حقيقة المس الشيطاني1
الدكتور مِسْمَر والمغناطيس:
في القرن الثامن عشر ميلادي خطر ببال طبيب ألماني من النمسا اسمه فرانز آنتون مِسْمَر Franz Anton Mesmer أن الأمراض النفسية والبدنية سببها اختلال في المغناطيسية الحيوانية الموجودة في جسم الإنسان، وأن إعادة موازنتها تشفي الناس من أمراضهم، وبدأ يسقي المرضى شراباً غنياً بالحديد ويمرر مغناطيساً على أجسادهم، فيتحسن كثير منهم ويشفى مما كان يشكو منه. في موطنه فيينّا اعتبر مِسْمَر Mesmer دجالاً وسحبوا منه الترخيص، فرحل إلى باريس حيث نجح نجاحاً رائعاً، وصار يعالج مرضاه كمجموعات يمسك بعضهم بأيدي بعض، ويطوف هو عليهم بمغناطيسه يلمس أجسادهم. ثم خطر بباله أن يستغني عن المغناطيس الحديدي وأن يعالجهم بمغناطيسية بدنه هو، فصار يلمس أجساد المرضى بيده، تماماً كما يفعل المعالجون بالطاقة هذه الأيام. ورغم سخافة الفكرة كان الكثير من مرضى مِسمر Mesmer يشعرون بالتحسن.
ذاع صيت مِسمر Mesmer وتشكك الأطباء في أمره، فأمر ملك فرنسا يومها بتشكيل لجنة علمية تحقق في أمر مِسمر وعلاجه، وتوصلت اللجنة -وقد كان فيها الأمريكي بنجامين فرانكلين- إلى أن المرضى يتحسنون عند مِسمر Mesmer بالإيحاء فقط، وأنه لا فائدة للمغناطيس ولا للمغناطسية البدنية على الإطلاق في علاجهم، وأن ادعاءات مِسمر عن المغناطيسية الحيوانية في جسمه وأجسام البشر الآخرين إنما هو ادعاء لا دليل عليه. تم منع مِسمر من ممارسة شعوذته ومات فقيراً مُعْدِماً. لكن بعد حين، وفي أمريكا، أحيوا صرعة مِسمر Mesmer إنما دون مغناطيس، وأسموا ذلك "التنويم الإيحائي" "الهَبْنَسَة" "Hypnosis" وما يزال اسم "التنويم المغناطيسي" هو الشائع في الثقافة العربية.
المهم أنه أثناء الهَبْنَسَة التي كان مِسمر يقوم بها، كان الكثير من مرضاه يصابون بالتشنجات والاختلاجات نفسها التي تصيب المرضى أثنا قراءة الشيخ عليهم لإخراج الجن منهم. لم يكن مِسْمر يحاورهم، وبالتالي كان ما يظهر على بعض المرضى لا يصل إلى حد تقمص هوية جديدة والادعاء أنه جني دخل بدن هذا الإنسي أو غير ذلك مما يحدث عند الشيخ أو القسيس. أي كانت تصيبهم حالات هستيرية فُكاكية لا تصل حد اضطراب الهُوية الفُكاكي الذي تحدثنا عنه.
الهَبْنَسَة وفُكاك الوعي:
استمرت الهَبْنَسَة أو التنويم الإيحائي Hypnosis وتحولت إلى فن وطريقة للعلاج تُمنح فيها الدرجات العلمية، ويذكر تاريخ الطب أن كثيراً من المرضى أجريت لهم عمليات جراحية وهم مُهَبْنسين Hypnotized دون تخدير، وذلك قبل تقدم التخدير الدوائي الذي وجدوه أفضل وأثبت وليس فيه خطر أن يصحو المريض في منتصف العملية ويحتاج إلى الهبنسة من جديد. أثناء التهبنس والدخول في حالة من الوعي ليست نوماً ولا يقظة إنما حالة غير مألوفة في الحياة اليومية يصاب الشخص بالخدر، ولا يشعر بالألم، وهذا ما يفسر عدم شعور المرضى بالألم عندما يضربهم الشيخ بعصاه، معتقداً أنه إنما يضرب الجني ليطرده من بدن المريض، وأن الضرب يقع على الجني ولا يقع على المريض، لذلك لا يشعر به المريض ولا يذكره عندما يصحو، ويذكرني بالصحابي الذي قرر الأطباء قطع ساقه لكنه رفض أن يشرب الخمر ليتخدر، بل طلب منهم أن يقطعوها وهو في الصلاة، حيث كان يدخل في "هبنسة ذاتية" Self-Hypnosis يقوم بها بعض الناس كوسيلة للتخلص من التوتر النفسي في هذا العصر دون ربطها بصلاة المسلمين.
