الخرافة والوسواس القهري ما العلاقة !1
الخرافة والوسواس القهري دوائر عصبية مشتركة
من المعروف أن منشأ الطقوس في اضطراب الوسواس القهري يتضمن أساسًا النوى القاعدية Basal Ganglia والتي تمثل "جهاز العادة Habit System" في المخ (Pitman, 1989) وكذلك ارتباطات النوى القاعدية بالقشرة الجبهية الحجاجية أو (المدارية) Orbito-Frontal Cortex والخلل الوظيفي في هذه الدائرة العصبية بارز الدور ومعروف في مرضى اضطراب الوسواس القهري واضطرابات الطيف الوسواسي بشكل عام، وهذه المناطق هي مناطق المخ المسؤولة عن الإجراءات السلوكية المتكررة والتي يتحكم الشخص الطبيعي في تكرارها من عدمه، بينما في حالة الوسواس القهري ينظر المريض عادة إلى قهوره واعيا بصورتها النمطية وعدم عقلانيتها. لكن ذلك لا يمكّنه من التوقف عن تكرارها، وسواء كانت الطقوس أو الأفعال التكرارية مدفوعة بفكرة خرافية أو لا فإن التكرار والمثابرة سمة الطقوس القهرية.
وأما مناطق المخ المسؤولة عن التفكير الخرافي أو التصديق والتمسك بالقناعات الوسواسية أو المعتقدات الخرافية فهي مناطق المخ الصدغية الإنسية Medial Temporal Lobe وخاصة الحصين Hippocampus فإحدى المهام البارزة للحُصين هي تعزيز التنوع السلوكي (Atmaca, et al., 2008)، ويُعتقد حسب هذه النظرية أن أعراض الوسواس القهري تنتج من فشل الحصين في كبح "جهاز العادة" والإخفاق بالتالي في إيقاف التكرار عديم المعنى للسلوك، ويذكرنا ذلك بعلاقة الفص الصدغي الإنسي للمخ بالتدين وبما تثبتُه متابعةُ عديدين من مرضى التشنجات التي يكونُ مصدرها هو الفص الصدغي للمخ أي صرع الفص الصدغي Temporal Lobe Epilepsy فبعضُ هؤلاءِ المرضى تتمثلُ نوبات الصرع لديهم في حالةٍ من الوجد والنشوة الدينية أو الانجذاب الصوفي Ecstasy وبعضهم يعانونَ بعد فترةٍ من حياتهم مع ذلك المرض من تغير في الشخصية (Geschwind , 1979) يتميزُ بزيادة الاهتمام بالأمور الدينية أو التدين المفرط Hyper Religiosity والرسم أو الكتابة المفرطة Hypergraphia والتي يظهر فيها الاهتمامُ بالتفاصيل ويصف بعضهم رسومهم أو كتاباتهم تلك بأنها كتابةٌ قهريةٌ كما يعاني الكثيرون منهم من الوسوسة والانشغال بموضوعات صوفية ودينية وخوارق واعتقادات مبالغ فيها بوجود سبب غير محسوس للمصادفات،
وإذا نظرنا إلى المسارات العصبية للسيروتونين في الدماغ فإننا سنجدُ أنها تشملُ مناطقَ كالقشرة القبل جبهية Prefrontal Cortex والنوى القاعدية Basal Ganglia وكذلك قشرة الجهاز الحوفي Limbic Cortex وكذلك النواةُ اللوزية Amygdaloid Nucleus والتي ترتبطُ مع الفص الصدغي بالعديد من الوصلات العصبية التي يؤدي النشاطُ فيها إلى إضفاء صبغةٍ كونيةٍ عميقةٍ وأهميةٍ لكل ما يحسُّ به الشخص من حوله ويدركهُ وكذلك أيضًا الوطاء Hypothalamus (وائل أبو هندي، 2003) وهذه الصبغة الكونية والأهمية يمكن أن ترتبط بما هو خرافي مثلما يمكن أن ترتبط بالتدين، ومن المعروف أن آفات الجزء الإنسي من الفص الصدغي يصحبها ظهور المعتقدات الخرافية، كما يحدث عرض التفكير القهري Forced Thinking كجزء من النوبة في حوالي 2% من مرضى صرع الفص الصدغي، بمعنى آخر هناك تشابه كبير وتداخل بين الدوائر والأجزاء العصبية المخية المسؤولة عن أعراض كل من الوسواس القهري وتصديق الخرافة.
