كان يجلس وحيدا في شقته بعد أن غادرتها زوجته إلى بيت أهلها وأخذت معها ولديها الصغار، وفتح الراديو فوجد أم كلثوم تغني - وهو عاشق لأم كلثوم - ولكن المفاجأة اليوم أنها تغني له هو شخصيا وتتحدث عن أزمته مع زوجته، تلك الأزمة التي أخذتهما إلى حافة الطلاق، هل هذه صدفة أم أنها رسالة جاءته في صورة أغنية طالما عشقها وحفظ كلماتها، ولكنه يسمعها اليوم وكأنه يسمعها لأول مرة وهي تصور حالة العناد التي خيمت على أسرته الصغيرة فحرمته من زوجته وأطفاله الصغار، فراح يردد كلمات الأغنية وكأنه يريد أن يحفظها هذه المرة: "أنا وانت ظلمنا الحب بإيدينا وجبنا للظنون حيرة .. وودعنا الأمل مرات مابين الشك والحيرة .. .. ماحدش منّا كان عايز يكون أرحم من التاني ولا يضحي عن التاني .. وضاع الحب ضاع، مابين عند قلبي وقلبي ضاع .. ودلوقتي لا أنا بانساه، ولا بتنساه، ولا بنلقاه، أنا وانت"، وهنا سالت دموعه على خده وشعر بشوق شديد إلى أطفاله وزوجته، وهم بالتفكير في الذهاب إليها والاعتذار لها، ولكنه تذكر أن محاولاته السابقة فشلت، وأن زوجته ركبت رأسها وتملكها العناد ، ولم تعد تقبل العودة ورفعت قضية خلع.
العناد بين الزوجين هو أقصر طريق للطلاق، وهذا العناد قادر على أن يحول أجمل قصة حب إلى ذكريات أليمة وأن يمحو أثر كل سنوات العشرة والألفة والمودة، ويحول العلاقة إلى عداوة دائمة حتى بعد الطلاق، فما هو العناد ؟ ... وكيف ينشأ ؟ .. وهل هو في المرأة أكثر أم الرجل ؟ .. وما هي علاماته الظاهرة والخفيّة ؟ .. وكيف يسرق منا الحب ؟ .. وكيف يهدم البيوت المستقرة ؟ .. وأخيرا كيف نتجنب شروره في حياتنا عموما وفي الحياة الزوجية بوجه خاص؟.
العناد هو نوع من العدوان السلبي، وقد يكون في شكل صامت ويسمى صمت العناد والتجاهل، أو يكون في شكل ألفاظ تعطي صورة المخالفة والإصرار على رأي معين أو موقف معين مع الجمود والتشبث بهذا الرأي بصرف النظر عن تأثيره على الطرف الآخر، والشخص المعاند قد يكون ساديا فيستمتع بما يحدثه عناده من ألم وعذاب للطرف الآخر. وقد وجد أن الزوجات يكنّ أكثر ميلا للعناد من الأزواج، وربما يرجع السبب في ذلك إلى إحساس المرأة بأنها الطرف الأضعف في العلاقة الزواجية، أو تفتقد الثقة في نفسها، أو تشعر بأن زوجها مستبد بها ويقوم بقهرها وتهميشها والاستهانة بها أو تحقيرها، وقد يكون العناد ردا على إهانة أو دفاعا عن كرامة أو إثباتا لوجود مهدد، أو تعبيرا عن غضب وكراهية للطرف الآخر. وقد يكون مصدر العناد من خارج العلاقة الزواجية كأن تأتي به الزوجة من أسرتها الأصلية نتيجة ظروف ضاغطة عاشتها مع أب مستبد أو أم مستبدة أو أخ مستبد، وقد يحدث نفس الشيء للزوج أيضا. والأسرة التي تنتج أشخاصا لديهم درجة عالية من العناد تتسم بالسلطوية والتسلطية في التربية، كما يكون فيها اهتمام شديد بمن يمتلك السلطة ويسيطر ويتحكم في مسارات الأمور، وقد يقوم صراع على السلطة بين الزوجين، وتكون العلاقة بينهما علاقة تنافسية ندية.