الهبنسة Hypnosis هي مساعدة المريض الذي عنده قابلية للفُكاك في الوعي Dissociation على الدخول في تلك الحالة الفُكاكية عن طريق طقوس إيحائية يجيدها بعض من يسمون أنفسهم مُهَبْنِسون أي منوِّمون مغناطيسيون .Hypnotist ومن الناس من ينفك الوعي عندهم بسبب الضغوط النفسية أو مرض الاكتئاب، فيتم إحضارهم إلى أقسام الطوارىء في المستشفيات، وتشخص حالاتهم على أنها هستيريا. حدوث الهَبْنَسة يعتمد من جهة على مهارة من يقوم بها وقدرته على الإيحاء، ومن جهة أخرى على قابلية من تقع عليه الهبنسة للتهبنس والإيحاء عموماً، حتى دون الإيحاء الصريح له أن يسترخي ويشعر بكذا وكذا ليتم إدخالة في حالة التهبنس. كثير من الناس البسطاء وقليلي الثقافة وخاصة النساء والأطفال يتهبنسون وينفك وعيها بمجرد الشعور بالرهبة عند الشيخ أو القسيس، فيتغير وعيهم، ويتشنجون، ويتقمصون هوية الجني الذي ركب هذا المريض، ويحاورون الشيخ أو القسيس. إن هذه القابلية العالية للإيحاء والتَّهَبْنُس Hypnotization الموجودة عند البعض، والتي تجعلهم يتهبنسون عند الشيخ أو القسيس، هي معيار التشخيص عند هذا المعالج، حيث يقول لمن يتهبنس حتى لو لم يتكلم على لسانه جني: إنه ممسوس، ويقول لمن لا يتأثر بل يبقى محافظاً على وعيه الطبيعي رغم القراءة: إنه لا يعاني من المس.
ادخلوا على اليوتيوب وابحثوا عن "إخراج الجني من الإنسان" وعن الأخ "سعيد عبده" والأب "مكاري يونان" لتشاهدوا حوارات الجان على ألسنة المرضى وخروجه منهم خوفاً من "يسوع الرب"، أو على يد الشيوخ المسلمين حيث الحوار يأخذ منحىً آخر ويكون خروج الجني بفعل آيات القرآن وعقيدة لا إله إلا الله. اليوتيوب غني جداً بهذه التسجيلات ومن السهل من خلاله مشاهدة حالات "فُكاك الوعي" و"تعدد الهُوية" الذي يقع تحت الإيحاء عند الشيخ أو القسيس، ويمكنكم أن تتأملوا الحوارات الساذجة التي تعكس معتقدات المرضى وثقافتهم بما يخص المس الشيطاني، لتروا: هل تصلح هذه التخريفات لنأخذ منها عقيدة دينية أحياناً نكفر من ينكرها؟
المس الشيطاني ليس من ديننا:
حان الحديث عن كيف أن الاعتقاد بدخول الجني في الإنسي وكلامه على لسانه إنما هو دخيل على ديننا تسرب إليه من معتقدات الجاهلية العربية ومن خرافات الشعوب الأخرى. من يدعون أن المس جاء في القرآن وأن النبي عالج مريضاً بإخراج الشيطان منه يستندون كثيراً على قوله تعالى: " الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.... ﴿275 البقرة 2﴾"، والذي يحدث للمرضى عند الشيخ والقسيس عند محاولة إخراج الجني من أبدانهم هو نوع من التخبط، وهكذا تبدو هذه الآية دليلاً قطعياً على صحة الاعتقاد أن الجني يدخل في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه.
جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حكى فيه قصة معراجه إلى السماء واطلاعه على أحوال بعض أهل النار أن منهم من كلما أراد القيام والوقوف صُرِع إلى الأرض، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الآية الكريمة السابقة. إنهم يُصرعون كما يُصرع مريض الصرع Epilepsy والشيخ والقسيس ينصحان مريض الصرع أن يراجع الأطباء وينفيان أن يكون ذلك مساً من الجن، بل يقولان له: عندك كهرباء راجع الأطباء، ولا يحاولان علاجه لأنهما متأكدان من الإخفاق وعدم النجاح.
