه هنا شريكا خاملا), هنا يصبح الشريك النشط عاطفيا أمام خيارات مؤلمة, فإما أن يكبت نشاطه ليواكب حالة الموات العاطفي والجنسي للشريك الخامل مع ما ينتج عن ذلك من حرمان مؤلم أو كبت مرضي, أو أن يسمح لذلك النشاط العاطفي أن يعمل خارج نطاق الشراكة الزوجية ويدخل في دوامات واتهامات الخيانة الزوجية.
وقديما كانت التغيرات البيولوجية تصيب الرجل والمرأة فتتوافق إلى حد كبير احتياجاتهم العاطفية والجنسية صعودا وهبوطا مع السن, وكانت فروق السن بين الزوج والزوجة أكبر لصالح الرجل بحيث تجبر الفرق في الصلاحية البيولوجية بين الرجل والمرأة, أما في العقود الأخيرة فقد زادت حالات الزواج من سن متقاربة, كما أن المنشطات الجنسية جعلت الكثيرين من الرجال قادرين على ممارسة الحب لمراحل متأخرة من العمر حتى ولو كانوا مصابين بأمراض كانت تعوقهم في الماضي عن هذه الممارسة, لذلك فقد فتحت تلك المنشطات شهية الكثيرين من الرجال على مواصلة التعبير عن احتياجاتهم العاطفية والجنسية لسنوات أطول من ذي قبل, ولم يكتشف للنساء منشطات جنسية مقابلة فبقين عند مستوياتهن المعتادة فتخلفن في هذه القدرة عن الرجال مما أحدث فجوة عاطفية وجنسية بين الزوجين دفعت إلى علاقات كثيرة خارج إطار الزواج.
كما أضيف عامل آخر مهم وهو تأثير وسائل الاتصال التكنولوجية الحديثة على تنامي العلاقات بين الجنسين من خلال الكلمة والصوت والصورة مما فتح مسارات عاطفية هائلة ممتدة ومتشابكة ومتقاطعة يصعب حصرها أو السيطرة عليها, وأصبحت الأجهزة التكنولوجية الحديثة وخاصة الموبايل تحمل أدلة الإدانة بالخيانة – سواء حقيقية أو متخيلة – مما أصبح يهدد استقرار الكثير من العلاقات الزوجية والأسر.
ويبدو مما سبق أن الرجال هم أكثر عرضة لتجارب الحب بعد الخمسين, وقد وجدت دراسة بريطانية أن الرجل يبلغ ذروة نضجه العاطفي والجنسي في هذا السن, كما أن خبرته بالحياة وقدرته على التكيف مع الظروف مع ما تحقق له من استقرار مادي وتحقق مهني, كل هذا يعطيه قدرة أكثر وجاذبية أكثر للجنس الآخر, وهو ما زال قادرا من الناحية البيولوجية على العطاء العاطفي والجنسي ربما بنوعية أفضل من سن الشباب نتيجة الخبرة التي اكتسبها. وبعض الدراسات تقول بأن الرجل فوق الخمسين يحدث له بعض التضخم في البروستاتا مما يزيد من حالة الإثارة الجنسية لدية, كما أنه بحكم السن والخبرة يصبح أكثر قدرة على التحكم في فترة العلاقة الجنسية والاستمرار فيها لفترات أطول من سن الشباب, مما يزيد من قدرته على الإشباع الجنسي. وهناك رأي آخر وهو أن المرأة أيضا قد تراودها مشاعر حب قوية بعد الخمسين خاصة حين يكبر أبناؤها وينفصلون عنها, وحين ينشغل عنها زوجها, وتقل مهامها, وتنتبه إلى احتياجاتها غير المستوفاة خاصة وأنها قد انشغلت في سنوات عمرها برعاية الآخرين والتضحية من أجلهم, ولكن المرأة أكثر قدرة من الرجل على كتمان هذه المشاعر, أو تحويلها تجاه الأبناء والأحفاد, كما أن الجنس لا يكون هاجسا كبيرا عندها لذلك قد يكفيها سماع أغنية عاطفية أو مشاهدة لقطة رومانسية أو بعض الأحاديث الودية الدافئة. وربما تكون هذه هي فتنة الخمسين, أو ما يسمى علميا بأزمة منتصف العمر. ولهذا قد يكون الحب بعد الخمسين حبا حقيقيا, أو تعويضا عن حب مفقود مع شريك خامل أو منتهي الصلاحية, أو نزوة تنتهي مع الوقت لكي تبدأ مرة أخرى بلا إشباع أو ارتواء. ويزداد الاندفاع نحو الحب بعد الخمسين لدى الأشخاص البعيدين عن أبنائهم وأحفادهم, فيتوقون إلى ملء وحدتهم وفراغهم العاطفي بحب جديد.
والحب والجنس لهما تأثير كبير على الصحة الجسدية والنفسية بعد الخمسين, فهما يبقيان على نضارة الجسد وحيويته, ويقويان جهاز المناعة ونشاط الغدد الصماء ويحافظان على توازن الهرمونات, ويعطيان إحساسا بالبهجة والراحة والثقة في النفس والأمل في الحياة, ويمنحان الشخص شبابا أطول, ويعطيان إحساسا بالرضا والسعادة, ويحافظان على اللياقة الجسدية والعاطفية والجنسية لفترات أطول في حياة الإنسان خاصة مع توافر وسائل الرعاية الصحية التي جعلت الناس يعيشون فترات عمرية أطول ويحتاجون لاستبقاء المشاعر التي تلون حياتهم وتمنح سنين العمر البهجة والمعنى والحياة والدفء.
والحب بعد الخمسين قد يدفع الشخص للبحث الأناني المباشر عن فرص للاستمتاع واللحاق بآخر محطات البهجة والسعادة بصرف النظر عن آثار ذلك على المنظومات الأسرية والاجتماعية والأخلاقية, وقد يندفع الشخص في علاقات متعددة في نفس الوقت أو متتالية وقد يضطر أن يتصابى (أو تتصابى) من خلال عمليات التجميل أو الأزياء الشبابية وأحيانا التصرفات الطائشة أو المجنونة, وهذا ما يجعله قفزة (أو قفزات) غير محسوبة في فراغ الزمن المتبقي, وهذا ليس الخيار الوحيد للحب بعد الخمسين, فثمة خيار إيجابي (إذا لم يكن تفعيل هذا الحب في علاقة حقيقية مشروعة ممكنا) وهو أن يتفتح القلب لهذه المشاعر ويعترف بها العقل ويحترمها ولكن يتسامى بها فعلا للخير أو صنعا للجمال أو عطاءً للمجتمع أو إبداعا إنسانيا خالدا في أي مجال من مجالات الحياة أو سموا روحانيا في آفاق علوية وقدسية صافية وراقية, وهذه الأشياء كلها داخلة تحت مظلة الحب, إذ وضع أحد الفلاسفة مراتب الحب كالتالي: حب الأشخاص, ثم حب أجمل ما في الأشخاص, ثم حب المعاني والقيم, ثم الحب الإلهي. لذلك فمن يعيش فقط في مستوى حب الأشخاص يغرق في دائرة ضيقة في أدنى مراتب الحب, كما أن الشخص بعد الخمسين تتفتح في نفسه إمكانات المراتب الأعلى للحب.
واقرأ أيضًا:
العشرة أم الحب / على باب الله: كلام في الحب مشاركة / ما هو المستحيل في الحب المستحيل? / إدمان ابتسامتها : ليس وسواسا بل حب ! م