وإذا كان أحد طرفي العلاقة الزواجية عنيدا والطرف الآخر ناضجا وعاقلا وقادرا على تفادي عناد شريكه (أو شريكها) فإن الأمر قد يمر مع بعض الصعوبات التي لا تصل إلى حد تهديد الاستقرار الزواجي، ولكن المشكلة تحدث حين يتسم سلوك الطرفين بالعناد، وهنا تتكون دائرة عناد مغلقة، ما بين العناد والعناد المقابل (صراع الرؤس الحديدية)، ثم ينتشر هذا السلوك العنيد ويمتد إلى الأطفال فتتشكل منظومة عناد في الأسرة كلها، ويحاول كل فرد فيها أن يكون أكثر عنادا من الباقين حتى يحصل على ما يريد ويحقق أهدافه على حساب الجميع، وفي هذه الحالة يفقد جميع أفراد الأسرة القدرة على كسر دائرة العناد أو الخروج من هذه المنظومة العنيدة وربما يحتاجون لمساعدة خارجية لإخراجهم منها، وإذا لم يحدث ذلك فإن العناد يهدم كيان الأسرة ويشقي كل أفرادها. والعناد معدي، فقد يكون موجودا لدى طرف واحد، ولكنه ينتقل إلى الطرف الآخر دون أن يدري لأنه يجد نفسه مضطرا لممارسة عناد مضاد يحافظ به على ذاته وحقوقه، أو ينتقم من الطرف الآخر الذي آذاه بعناده.
وقد يحتاج الزوجان لمساعدة مهنية متخصصة في صورة علاج زواجي لتحسين نوعية التواصل بينهما، ولتبصيرهما بسلوك العناد وعلاماته وآثاره عليهما، وأن يتعلما كيفية إدارة حوار هادئ فيه الاحترام والمودة والتقدير للطرفين. والمفترض في العلاقة الزوجية أنها علاقة تراحمية تكافلية، وأنها علاقة بين طرفين لدى كل منهما فائض يحتاجه الآخر، وليست فيها حساسية زائدة تدفع كل طرف للوقوف مكانه انتظارا لخضوع الطرف الآخر أو تسليمه بعد كل صراع ليتحكم فيه ويذله أو يقهره.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول للرجال : "استوصوا بالنساء خيرا"، ويقول للنساء : "لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها" .. ويقول للجميع : "ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟، قالوا بلى يا رسول الله، قال : "الودود الولود التي إن ظلمت أو ظلمت قالت: هذه ناصيتي بيدك، لا أذوق غمضا (أي نوما) حتى ترضى".
والتسامح واللين من المرأة ليس ضعفا أو خنوعا، وإنما استعلاءا على ميل النفس للصراع والعناد، وهذا كثيرا ما يجعل الزوج الكريم النبيل يراجع نفسه، وهذا ما رمت إليه السيدة أمامة بنت الحارث وهي تنصح ابنتها ليلة زفافها: "كوني له أمة يكن لك عبدا".. والأم الأخرى التي قالت لابنتها: "كوني له أرضا يكن لك سماءا"، وهذا هو التعامل الراقي الذي يطمئن الطرف الآخر على ذاته فينزع منه رغبته في العناد ويجعله يراجع نفسه.
ولا يليق بالزوج أن يترك زوجته تصالحه وتعتذر له أو تسترضيه في كل مرة يدب بينهما خلاف أو عناد، بل عليه أن يبادر هو أيضا وأن يملك القدرة على التسامح والاحتواء والغفران والتغاضي عن الزلات.
واقرأ أيضًا:
العشرة أم الحب / على باب الله: كلام في الحب مشاركة / ما هو المستحيل في الحب المستحيل? / الحب بعد الخمسين ... قفزة في فراغ الزمن المتبقي