كلما اطلعت على حياة جهابذة الثقافة والمعرفة العربية في أوج توهجها، أجدهم يشتركون بميزة واحدة، هي أنهم قد حفظوا القرآن وهم دون العاشرة من العمر. ورحت أتساءل عن هل لهذه الميزة من تأثير على السلوك والتفكير. ولي صديق أولاده قد حفظوا القرآن وهم دون العشرين وبرعوا بذلك، والتقيت بأحدهم متأملا سلوكه وكيف يفكر ويرى ويتفاعل وما هي نشاطاته وطموحاته.
وكنت في صغري قد حاولت حفظ القرآن، ومضيت في ذلك إلى ثلثه، وأخذت أبحث في نفسي وفي ما يميز الآخرين الذين يحفظون القرآن، وانتهيت إلى خلاصة مفادها، أن حفظ القرآن يثري المفردات اللغوية ويوفر للدماغ أدوات للتفكير المطلق، ويحقق آليات يتفكرون ويتعقلون، مما يؤدي إلى إبداعات أصيلة ومؤثرة في البناء الحضاري الإنساني. كما أنه يحبب اللغة إلى الإنسان ويُعلمه بأنها النبع الذي يمده بقدرات العطاء والخلق والنماء الفكري والعقلي.
فالقرآن يزوّد الدماغ بأكثر من خمسين ألف مفردة لغوية، وهذا معين يؤهله للنظر في ما يدور حوله من أكوان ويوسع مداركه وقدراته الاستيعابية.
والمطلع على تأريخ المعارف العربية، يرى أن القرآن قد حفّز العرب على دراسة اللغة العربية وابتكار علومها ونحوها وقواعدها، وما تمخض عنها من مدارس واتجاهات لغوية، ففي أقل من قرن بعد نزول القرآن صار للغة العربية علومها وفقهاءها وعلماءها ومدارسها في البصرة والكوفة والفسطاط وغيرها. وبانبثاق ينابيع اللغة العربية وازدهار مفرداتها وتفاعل العقول معها أضفت على الحضارة الإنسانية أنوارا غير مسبوقة، وأضاءت دروب الوجود الأرضي في جوانبه الفكرية والنفسية والروحية. أي بازدهار اللغة العربية ازدهر العرب، لأنهم تعلموا كيف يتفكرون ويعقلون الأمور والأحداث ويساهمون بصناعتها وتطويعها.
ومن الواضح أن الخمول اللغوي قد تسبب بخمول حضاري، فالعربي اليوم من أفقر بشر الدنيا بالمفردات اللغوية، وهو في قبضة اللغة العامية التي لا تمنحه سوى عدد محدود من المفردات، التي تؤهله للتدحرج والتبعية والانصياع، وتمنع عنه هواء الحرية والإبداع والعطاء. أي أن العقول العربية معطلة بسبب الافتقار المَعجمي أو الخواء المُفرداتي.
والذي يجهله العرب ويدركه جيدا الطامعون بهم، إن قوة العرب في لغتهم، وسطوعهم الثقافي والعلمي وسيادتهم المشرقة الطويلة على العالم سببها لغتهم، التي أطلق القرآن ما فيها من المفردات الكفيلة بصناعة الذات الحضارية الأبية العزومة المقدامة المتحدية العزيزة البلاء.
هذه اللغة المحفزة للطاقات الفكرية والإبداعية العربية، بدأت محاربتها وبعنفوان شديد منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وبشتى الوسائل والأساليب والأفاعيل، وأسهم في هذه الحرب الضروس عدد من الأنظمة العربية الجاهلة، حتى وصلنا اليوم إلى جلوس أناس على قمة الأنظمة الحاكمة بعقول خاوية لا تحوي إلا بضعة مئات من المفردات العربية، ويعجزون على النطق بلسان عربي فصيح.
وجوهر الحرب على اللغة العربية يتلخص بتجفيف مخازنها المفرداتية في الأدمغة العربية، لإضعاف التفكير وتضمير العقل وتسويغ العواطف والانفعالات وتمكينها من الفتك بالوجود العربي.
فقوة الأمم والشعوب تقاس بقوة عقولها التي ترتكز على ثرائها المَعجمي، ولهذا تجد المجتمعات المتقدمة تضخ ما تستطيعه من المفردات في رؤوس أبنائها، ومنذ سن مبكرة جدا قد تبدأ حال تمكن الطفل من النطق بالكلام، كما أن رياض الأطفال والمدارس الابتدائية تنشط بحشد المفردات في رؤوس التلاميذ، بل إن من أهم امتحانات الدخول للجامعات هو اختبار مدى القدرة على فهم ومعرفة معاني المفردات اللغوية.
بينما في مجتمعاتنا تم تنشأتنا على مقت الكلمة ومعناها، وتحويل هذا النشاط أو الدرس إلى موضوع ثقيل وكريه وممل جدا. فالتلميذ يمقت الكلمة ومعناها باللغة العربية، ويتم تحبيبها إليه باللغات الأجنبية التي يُطلب منه تعلمها، كما أن تدريس اللغة الأجنبية تكون حصصه أكبر، في مرحلة دراستي منذ الابتدائية وحتى نهاية الإعدادية، كانت حصة اللغة الإنكليزية يومية واللغة العربية أسبوعية، واليوم ربما انتفت من المدارس.
إن هذا السلوك المقصود والخفي أو الغير منظور يساهم في تفريغ الأجيال من محتواها الحضاري، وتحويلها إلى بضائع تباع وتُشترى في أسواق الاستعباد والافتراس، والامتهان الغابي العاصف في أرجاء الدنيا المتحاملة الأركان والمتهاوية البنيان.
فهل من يقظة لغوية عربية لتنمية العقول وتأهيل النفوس وتهذيب السلوك؟!!
واقرأ أيضاً:
برانويا الكراسي!! / كفوء ومنكفئ!! / البشر معضلة البشر!! / التنبؤية العربية السلبية!! / التعليم والتحطيم!!