أثر الصوم في نفس المؤمن2
5. الصِّيَام لا يُسبِّب العَصبيّة
بعض الصائمين يجدون صعوبة في السيطرة على انفعالاتهم الغضبية، فيثورون لأبسط الأمور، وبعد ثورتهم هذه يدركون أن رد فعلهم كان مبالغاً فيه، ويشعرون بالأسف والندم لأنهم عجزوا عن أن يكونوا على المستوى الراقي المتوقع من المؤمن الصائم.
وليست العصبية وسرعة الاستثارة دليلاً على سوء الخلق دائماً، بل كثيراً ما تنتج عن خلل كيميائي أو كهربائي في المخ يجعل الإنسان على حافة الغضب دائماً، فيغضب ثم يندم لكنه ما يلبث أن يغضب في موقف أخر ويتكرر منه الندم.. ومن الحالات التي تتأثر فيها قدرة الإنسان على الحلم وتحمل الآخرين وكظم الغيظ حالات القلق النفسي والاكتئاب وغيرهما من الحالات النفسية المزعجة، ومنها تأثره بمواد مؤثرة على المخ تناولها إما بقصد العلاج أو بقصد المتعة المحرمة كالخمور والمخدرات والمنبهات، إذ تزيد هذه الأخيرة العدائية عند الإنسان وتجعل الواقع تحت تأثيرها سريع الغضب حتى لو كان في الأصل طيب القلب حسن الخلق.. وكذلك الحالات التي يحرم فيها الدماغ من مادة كيماوية كانت ترفع المزاج فيه فانقطع صاحبه عن تناولها فجأة، فيضطرب عمل خلايا المخ التي تعودت على وجود تلك المادة الكيماوية فيها وبرمجت نفسها على ذلك، ومن المواد التي يتعاطاها الكثيرون ويضطرون للامتناع عنها في نهار رمضان التبغ والكافئين.
لقد شاع التدخين لدى الكثيرين وصار لدى البعض دليلاً على رجولة زائفة، وأكثر المدخنين لا يدرون أنهم مدمنون.. فالمدخن الذي يواظب على التدخين يومياً لمدة طويلة هو مدمن على مادة النيكوتين التي يحتوي عليها دخان السجائر الذي يستنشقه المدخنون، وعند انقطاع المدخن الصائم عن السجائر بضع ساعات يبدأ بالمعاناة من أعراض الحرمان من النيكوتين، وهذه الأعراض تشمل العصبية وسرعة الغضب والتململ والصداع وضعف التركيز وانخفاض المزاج والقلق وضعف الذاكرة واضطراب النوم.. وهي أعراض لا تدوم أكثر من أسبوع عادة إن استمر الإنسـان في الامتناع عن التدخين، لكنها في الأيام الأولى مزعجة وتجعل كثيراً من الصائمين يفطرون على سيجارة قبل أي طعام أو شراب.. وهذا يرينا أن الصيام بحد ذاته لا يسبب العصبية إذ الأصل أن لا يدمن المؤمن على ما ضرّه أكبر من نفعه.
كما أن هناك إدماناً آخر شائعاً بين الناس يتسبب في عصبية بعض الصائمين وهو الإدمان على مادة الكافئين الموجودة في القهوة والشاي والكاكاو والكولا، والانقطاع المفاجئ عن الكافئين يتسبب بعد عدة ساعات بشعور المدمن عليه بالكسل والنعاس وفقد الرغبة في العمل، ويتسبب كذلك بالعصبية وانخفاض المزاج. وإذا طـال الامتناع المفاجئ عن الكافئين وبلغ ثماني عشرة ساعة أو أكثر فقد يصاب الإنسان بصداع يشمل كامل رأسه يكون الألم فيه نابضاً يشتد مع كل ضربة من ضربات قلبه، وفي أغلب بلاد المسلمين قلما يبلغ صيامنا هذه المدة الطويلة لذا فإنه مـن المفيد لمن تعود على القهوة أو الشاي أو الكولا أو الكاكاو إما أن يخفف مقاديرهـا بالتدريج قبل رمضان أو أن يتناول جرعة جيدة منها عند السحور حتى لا يعاني من أعراض الحرمان منها أثناء الصيام.
ومرة أخرى نجد أن الصيام لا دخل له في العصبية وسرعة الغضب إنما هي عادات صار الكثيرون منا أسرى لها يأتي الصيام ليذكرنا ويلفت انتباهنا إلى هذا الأسـر والخضوع الذي وقعنا فيه.
6. لا حَرَج
إن من نعم الله علينا أن جعل لنا الليل نسكن فيه وننام، ذلك أن النوم حاجة لا يستغني عنها الإنسان، وهو ضروري ليستعيد الجسد حيويته وطاقته وليستعيد العقل نشاطه بعد التعرض للضغوط النفسية والإجهاد طيلة النهار، وإذا ما حُرم الإنسان النوم مدة تزيد عن يوم كامل بدأ يعاني من الإرهاق النفسي، وإذا زادت الأيام دون أي نوم فإن البعض يضطرب عقلياً وتظهر لديه الهلاوس والتوهمات.
