الرثاء يطغى في "الشعر ديوان العرب"، ويكاد أن يتسيّد دواوين الشعراء الكبار حتى في القرن العشرين، ويأتي بعده المديح والغزل والافتخار، أما معالجة الحالات الإنسانية والفكرية والجمالية النبيلة السامية، فإنها قليلة وربما غريبة.
فأغراض الشعر معروفة وما تبدلت ولا يزال الرثاء سيّدها، ولو تأملتم الشعر الحديث لوجدتم الرثاء هو الذي يسوده أيضا، وتصفحتم أي موقع ثقافي فيه شعر، لتبين أن معظم المنشور رثائي بكائي، وفيه جلد عنيف للذات، والعجيب في الأمر، أن شعر البكاء والدموع والانقضاض على وجود الأمة، والتقليل من قيمتها ودورها يلقى رواجا، ولولا الإقبال عليه لما تواصل الشعراء بكتابته.
فما فائدة الرثائيات المهيمنة على مشاعرنا ورؤانا؟
إنها ترويح عن الذات المنكوبة، والعاجزة عن التصدي للتحديات، بإرادة ذات قيمة إنجازية انتصارية على معاناتها وويلاتها، التي ربما تستلطف تثميرها وتطويرها. والرثاء والمديح تجارة مربحة اعتاد عليها شعراء التسول والارتزاق في مسيرة الأمة الثقافية، والذين يمكن وصفهم بشعراء "الجدية"، لأنهم يستجدون بشعرهم، ونحسبهم كبارا ونبرر لهم، لكن الدارس المتعمق لشخصياتهم يكتشف النسبة العالية من النفس الأخرى فيهم.
ويبدو أن شهرتهم وترسخهم في أذهاننا على أنهم سادة الشعر ورموزه الكبار، أسهمت في تمسكنا بأغراضهم البالية وأشعارهم الاستجدائية، التي أمعنوا فيها بالكذب والتحليق في مدارات تضليلية وهمية، لاستدرار العطايا والمكرمات من الشخص المَعني.
والتجديد الصادق الأصيل في الغرض الشعري، وليس بالشكل وحسب، كما توهم المتجددون، وانطلقوا في نحيبهم وندبهم وبكائياتهم المرسِّخة لليأس والبؤس والحرمان، وكأنهم أسهموا بلا قصد بتأمين عناصر ومفردات التردي والانكسار في أجيال أمةٍ، عليها أن تكون ذات مقام رفيع ودور بديع.
فالرثاء السائد عندنا ربما لن نجد له مثيلا في أمم الدنيا، التي يكون الشعر فيها قائدا ورائدا لمنطلقات حضارية متجددة.
فهل سنتعافى من ذرف الدموع على السطور؟!!
واقرأ أيضاً:
الأمة ومدرسة الديمقراطية!! / الاقتدار المنهار!!