علاج القبول والالتزام والصحة النفسانية الحاضرة
ACT: Acceptance and Commitment Therapy
تأسست العلوم النفسانية عموماً على افتراض حياة طبيعية صحية وأن البشر بطبيعتهم يتمتعون بصحة نفسانية ويعيشون في بيئة صحية مع أسلوب حياة وسياق اجتماعي يتميز بالكمال مع فرص لتحقيق الذات والطموحات المختلفة، والنتيجة هي الشعور بالرضى والسعادة. من خلال هذه المنطلق تعتير المعاناة النفسانية حالة غير طبيعية وهي اضطراب مرضي أو متلازمة ما مصدرها عمليات مرضية غير طبيعية. ولكن هل هذه الفرضية صحيحة حقاً؟
تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن الاكتـئاب هو ثاني أكبر مرض يعاني منه البشر وهناك ٢٨٠ مليون إنسان يعانون منه على كوكب الأرض 1. يضاف إلى ذلك هذه الأيام تعريف الاضطرابات النفسانية (العقلية) الذي تم توسيعه وتدريجياً تم تخفيض عتبة التشخيص لمختلف الاضطرابات وخير مثال على ذلك اضطراب عجز الانتباه فرط الحركة في الأطفال والبالغين على حد سواء، طيف الحصار المعرفي (الوسواس القهري) حتى أصبح قضم الأظافر اضطرابا نفسانيا، واستحداث طيف التوحد حيث أصبح كل من هو هادئاً مسالماً هو في الحقيقة مصاب بالتوحد. مع صدور المجلد الإحصائي التشخيصي الخامس والتصنيف العالمي الحادي عشر للاضطرابات العقلية تم تحويل شرط التشخيص الذي هو ذات أهمية سريرية إلى تقليل جودة الأداء الاجتماعي أو الأكاديمي أو المهني2. تشير أحد الاستطلاعات في عام ٢٠٢٢ بأن أكثر من نصف الطلبة في بريطانيا يعانون من مشكلة تتعلق بالصحة العقلية وثلاثة أربع الآباء والأمهات يطلبون العون من المؤسسات الحكومية بسبب مخاوف صحة أطفالهم العقلية. على ضوء ذلك في هذه الأيام أصبح رد الفعل النفساني الطبيعي لتجارب الحياة مثل التوتر والحزن اضطرابا عقلياً3. من هذه المقدمة يمكن استيعاب أهمية الحديث عن علاج القبول والالتزام.
علاج القبول والالتزام
علاج القبول والالتزام هو علاج سلوكي يرتكز على الوعي الذهني متحدياً القواعد الأساسية لمعظم العلاجات النفسانية مستخدماً مزيجاً انتقائياً من الاستعارة، المفارقة، مهارات الوعي الذهني إلى جانب مجموعة واسعة من التمارين التجريبية والتدخلات السلوكية الموجهة بالقيم الذاتية للفرد. هذا العلاج له استعمالاته المتعددة في العديد من الاضطرابات النفسانية مثل الاكتئاب المزمن، اضطراب الحصار المعرفي (الوسواس القهري)، القلق بأنواعه، الإجهاد في مكان العمل، الألم المزمن، اضطراب كرب تالي للرضح، الذهان المزمن، والإدمان. هذا العلاج له نتائجه الإيجابية ودوماً يؤدي إلى انخفاض احتمال الدخول إلى مصحة للاضطرابات النفسانية، تغيير العقاقير، والمراجعات السريرية4.
من مفارقات هذا العلاج النفساني هو اختصاره في اللغة الإنكليزية إلى مصطلح فعل ACT، وهذا ما يحدث فعلاً فالمراجع هو الذي يتخذ إجراءات فعالة تستند على قيمه الفردية الخاصة به الذي يدركها هو نفسه، وبالتالي يتوجه صوب حياة ذات معنى. يقبل الإنسان بأن الحياة لا تخلو أبداً من مواجهة موانع على شكل تجارب خاصة غير سارة ولا مرغوب فيها ويشمل ذلك أفكار، صور ذهنية، أحاسيس، مشاعر، حوافز، وذكريات. من خلال هذا العلاج السلوكي يستخدم الفرد يقظته الواعية الذهنية كوسيلة للتعامل مع هذه التجارب الخاصة.