وفي رمضان يضطرب نظام نوم بعض الصائمين إذ ينفقون الليل في السمر والأكل والشرب، حتى إذا اقترب الفجر تسحروا وناموا، وبعضهم يحرص على صلاة الفجر فينام بعد أن يؤديها.. ومع أن الحكومات في معظم البلدان الإسلامية تؤخر بداية الدوام الرسمي في رمضان فإن الساعات الباقية بين الفجر وبداية الدوام لا تكفي ليستعيد هذا الصائم نشاطه العقلي والبدني وقد حرم نفسه من ساعات النوم التي اعتاد عليها، فيذهب إلى عمله والإرهاق ظاهر على وجهه والكسل مسيطر عليه ولا رغبة له في العمل، فتمر ساعات العمل شاقة عليه ومزعجة له. إنها عادة لا تتمشى مع نمط الحياة المعاصرة حيث الواجبات الكثيرة والمواعيد المنتظمة، وحتى أيام النبي ﷺ حيث لم يكن شعور الناس بالزمن زائداً كما هو حالنا اليوم، مع ذلك لم تكن عادته ﷺ أن يسهر الساعات الطويلة ينتظر السحور إلاّ إن سهر لقيام الليل وتلاوة القرآن. إن لأبداننا علينا حقاً، ويكفيها في رمضان مشقة الصيام عن الطعام والشراب والشهوة، ومن الخطأ أن نضيف إلى تلك المشقة اضطراب نظام النوم لدينا حيث ننام في النهار بعد العودة من أعمالنا أكثر بكثير مما ننام في الليل.
ومن ناحية أخرى فإن بعض الصائمين الميالين بطبعهم إلى القلق النفسي قد يعانون في رمضان من انخفاض معنوياتهم في النهار، ويبدأ ذلك لديهم منذ الصباح مع أنهم لم يجوعوا بعد ولم يعطشوا وبخاصة إن كانوا قد تسحروا قبيل الفجر، وانخفاض معنوياتهم هذا يعود إلى إحساسهم بقلق غامض مرتبط بخوفهم من المعاناة نتيجة عدم قدرتهم على الأكل والشرب إلى غروب الشمس، وهذا قلق وتخوف لا داعي له، إذ ديننا دين رفع الحرج، وديننا دين الرحمة ولا مكان فيه لتعذيب النفس، فالذي صام إن بلغ به الجهد حد الألم والمعاناة فالرخصة له في أن يفطر ويصوم بعد رمضان بدلاً عما أفطر، هذه الرخصة قائمة، وكل مؤمن أدرى بنفسه وبقدرته على إتمام صومه، ولن يخدع اللهَ أحدٌ، فهو العالم بالسر وما أخفى من السر، وهو الذي يعلم ما في نفوسنا ولا نعلم ما في نفسه سبحانه وتعالى، لكن الذي لا شك فيه ولا خلاف عليه أن الله لا يرضى لنا العذاب والمشقة والحرج، وأننا مطالبون أن نتقيه ما استطعنا، وأنه لا يطالبنـا بما لا طاقة لنا به، والمؤمن الصائم إن كان من الذين يميلون إلى القلق النفسي سيخف قلقه إن أدرك أن الرخصة بالفطر إن بلغ به الجهد حداً يؤلمه قائمة ومتاحة له، وعلى الغالب فإنه لن يفطر، إذ قلما يبلغ الجهد بالإنسان حد العجز عن الاستمرار في الصوم دون معاناة إلاّ في حالات خاصة يتعرض فيها الصائم لحر شديد مثلاً أو لا يصحو للسحور ويجهده الجوع أو غير ذلك.
أما إن أصابه المرض وهو صائم حتى لو كان صداعاً فله أن يفطر ويتداوى، هذا وإن كان الصيام ضاراً بصحته فليس له الخيار، بل عليه المحافظة على صحته وهو معذور في ذلك من الخالق الرحيم الذي كتب علينا الصيام كما كتبه على الذين من قبلنا لعلنا نتقيه لا ليعذبنا به... إن الظن أن تعذيب الجسد يؤدي إلى سمو الروح، والظن أن تعذيب الجسد عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله ليس من هدي الرسول ﷺ لقد نزَّه الله دينه عن الحرج، والحرج دون العذاب والمعاناة الصريحة: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ..) [الحج: 78].
فلنقبل على صيامنا منشرحين بالطمأنينة إلى رحمة الله بنا، فهو الرؤوف الرحيم سبحانه وتعالى.
من كتاب سكينة الإيمان ط2
تأليف الدكتور محمد كمال الشريف
استشاري الطب النفسي في مركز
كيور كير في جدة في السعودية
ويتبع: أثر الصوم في نفس المؤمن4
واقرأ أيضا:
الهُوال_2 PTSD: / سيكلوجية الإيمان والكفر5