1 - حديث النفس وحضور القلب
إن واحدة من أهم مزايا الإنسان: قدرته على أن يفكر بما وراء اللحظة الراهنة، وبما وراء المكان الذي هو فيه.. إنه قادر على تذكر الماضي، وعلى التفكير بالمستقبل وعلى العيش من خلال خياله في أماكن ومواقف غير التي هو فيها.
إنه قادر على استباق الأحداث، وتصوّرها والتخطيط لها وقادر على إعادة النظر في الماضي، ومراجعة النفس، والحكم على ما فعلته ليستحسن ما يراه صواباً، وليلومها على ما أخطأت فيه.
وهذه القدرة على تجاوز الواقع الراهن، واللحظة الراهنة مفيدة جداً للإنسان، ولا بدّ منها ليتمكن من الإبداع والتخطيط في أي مجال.
لكن التفكير بما وراء اللحظة الراهنة والواقع القائم يجعل الإنسان حاضراً بجسده، غائباً بعقله، وإذا ما سيطر هذا التفكير على الإنسان صار عقله في حالة مستمرة من (حديث النفس) حيث يتوقع شيئاً، ويفكر كيف يمكنه أن يتصرف عند حدوثه، ثم يتوقع احتمالاً آخر، ويقلّب الفكر فيما عساه يقول أو يتصرف.
وتتعدد الاحتمالات ويستمر التفكير وانشغال البال وهكذا يستمر غياب الإنسان الجزئي عن واقعه ولحظته الراهنة، فتراه شارد الذهن كلما خلا بنفسه، أي: كلما صمت، ولم يتحدث مع غيره، حتى لو كان بين ألف إنسان، انه معهم لكن فكره في زمان آخر ومكان آخر... حتى حين يستمع إلى الآخرين وهم يحدثونه فإنه لا يجيد الإصغاء إليهم، فلربما كان أثناء استماعه إليهم مشغولاً في تحضير ما سيقوله عندما يسكتون، ويأتي دوره في الحديث. إنه يسمع، لكن قلبه لا يصغي، وهو ينظر، لكنه لا يكاد يرى، وهكذا وبمرور الوقت يتحول ما كان جميلاً في عينيه عندما رآه لأول مرة إلى شيء عادي لا جمال فيه، لأن عقله في انشغال دائم عن اللحظة الراهنة، والبقعة الراهنة ولا يخرجه من انشغاله وشروده هذا إلا الجديد والصارخ.
وهكذا عندما تنشغل النفس في حديثها شبه الدائم يحرم الإنسان من التمتع بالجمال الذي حوله، ويقل إحساسه بواقعية ما حوله ومن حوله وحقيقتهم، فيقوم بأفعاله بطريقة فيها قدر كبير من الآلية، ويصبح التفكير بما يفعله أو يقوله يتم بعيداً عن بؤرة الوعي والشعور، فقد تراجع إلى خلفية الوعي وهكذا يؤدي هذا الإنسان ما يؤديه وعقله غائب مستغرق في تفكير حالم لأنه في حديث النفس كالذي يسرح في أحلام اليقظة، إنه غافل عن العالم الحاضر الذي تدركه حواسه، ولم يترك لهذا العالم الحاضر سوى جزء من وعيه، لذا فهو يؤدي ما يؤديه بطريقة شبه آلية، إنه يقوم به لكنه (لا يعقله) أي: لا ينتبه لما يؤديه من قول أو فعل، إنه كالذي يمشي في الأسواق ويرى الأشياء والأشخاص وفكره مشغول بغير ما يرى... إنه يمشي بينهم دون أن يصطدم بهم، لكنه لم يرهم حق الرؤية، الرؤية التي يكون فيها القلب حاضراً، أي: منتبهاً لما يقول، أو يفعل، أو يحس.
صحيح أن قدرة الإنسان على القيام بالكثير بطريقة شبه آلية فيه توفير للطاقة العقلية كي تتفرغ لما هو مهم، لكن إن صارت هذه الطريقة شبه الآلية في القول والفعل والإدراك غالبة على الإنسان أغلب وقته، تشغله بحديث النفس عما هو قائم (الآن) و(هنا) بل يكون في حالة من التفكير الحالم المقيم في الماضي أو المستقبل.. بينما يشكل حضور القلب والعيش في اللحظة الراهنة الأساس للقدرة على الابتهاج والتمتع بما أنعم الله علينا في دنيانا، كما يشكل الأساس للقدرة على الشعور بالعواطف والمشاعر الحميمة وتبادلها فيما بيننا سواء منها المشاعر الأخوية أو الجنسية، أما من يعيش مع الذكريات في الماضي أو المخاوف في المستقبل فإنه يفقد قدراً كبيرة من القدرة على الابتهاج والتمتع والشعور بالعواطف، لأنه حاضر بين الناس بجسده، وقلبه ولبه شارد ساه غائب.
إن حدث هذا فإن الإنسان يفقد حالة (الانتباه) و(حضور القلب) الممتعة، وتصبح عودته إليها أمراً صعباً ويفقد هذا الإنسان الكثير من سكينته وطمأنينته، ويكون لا بدّ له من أن يدرّب نفسه على الانتباه، وحضور القلب، وعلى التحرر من حديث النفس والتفكير الحالم حتى يتسنى له أن يعيش لحظته الراهنة، بما فيها من مدركات ومشاعر وأفكار وأفعال، ليحس بالوجود الحقيقي لكل شيء من حوله، فلا يبقى خارج حدود الزمان والمكان القائمين.
وليس كالإيمان والعبادة معيناً على ذلك التحرر، وعلى تلك العودة إلى الانتباه وحضور القلب بحيث لا تحزنه الذكريات، ولا تقلقه احتمالات المستقبل المجهول.