حكاية الرقم 13 ويوم الجمعة
بعض الباحثين يوسعونَ نطاق ما يرونه تفكيرًا خرافيا فيضمونَ تحتهُ كلَّ ما تعزى من خلاله قدراتٌ لقوى غيبية أو ما وراءَ طبيعية Supernatural or Metaphysical Powers ويضمون له بالتالي الكثيرَ من الأفكار والمعتقدات الدينية التي تخصهم والتي لا تخصهم ، وقد استهوتني ظاهرة الخوفُ من يوم الجمعة ومن الرقم13 أو ما يسمونهُ رهبة العدد 13 Triskaidekaphobia أو Paraskevidekatriaphobia، وقد قمتُ ببحثٍ منذ سنوات لأعرفَ المنشأ الأصلي للتشاؤم من يوم الجمعة ومن الرقم 13، والتشاؤم بصورةٍ أكبرَ من أن توافقَ إحدى الجمع اليوم الثالثَ عشر من أحد الشهور وهوَ ما يحدثُ بالطبع ما بينَ مرةٍ وثلاث مراتٍ كلَّ سنة، فكانت النتيجةُ (وائل أبو هندي، 2003)، كما تجدونها في مقالنا : التشاؤم والوسوسة هل من علاقة ؟
وكثيرا ما سمعت موسوسات يحذرن صغارهن من الخروج أو اللعب يوم الجمعة ! وتبريرهن هو "فيه ساعة نحس"...!! وهو ما يبدو في ثقافتنا خرافة تناقض التعليم الديني على الأقل للأغلبية المسلمة، وتفصيل ذلك عرضناه في الرابط أعلاه، وكنت منذ فترة أناقش من أسمعها تقول ذلك فأقول دينك يقول بأن في يوم الجمعة ساعة إجابة لكل الدعاء ما لم يكن حراما، ومن أغلبهن جاءت إجابات مثل "ونعم بالله"! وبعضهن قالت فيه ساعة إجابة وفيه ساعة نحس!، لكن من المهم الانتباه إلى نقطة أن الإيمان بالخرافة كثيرا ما يقف في تناقض صارخ مع معطيات الشخصية أي أن لا شيء يمنع أستاذة جامعية تحمل شهادة الدكتوراه في الفيزياء النووية مثلا من أن تؤمن بخرافة كساعة النحس في يوم الجمعة.
وليست خرافة التشاؤم من الرقم 13 ويوم الجمعة عند الغربيين وبعض الشرقيين وحيدة فهناك غيرها، على سبيل المثال :
- حكة راحة اليد معناه حظ جيد إذ يعتقد البعض أنه إذا شعرت بحكة راحة اليد اليمنى فستقابل شخصًا جديدًا، بينما تعني حكة راحة اليد اليسرى أن مالا سيأتيك، ويقول آخرون أن الحكة في راحة اليد اليمنى تعني دخول الأموال وفي اليسرى تنبئ بخروج الأموال، وقد سمعت ذلك من كثيرين كما عالجت مرضى وسواس قهري كانوا يتخذون قراراتهم بالفعل بناء على حصول حكة اليد، ولا يحكون راحاتهم لأن حك راحة اليد قبل حدوث المنتظر يتسبب في إبطال التأثير....
- رش الملح يطرد الأرواح الشريرة، وهذه شائعة في بلادنا وفي غيرها ....
- لمس الخشب يبطل مفعول العين و/أو الحسد وهي كذلك شائعة في بلادنا وفي غيرها ....
- الخرز الأزرق، وكف اليد ورقم خمسة ...إلخ للحفظ من الحسد ...إلخ.
رغم كل ما سبق ويظهر التداخل والتشابه بين التفكير والسلوك الخرافي وبين التفكير والسلوك القهري، ورغم ما نراه أحيانا من تفاعل مرضى الوسواس القهري من ذوي الأفكار السحرية مع الخرافات الشائعة المتعلقة بأرقام أو ألوان أو كلمات أو أفعال أو أقوال أو أشياء محظوظة أو غير محظوظة ويربطونها بكارثة أو "أشياء سيئة" قد تحدث وينشغلون كثيرا بذلك، فمن مرضى الوسواس من يصف لمعالجه أفكارا خرافية تخصه وحده أي من نسيج عقله هو، ومنهم من يعاني بسبب واحدة أو أكثر من الخرافات الشائعة، ولكن حتى الآن لم أهتد لبحث يظهر ما إذا كان مرضى الوسواس القهري أكثر ميلا لتصديق الخرافات الشائعة من غيرهم.
المراجع :
1- Pitman RK.(1989): Animal models of compulsive behavior. Biol Psychiatry, 1989;26:189-198.
2- Atmaca M, Yildirim H, Ozdemir H, Ozler S, Kara B, Ozler Z, Kanmaz E, Mermi O, Tezcan E. (2008) Hippocampus and amygdalar volumes in patients with refractory obsessive-compulsive disorder. Prog Neuro-Psychopharm Biol Psychiatry 2008;32:1283-1286.
3- Geschwind , N. (1979) : Behavioral Changes in Temporal Lobe Epilepsy. Psychological Medicine ,1979, Volume 9, page 217-219.
4- Jack Hitt (1994) : Off the Road: A Modern-Day Walk Down the Pilgrim’s Route Into Spain. 1994, published by Simon & Schuster, ISBN 0-671-75818-7.
5- وائل أبو هندي (2003): الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي، عالم المعرفة إصدار يونيو 2003 عدد 293
6- Charles P. (1925) : Popular Superstitions. Republished by Gale Res. Comp., BookTower, Detroit, 1973.
واقرأ أيضًا:
وسواس اللااكتمال التكرار القهري و.ل.ت.ق مقدمة2 / شعور اللاّكتمال وخبرات ليس صحيح تماما خ.ل.ص.ت NJREs