(1) من الإعجاب إلى الامتنان
للحبّ عموماً وللحب الزّوجي خاصة داعيان يجعلنا كل منهما نحب شخصاً آخر هما الإعجاب والامتنان. يولد الإعجاب في نفوسنا عندما نرى إنساناً آخر تجسدت فيه الصفات الرائعة التي نحلم بها لأنفسنا ولها عندنا قيمة عالية، فنراها في شخص آخر ونشعر بشعور رائع هو الإعجاب به وترتفع قيمته في نظرنا لما نرى فيه من صفات الكمال البشري كما نتصورها. إن كانت أنثى وفيها ملامح أو صفات نشأنا منذ الصغر ونحن نسمع من آبائنا وأمهاتنا أن من تكون فيه يكون جميلاً ومن يفتقدها يكون قليل الجمال، والإنسان مخلوق على صورة الرحمن يحب الجمال كخالقه ويعلي من قيمته لمجرد جماله.
وعندما يكون الإعجاب بين الجنسين أي أعجب رجل بامرأة أو أعجبت امرأة برجل فإن هرمونات الذكورة والأنوثة والشوق الجنسي تقوم بشحن هذا الإعجاب بطاقة وجدانية قوية تجعلنا نرى الذي أعجبنا به كائناً مثالياً ليس له بين الرجال أو النساء مثيل، فإن كان لدينا ولو قليل أمل أنه يمكننا أن نحصل عليه بالزواج تقرر نفوسنا في أعماقها حيث الإرادة الحرة لكن الشعور غائب، فنتخذ قراراً بأن نحب هذا الذي أعجبنا، ونبدأ نحلم بالسعادة بقربه، ونعتقد أنه لا سعادة لنا إلا معه، فننجذب إليه بشدة ونسعى للقائه أو رؤيته أو سماع صوته، ويملىء علينا أغلب وعينا، ويصير شغلنا الشاغل وهمنا الأكبر.
صورته لا تفارق خيالنا، وصوته المحبب صداه يتردد دائماً في أسماعنا، لقد أعجبنا بصوته الناعم أو القوي الواثق، وأعجبنا بملامح وجهه أو وجهها، فنرى كل شيء فيه بمنظار الصفات التي أعجبتنا فيه وهي صفات نعتبرها رائعة فتبدو لنا كل صفاته رائعة ولا نتخيل أن يكون فيه أي عيب أو صفة كريهة، وحتى إن رأينا ما هو عيب في الخلق أو الخلق أسرعنا إلى التماس العذر له وإلى التخلص من هذه اللطخة من على صورته في نفوسنا ويعود المحبوب كامل الأوصاف مهما كانت عيوبه، إننا نخدع أنفسنا لكننا نسعد بهذا الخداع، فالحياة الآن أحلى وأجمل طالما عثرنا على فتاة الأحلام أو فارس الأحلام الذي نظن أنه لن يغنينا عنه أو عنها أي بديل، فليس في النساء أجمل منها وليس في الرجال أروع منه. علماء النفس المعاصرون يصفون هذا الحب القائم على الإعجاب بصفات المحبوب والعجز عن رؤية عيوبه بأنه ليس هو الحب الحقيقي بل هو الوقوع في الحب الذي سيؤدي إن سارت الأمور على ما يرام إلى الحب الحقيقي عندما نحب محبوبنا مع أن غشاوة العشق قد زالت من على عيوننا وصرنا نرى عيوبه كما نرى كمالاته. عندها يكون الحب عميق الجذور في نفوسنا وقادراً على الصمود أمام عواصف الحياة ويبقى حياً مهما تقدم بنا العمر وتغضنت وجوهنا ولم يبق فينا ما يثير رغبة أو شهوة.
الإعجاب وليس الحب هو الّذي يكون من أوّل نظرة، ومنه يتولّد الحبّ الرّومانسي، ذلك النّوع من الحبّ الجميل، الّذي نرى فيه المحبوب كائناً مثاليّاً لا عيب فيه، فنعتقد الكمال فيه حسب عبارة ابن القيم رحمه الله، ونرى فيه كل الصّفات الّتي تعجبنا، ونتغاضى، بل نتعامى عن عيوبه، نراه كما نريده أن يكون، لا كما هو في الحقيقة... نعجب به ونعتقد أنّ سعادتنا ستكون بقربه، وبقربه هو لا غيره... فنسعى إلى قربه ونيل ودّه... فإن بادلنا هوىً بهوىً، وحبّاً بحبّ... أخذ المحبّ يحدّث المحبوب عن نفسه ويفضي إليه بأسراره ومكنوناته، وحرص المحبّان على قضاء الأوقات الطّويلة سويّة... إنّهما في حاجة إلى هذا الانجذاب الشّديد الّذي يكون في الشّهور الأولى من الزّواج، شهورِ العسل كما يسمونها... إنّها شهور التّعارف بين رجلٍ وامرأة لم يكن أحدهما يعرف عن الآخر شيئاً... علماء النّفس لا يثقون كثيراً بهذا الحبّ الرّومانسي لأنه قائم على الوهم، حيث الاعتقادُ أنّ المحبوب كامل الأوصاف، بينما ليس هنالك في الحقيقة أحد لا عيب فيه، وقائم على وهم آخر أيضاً حيث الظنُّ أنّ السّعادة لن تكون إلّا بقرب هذا المحبوب بالذّات، بينما في الحقيقة يمكن أن يغني محبوبٌ عن آخر.
صحيح أنّ الحبّ الرّومانسي حبّ يقوم على الأوهام، لكنّه حبّ يتيح للزّوجين فرصة للتّعارف العميق يقوم كلّ منهما خلالها بإسعاد الآخر، حيث يشعرها زوجها بأنوثتها وهي بقربه، وتشعره هي برجولته وهو بقربها، ويلمس كلّ منهما حرص الآخر عليه، واحترامه له ولمشاعره، وتقديره له وغلاءه عنده، فيمتلئ قلبه امتناناً له، ويتعلّق كلّ منهما بالآخر ويربطهما حبّ جديد هادئ يدوم طيلة العمر يسميه علماء النّفس "حبّ الصّحبة"، ويرونه الحبّ الحقيقي، لأنّ الإنسان فيه يحبّ محبوبه كما هو بعيوبه، حيث الشّهور الأولى بعد الزّواج تزيل الوهم، وتجعل كلاً من الحبيبين يرى الآخر كما هو، بشراً لا يخلو من النّقص والعيوب، فيقلّ الإعجاب، وينقضي الانبهار، ويحلّ الامتنان محلّ الإعجاب الّذي فُقِدَ، فيكوّن الامتنان مع ما تبقّى من إعجاب أساساً قويّاً لحبٍّ رائع يدوم، وإن كانت حرارته أقلّ، وانفعالاته أهدأ... ويتحوّل الحبّ الرّومانسيّ إلى ذكرى جميلة، كلّما مرّ الزّوجان بخلاف تذكراها، فانفتح لهم الأمل في أن تعود حياتهما الزّوجيّة سعيدة من جديد، فلا يغلبهما اليأس، بل يعملان على الإصلاح، وعودة الوئام والصّفاء.
ويتبع: تأملات نفسية في الحب الزّوجي2
بقلم الدكتور محمد كمال الشريف
استشاري الطب النفسي في مركز
كيور كير في جدة في السعودية
واقرأ أيضا:
الهُوال_2 PTSD: / أثر الصوم في نفس المؤمن 5