2 – بين الخشوع وحضور القلب في الصلاة
يخلط كثير من المسلمين بين الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها ويظنون أنهما شيء واحد، وهما في الحقيقة مختلفان وإن كان كلاهما مرغوباً في الصلاة ويدل على الإحسان في أدائها.
المقصود بحضور القلب أن يتوقف الإنسان عن حديث النفس وعن العيش مع الأفكار التي تمر في الذهن والغياب عن الواقع وما فيه، فلا يستغرق في الذكريات ولا في توقعات المستقبل أو غير ذلك مما يشغل البال، فإذا توقف العقل عن التفكير بما هو غير حاضر أمامه أو غير الذي يقوله أو يفعله في تلك اللحظة قلنا إن القلب أصبح حاضراً في الزمان والمكان الحاضرين ولم يعد شارداً في أفكاره.
إن انشغال الذهن بحديث النفس الذي هو أفكار وتخيلات يتجاوز الإنسان بها اللحظة الراهنة والمكان القائم والموقف الحاضر، هذا الانشغال طبيعي ومفيد ليتمكن الإنسان من مراجعة ما مر به أو الاستعداد لما هو مقدم عليه وللبحث عن حلول للمشكلات التي يواجهها، لكن الاستغراق شبه الدائم بحديث النفس يحرم الإنسان من الراحة ومن الانتباه لما يراه ويسمعه ويدركه بحواسه الأخرى.. ومؤخراً تنبه علماء النفس لأهمية استعادة الإنسان لقدرته على العيش بكل ذهنه وانتباهه في اللحظة الراهنة حيث يهدأ القلق ويتحسن المزاج ويزداد الإنسان صحة نفسية. وقد تعلم علماء النفس الغربيون ذلك من الديانة البوذية ورياضاتها النفسية وأسموه الانتباه أو الوعي الخالص ((mindfulness لأن الإنسان يكون فيه واعياً لما حوله وعياً كاملاً لا يضعفه انشغال الذهن بأية أفكار أو تخيلات، وأبدعوا تدريبات عليه لمساعدة الأشخاص المتوترين على التخلص من توترهم.
لقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على إيقاف حديث النفس في الصلاة وحضور القلب فيها ما استطعنا حتى جعل ثواب ركعتين لا يحدث الإنسان فيهما نفسه مغفرة ذنوبه كلها. فقد روى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ذات مرة ثم قال: ((من توضأ مثل وضوئي هذا، ثم قام فصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه بشيء غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) (رواه النسائي).
ولا يحسبن الإنسان أن التوقف عن حديث النفس ركعتين أمر سهل، لأن عادة التفكير بما ليس أمامنا عادة مستحكمة وغلابة ويحتاج الإنسان إلى مران كثير ليتمكن من إيقاف حديث النفس إيقافاً كاملاً طيلة ركعتين يصليهما، وهكذا تصبح الصلاة تدريباً يومياً على حضور القلب وإيقاف حديث النفس لابد أن تفيد المؤمن نفسياً فائدة لا يحصل عليها غيره إلا بتدريبات طويلة وجهد كبير دون أن يتوقع عليها ثواباً إلا تلك الفائدة النفسية بينما هي للمؤمن عبادة تقربه من خالقه وتمحو عنه ذنوبه.
ولعل أهم ما يساعد المؤمن على حضور القلب في الصلاة إدراكه أنها عماد الدين واعتباره لها أنها أهم عمل يقوم به بعد الإيمان بالله، واستشعار الأهمية البالغة للصلاة يجعل النفس تتفرغ لأدائها وتكف عن الانشغال بغيرها فيحضر القلب ويتحقق الوعي الخالص، أما عندما يقال للمؤمن أن الصلاة لن تأخذ منه إلا دقائق قليلة يعود بعدها لما كان فيه من نشاط فإنه يعتبرها أقل أهمية من غيرها من الأعمال مما يقلل من قدرته على حضور القلب فيها، وإن كان ذلك مفيداً في تشجيع المتكاسل عن الصلاة ليبدأ بالالتزام بها. إذاً حتى يحضر القلب في الصلاة علينا أن نتذكر أهميتها ومكانتها العظيمة من ديننا.
ومع أنه ورد عن الصحابي عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه كان يقول: لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه. لكن الصلاة تصح حتى لو حدث المؤمن فيها نفسه إنما ثوابها يكون أعظم بمقدار ما يوقف حديث نفسه ويكون حاضر القلب فيها.
يبقى الخشوع أمراً آخر مطلوباً في الصلاة ومتوقعاً من المؤمن الذي يصلي ويستشعر عظمة الخالق الذي يتوجه إليه بمناجاته عندما يصلي. وحتى نفهم معنى الخشوع علينا أن نتأمل هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة :
قال تعالى: "يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً" طه108
وقال: "خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ" القمر7
وقال:"أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ" الحديد 16
وقال:"وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ" البقرة45
وقال: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فصلت 39
وقال:"وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ" الشورى45
وقال:"لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" الحشر21
وقال:"خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ" القلم43
وقال:"خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ" المعارج44
وقال:"أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ" النازعات9
وقال:"وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ" الغاشية2
وقال:"وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً" الإسراء109
من كتاب سكينة الإيمان ط2
تأليف الدكتور محمد كمال الشريف
استشاري الطب النفسي في مركز
كيور كير في جدة في السعودية
ويتبع: أثر الصلاة في النفس المؤمنة2
واقرأ أيضا:
الهُوال_2 PTSD: / سيكلوجية الإيمان والكفر5