روى الألباني في السلسلة الصحيحة عن عوف بن مالك الأشجعي قول النبي صلى الله عليه وسلم له: "إياك والذنوبَ التي لا تُغفَرُ، فمن غَلَّ شيئًا أُتِيَ به يومَ القيامةِ، وأكلَ الرِّبا؛ فمن أكل الرِّبا بُعِثَ يومَ القيامةِ مجنونًا يتخبَّطُ، ثم قرأ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة : 275]".
"المس" في لغة العرب هو "الجنون"، والمعاجم ناطقة بذلك، بل كل ما له علاقة بالوعي عند الإنسان كان العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم يسمونه جنوناً أو مساً. يروي أبو هريرة كيف أغمي عليه ذات مرة من شدة الجوع، فصار البعض يحاول علاجه بوضع رجله على عنق أبي هريرة، ولعلها كانت طريقتهم في إخراج الجني من الممسوس أو المجنون. روى البخاري في صحيحه: "حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مُمَشَّقَانِ مِنْ كَتَّانٍ، فَتَمَخَّطَ، فَقَالَ: بَخْ بَخْ، أَبُو هُرَيْرَةَ يَتَمَخَّطُ فِي الكَتَّانِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الجَائِي فَيَضَعْ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي، وَيُرَى أَنِّي مَجْنُونٌ، وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ مَا بِي إِلَّا الجُوعُ". إذن كل ما يطرأ على وعي الإنسان من حالة غير طبيعية يسميه العرب المس أو الجنون، والقرآن نزل بلغة العرب بحيث يفهمونه بسهولة ويسر ودقة.
ثم في القرآن والحديث الشريف أدب "عزو" أي نِسبة كل ما هو سيء إلى الشيطان، لذا تعزو الآية الكريمة التخبط الذي يقع للمصروع في نوبة صرعه إلى الشيطان، وهو أدب متبع نلحظه في القرآن الكريم في مواقع عديدة منها:
"قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴿63 الكهف 18﴾". نسب النسيان للشيطان.
"وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ﴿15 القصص 28﴾". لقد نسب موسى عليه السلام تسرعه ووكزه للرجل والتسبب بموته إلى الشيطان.
"وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴿41 ص 38﴾". وهنا أيوب يعزو ما أصابه من بلاء قدره الله عليه ليبتلي صبره إلى الشيطان، بينما القرآن صريح أن الشيطان لا سلطان له على أحد إلا أن يوسوس له: "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" ﴿22 ابراهيم 14﴾، وقال تعالى مخاطباً الشيطان: "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ" ﴿42 الحجر 15﴾، كما قال عن الشيطان: "إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" ﴿99 النحل 16﴾، وقال أيضاً: "إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ" ﴿100 النحل 16﴾، "إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا" ﴿65 الإسراء 17﴾.
إذن قول أيوب عليه السلام: "مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ" ما هو إلا أدب منه مع الله وليس للشيطان عليه أي سلطة، بل كيد الشيطان محصور في الوسوسة كما جاء في الحديث الشريف التالي: " جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال يا رسولَ اللهِ إنَّ أحدَنا يجدُ في نفسِه، يعرضُ بالشيء، لأن يكونُ حممةٌ أحبَّ إليه من أن يتكلَّم به، فقال: اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، الحمدُ للهِ الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسةِ"، رواه الألباني في صحيح أبي داود، وفي رواية أخرى: "الحمدُ للهِ الذي ردَّ أمرَه إلى الوَسْوسة".
ليس للشيطان علينا من اقتدار إلا الوسوسة لنا بالمعصية، لكن نعزو كل ما يسوءنا إلى الشيطان تأدباً أن نعزوه إلى الله الذي لا يقع في الوجود شيء إلا بقدره.
إن دخول الجني في بدن الإنسان لو صح أنه ممكن فإنه يناقض القرآن والحديث، وكلاهما صريح أنه ليس للشيطان إلا أن يوسوس، ولم يجعل الله له علينا من سلطان على الإطلاق.
ويتبع >>>>>: حقيقة المس الشيطاني3
واقرأ أيضًا:
أسس النظرية النفسية الإسلامية الأولى(1-4) / الاستشفاء بالقرآن في الطب النفسي المعاصر