الحديث عن اليقظة الواعية الذهنية في هذا الإطار يعني وعي الإنسان بتجربته الحالية مع الانفتاح عليها، الاهتمام فيها، والقبول بها. يعيش الإنسان في حاضره وينخرط بشكل كامل فيما يفعله ويتفاعل مع من حوله بدلاً من الضياع في أفكاره ويسمح لمشاعره القدوم والذهاب كما تشاء بدلاً من ضياع الجهد في محاولات يائسة للسيطرة عليها. ما يفعله الإنسان هو استقبال تجربته الخاصة والانفتاح عليها راضياً بالذكريات والمشاعر والأحاسيس المؤلمة وبالتالي يشعر الإنسان بأن كل ذلك أقل تهديداً وليس كما يظن بأنها تجارب لا تطاق.
القاعدة الأساسية التي تستند عليها العلاجات النفسانية عموماً أن هناك حالة نفسانية طبيعية صحية. على الرغم بأن ما هو طبيعي وصحي لا يتم تعريفه بصورة واضحة، بل ولا يمكن تعريفه. يفترض علاج القبول والالتزام بأن العمليات الإنسانية للعقل البشري الطبيعي غالبا ما تكون مؤلمة وتخلق معاناة نفسانية واستهداف تقليل الأعراض لا يجب أن يكون هدفاً للعلاج، بل على العكس من ذلك أن المحاولات المستمرة للتخلص من الأعراض يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات طبنفسانية سريرية5.
العلاجات السلوكية
علاج القبول والالتزام هو علاج سلوكي ويصنّفه البعض ضمن ما يسمى بالموجة الثالثة للعلاجات السلوكية التي تشمل العلاج السلوكي الجدلي، العلاج المعرفي المستند على اليقظة الواعية، والحد من التوتر المستند على اليقظة الواعية. تشترك جميع هذه العلاجات في تركيزها على تنمية مهارات اليقظة الواعية. يختلف علاج القبول والالتزام عن غيره بعدم استعماله لمناهج علاج يدوية بشكل أساسي والتي هي كثيرة الاستعمال في علاج القلق والاكتئاب ولا يحتاج إلى تدريب على المهارات الجماعية والفردية الكثيرة الاستعمال في العلاج الجدلي السلوكي الذي يستهدف اضطراب الشخصية الحدية. يمكن استعمال علاج الالتزام والقبول فرديا وجماعيا وفي علاج الأزواج ومدته قد تقصر أو تطول. يستخدم هذا العلاج مهارات اليقظة الواعية6 والتي يمكن تقسيمها إلى أربع مجموعات هي:
١- القبول
٢- التفكيك المعرفي
٣- التواصل مع اللحظات الحالية
٤- مراقبة الذات
استندت الموجة الأولى للعلاجات السلوكية مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي على تغيير السلوك العلني مع استخدام تقنيات التكييف الفعال والتكييف الكلاسيكي. بعد ذلك ظهرت الموجة الثانية في السبعينيات مستندة على التدخلات المعرفية وهيمن العلاج المعرفي السلوكي على الموجة الثانية وعلى العلاجات النفسانية عموماً.
يختلف علاج القبول والالتزام عن بقية العلاجات النفسانية5 بأنه لا يستهدف أعراض الاضطراب مستنداً على فرضية هي أن المحاولات المستمرة للتخلص من الأعراض تؤدي إلى اضطراب سريري بحد ذاتها فمجرد ما يتم تسمية تجربة ما مثل التوتر والقلق بأعراض فذلك يعني مرض ويجب التخلص منه. من هنا يبدأ صراع الإنسان مع تجاربه الفكرية والحسية الخاصة به. بدلا من ذلك يستهدف العلاج وضع مثل هذه التجارب في إطار أحداث نفسية عبرة غير ضارة رغم أنها مزعجة، وما يحدث فعلا هو تقليل شدة هذه الأعراض مع هذه العملية.
ويتبع: علاج القبول والالتزام والصحة النفسانية الحاضرة2
مصادر
1- Depression Statistics. World Health Organisation31 March 2023.
2- International Classification of Diseases 11th Revision. World Health Organisation 2022.
3- Editorial. Britain’s mental-health crisis is a tale of unintended consequences. The Economist Dec 7th, 2023.
4- Forman E, Herbert J, Moitra E, Yeomans P, Geller P. A randomized controlled effectiveness trial of Acceptance and Commitment Therapy and cognitive therapy for anxiety and depression. Behaviour Modification 2007; 31(6): 772-779.
5- Harris R. Embracing your demons: an overview of Acceptance and Commitment Therapy. Psychotherapy in Australis 2006 12(4):1-8.
6- Verheugt-Pleiter A. Intervention techniques: mentalization In Mentalizing in Child Therapy 2008. Routledge.
واقرأ أيضاً:
تعامل الدماغ مع التعلق والصدمات / الصدمة عابرة الأجيال