لماذا يقتلون أنفسهم؟! - مقال في محاولة لتفسير انتحار الشباب في مصر
هذا هو طفل يلهو عند جدته. يقفز من شرفتها الأرضية ليؤجر عجلة. بعد أن لم تعد تقبله الحضانة لكبر سنه ولا تريد مدرسة قبوله.
يذكر أول يوم في الحضانة عندما بكى جهد البكاء ويذكر بعضا من أيامها عندما كان يقطف الورود لمدرساته ويبعث إليهم بأشرطة أغاني فيروز.
لا تكرس المدرسة شيء في النفوس آنذاك بقدر الخوف. العقاب كان أبعد شيء يريده كل واحد من الصبيان. يصل الأمر كثيرا إلى حد الإرهاب عندما يشاهد الفصل تلميذ يتعرض للمد علي قدميه بطريقة وحشية هستيريّة العنف تجعله يبكي بأعلى صوته مكررا الاعتذار ولكن المدرس لا ولن يسمعه أبدا.
هذا طفل يذكر أنه قبل كل ذلك أسعد لحظة لديه عندما يعود أبوه من العمل ليحتضنه وهو يصيح أبي أتى أبي أتى.
يلهو في الحديقة مع فتاة يحبها. وهو ابن الثامنة. ويذكر اسمها حتى الآن ولكن دون جدوي أو فائدة.
بمرور الصفوف تكثر الأحقاد والعداوات من الزملاء. يستشعر حبا مطفيا تجاه زميلة لم يدم. فتنتهي مرحلته الابتدائية كبداية وتمهيد للاضمحلال الآتي.
هذا شاب صغير. أو هذا طفل كبير، اختار ما تشاء لا يوجد فرق عندي بينهما.
الإعدادية زمن البلوغ. وعليه تتسع رقعة الأفكار كفرق الهوة بين النهر والبحر.
البنات. البنات كل ما يشغلنا ويسري في خلايانا العصبية. هذا الشاب الطفل أراد أن يتعلم كيف يعامل البنات. فأراد النصح من شاب كبير في الكلية. فعلّمه قليل من أسلوب الكلام وفن الطريقة. فعمل ما عليه إلا أن صاحبنا الصغير اختار أن يزيف الأشياء ويخفي حقائقها فلم يفلح إلا في الكذب وحسب. فانقلبت أسحاره عليه وتاه في ظلمات نفسه وأروقة الوحوش البشرية. حتى لم يعد يعرف من هو أو ماذا يحدث مثل ثور ينطح وحسب ولا يعلم هل سيصيب ويقتل أم لا.
فلو قلنا أن نسبة تشوه الإنسان التام في الابتدائية كانت ثلاثون بالمئة فرضا. – فلكل واحد نسبته – سنجد أن تشوه الإعدادية كان مؤثرا بفاعلية تصل إلى أربعين بالمائة على أفضل تقدير. لتكون الإعدادية هي مرحلة الإعداد الأكبر للاضمحلال الآتي.
خلق الله الإنسان لعبادته تلك هي مهمته. والمهمة الثانوية هي إعمار الأرض والأسرة والعمل والكسب.
الثانوية كذلك مرحلة ثانوية جدا في حياة الشاب. ولكنهم يلقنوننا أنها ستحدد مصيرنا ومستقبلنا حتى الممات.
فمثلما جعل الإنسان مهمته الثانوية أساسية. مثلما جعلوا لنا الثانوية هي المهمة التي ستقرر ما ستصبح عليه.
فهذا الشاب كانت ثانويته كأنه فرغ من الحساب. وذلك باختصار لتطلق لعقلك كل العنان. وكانت الثانوية تمهيدا وترسيخا أكبر لما هو آتي من اضمحلال بنسبة تشوه وضمور تصل إلى ثلاثين بالمائة عند أقل تقدير.
الآن لدينا إنسان مشوه بنسبة مئة بالمئة تماما. فلنفعل به ما نريد.
الكلية هي استراحة كل محارب. وهي نفس الصعداء الذي يأخذه المرء أخيرا. أكثر هدوءا وأقل صخبا وربما الأكثر ثقة. ولكن التشوه ليس كافيا. هل تعلم لماذا؟. ربما أشوه لك أذنك كي يكون سمعك خفيفا فتركب سماعة. أو أشوه لك ناظريك لتحتاج إلى نظارة. ستظل تسمع وتري. نحن نريد الضمور المحض. لتكون الكلية باعثة على ضمور ذلك الإنسان. تعبث أكثر في أي شيء تبقى لديه من أي شيء صحيح عرفه. لنضربه ببازوكا فيطير إلي أشلاء.
أحدثت الكلية ضمورا بنسبة تقارب الثلاثين بالمئة وذلك يعد تعافيا بالرغم من كبر همجية تجارب الفترة وهي نسبة كبيرة في هذا العمر.
الآن هيا بنا نعمل ونجني المال ونتزوج ونغتني ونشتري بيتا ونسافر وننجب ثم نتزوج مرة أخرى ونكر الكرة ونجوب العالم ونلهو ونعلب.
هيا بنا نعامل الجهلاء ونتعرض للإهانات وكثير من السفاهات مع أرذل خلق الله. فكان العمل صاحب أكبر نسبة ضمور عرفها ذلك الشاب. تقدر بخمسين بالمئة. فقد ثقته بنفسه. فقد احترام الناس له. أصبح مهمشا مثل الحرافيش. ليس له قيمة فعلية إلا أنه مستهلك. لم يدخر شيئا ليبني بيتا أو يتزوج فتاة أو يجوب العالم. لقد عمل سنوات طويلة حتى قارب على الثلاثين ولم يكسب أي شيء. ليس من اختصاصنا الحكم عليه بأنه هو المذنب. ولكن هل نقدر فقط ألا نحكم عليه؟ وكيف ونحن كلنا قضاة من مستوي رفيع؟! إنه ضل وحسب. نعم الأمر سهل هكذا. هذا شاب ضال. فلتطو الصفحة وتحكي لنا حكاية أخرى أكثر إثارة وربما أقل كآبة.
لدينا الآن شاب مشوه إنسانيا بنسبة مئة بالمئة ولديه ضمور كلي بنسبة ثمانين بالمئة. متبقي عشرون بالمئة حتى يتلف تماما وهذا هو ما يعيش عليه حتى الآن. عشرون بالمئة نسبة باقية من عقل، ونفسية واتزان وطاقة. هو ليس بعمر الثمانين أو حتى السبعين ولكن هو فقط مقارب للثلاثين. فهل نطلق عليه الرصاص ونرحمه؟!. كلا. سندعه يقتل نفسه بالنهاية وذلك حتما سيحدث عنما تكتمل نسبة ضموره إلى مئة بالمائة.