لم يعد مرض الصرع ونحن قد شارفنا على نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، هو ذاك الدَّاء الذي تشوبه الخرافات والمفاهيم الخاطئة كما كان في سالف الأزمان، ولم يعد صاحبه يُنعت بالجنون أو المرض العقلي، فقد أضحى معروفاً أنه اضطراب جسدي عصبي ينجم عن خلل نوبي غير مضبوط قصير المدة في الإيقاع «النظم» الكهربائي الطبيعي لنشاط الدماغ، فيظهر على جسم المريض بأشكال مختلفة تتراوح من النوب المتكررة من فقد الوعي الكامل والسقوط على الأرض مع التشنج والخلجان في الأطراف الأربعة «الصرع الكبير المعمم»، إلى نوب الاهتزازات الخفيفة بأحد الأطراف «الصرع الجزئي البسيط» أو نوب فقد الاستجابة الشائعة لدى الأطفال «صرع الغياب» أو غيرها من الأشكال. وبتطور علوم الطب والدواء، أصبح هناك الكثير من العلاجات التي تساهم في ضبط هذه النوب وعودة المريض للحياة الطبيعية ومن ثم الشفاء الكامل للمرض بعد مرور عدة سنوات، فالتخلص من الدواء نهائياً في معظم الحالات وذلك اعتماداً على معايير يحدّدها الطبيب المشرف.
مع شهر رمضان من كل عام، يسارع المرضى وذووهم، إلى عيادات المخ والأعصاب، وهم في حالة حيرة وتساؤل عن إمكانية الصيام وكيفية تناول العلاج، وهل سيؤثر الصيام سلباً على تواتر (تكرار) النوب أو أنه سيحرّضها. والحقيقة أنه لوحظ عموماً وجود زيادة في تواتر (تكرار) النوب لدى مرضى الصرع خلال شهر رمضان، بالرغم من أن الدواء المعطى جرعاته هي نفسها قبل رمضان، إلا أن هذه الزيادة تُعزى في الغالب إلى تغير نظام تناول الدواء بسبب الصيام طويل المدة جاعلاً المدة الزمنية الفاصلة بين جرعتين أكبر (وبالتالي تضطرب الحركية الدوائية في الجسم pharmacokinetics وفعالية الدواء)، فضلاً عن نقص مدة النوم أو تقطّعه وتغير النظم اليومي circadian rhythm مع التوتر العاطفي والتعب، وكذلك نوعية الطعام المتناول بما له من تأثير على امتصاص الدواء (وبالتالي تركيزه في الدم).
بشكل عام يمكن لمريض الصرع ذو النوب المضبوطة على العلاج قبل رمضان بعدة شهور أن يصوم بشكل آمن في حال عدم تعرضه للعوامل المثيرة للنوب. والنصيحة الذهبيّة هنا هي الالتزام بالدواء وعدم تركه نهائياً، والحذر كل الحذر من القطع المفاجئ للدواء مع بدء رمضان، لأن ذلك يحمل خطورة عالية لتكرار النوب والتي قد تصبح شديدة ومتكررة أو ربما مهدّدة للحياة لا قدّر الله..
وفيما يلي مجموعة من النصائح الأخرى لمرضى الصرع مع بداية شهر رمضان:
1. بالنسبة للدواء: من الأفضل زيارة الطبيب المتابع للحالة قبل دخول شهر الصيام بفترة لا تقل عن عدة أسابيع، والذي سيأخذ بالاعتبار شكل النوب التي يعاني منها المريض ومدى انضباطها قبل رمضان ونوع الدواء الموصوف، وبالتالي يمكن بالتنسيق مع الطبيب القيام بتعديل مواعيد تناول الدواء تدريجياً حتى تصل في اليوم الأول من رمضان إلى موعدي تناول وجبتي الفطور والسحور، وذلك بالنسبة للأدوية التي يجب تناولها مرتين باليوم (مثل كاربامازبين، فالبروات الصوديوم، توبيرامات)، وبالمقابل هناك الأدوية التي يمكن تناولها مرة واحدة باليوم (مثل فينوتوئين، لاموتريجين) سيوصي الطبيب بتناولها إما مع السحور أو بعد الإفطار.
2. التأكيد على ضرورة تناول وجبة السحور وتأخيرها إلى ما قبل الفجر مباشرةً، فالجوع الشديد هو عامل خطر معروف يزيد من احتمال حدوث نوبة الصرع. ولا ضير في أن تكون وجبة السحور غنية بالسكريات لتجنب انخفاض سكر الدم نهاراً وبالتالي تحريض نوبة الصرع.
3. شرب كمية جيدة من الماء خلال فترة المساء بعد الإفطار، تتراوح من 2.5 إلى 3 لترات يومياً، وذلك لتجنب الجفاف نهاراً وخصوصاً في فصل الصيف، الأمر الذي قد يؤدي إلى خلل التوازن والاستقرار الداخلي في الجسم (مثل ارتفاع تركيز الصوديوم في الدم) مما قد يحرض نوبة الصرع.
4. تجنب النشاط الجسدي الزائد والإرهاق نهاراً، مثل الرياضة والجري والسفر، بل الاكتفاء بالنشاط الروتيني المعتاد (الذهاب للعمل أو المدرسة). يفضل تأجيل ممارسة الرياضة أو الأعمال المجهدة إلى فترة ما بعد الإفطار، وذلك منعاً من انخفاض سكر الدم أيضا وبالتالي تحريض نوبة الصرع.
5. الحفاظ على جودة النوم عبر أخذ القسط الكافي من النوم بما لا يقل عن 7 - 8 ساعات يومياً بالنسبة للبالغين و 9 - 11 ساعة للأطفال.
6. تجنب التوتر النفسي والهياج والانفعالات الزائدة والقلق، نظراً لما تحمله هذه العوامل من تأثير سلبي على النوب.
7. تجنب الجلوس الطويل أمام شاشة التلفاز أو الحاسوب وألعاب الفيديو وما يشابهها من الأجهزة الإلكترونية، بالإضافة إلى الأماكن الصاخبة والضجيج العالي كي لا تتم إثارة الخلايا العصبية الدماغية وبالتالي تحريض النوب لدى بعض المرضى.
8. تجنب قيادة السيارة قدر الإمكان واستبدالها بوسائل النقل العام أو سيارات الأجرة أو الركوب مع زميل أو جار في سيارته.
من جهة أخرى، فقد قام مجموعة من الأطباء بعلاج بعض مرضى الصرع عن طريق الصيام أو اتباع نظام غذائي معين (الحمية الكيتوجينية)، يُعتمد فيه على الدهون كغذاء أساسي مما يؤدي إلى توليد الأجسام الكيتونية ذات الدور الفعّال في ضبط نوبات الصرع، إلا أن هذه الطريقة ما تزال محدودة الاستخدام نظراً لما تحتاجه من إشراف طبي دقيق من قبل متخصص خبير، فضلاً عن كونها طريقة ذات طابع شخصي تتطلب مراقبة حالة كل مريض على حدة. وتبقى القاعدة هي أن الصيام يزيد من احتمال تكرار النوب عموماً، ولتجنب ذلك يوصى المرضى بإتباع النصائح المذكورة أعلاه.
واقرأ أيضاً:
الصرع عام ٢٠١٦ / الصرع.. أما آن الأوان أن نغير هذا المصطلح؟ / الصرع في الأطفال: نصائح عملية / الصرع بين العلم والدجل والطب النفسي