يعيش العالم هذه الأيام مرحلة تحول حاد في المفاهيم والتوجهات المتعلقة بقضية فلسطين، فإثر انقلاب العديد من الموازين وافتضاح الدعاية الصهوينية الكاذبة مرة تلو المرة وتلك المقارنة التلقائية التي تكرر حدوثها بين منتهى التدني في السلوك الإسرائيلي خلقيا وعسكريا ومنتهى الرقي في أداء المقاومة بالمقابل، باختصار فشلت إسرائيل على كل المستويات في حين أحدث أداء المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني خرقا فادحا للتوقعات على كل المستويات بداية من طوفان الأقصى مرورا بالصمود الأسطوري خلال الحرب الإسرائيلية على غزة التي ما تزال فصولها الإجرامية مستمرة، ومعها فصول العجز الأممي العالمي عن التأثير في المشهد.... رغم ذلك ورغم تقلب المشاعر بين الأسى والغضب والزهو والاستبشار، ورغم حدوث هذا الطوفان في مرحلة -ناهزت العقد من الزمان- قررت فيها الإقلال من الكتابة، بل وحتى الكلام في الشأن العام، مؤثرا التدبر والتريث قبل إطلاق الأحكام، فأنا كغالبية الأحياء من جيلي ومن الأجيال السابقة وربما أعداد أقل من الأجيال اللاحقة نشهد حالة من التناقض الحادِّ بين ما رُبِّينا عليه من مبادئ وأساسيات وطنية عقدية يتفق عليها الجميع في جهة وما آلت إليه الأحداث والمواقف التي نعيشها في الجهة الأخرى، وبينما يعتور الساحات الفكرية والإعلامية العربية خلط ولغط وزور كثيف، فلا ترى من الحقيقة إلا إشارات لا يلمحها إلا الحصيف، رأيت أن السكوت يمنحني فرصة أكبر لمزيد من التدبر قبل الكلام، وليس احتمالا بعيدا أن يكون ذلك حيلة دفاعية ضد اليأس المكبوت بعد ما آلت إليه الأمور في المنطقة العربية.
ورغم أن الطوفان حركني وأذهلني وما يزال، إلا أنني لم أكتب إلا مقالة أشرف بعدم انتمائي للجمعية الأمريكية لطب النفس أردت بها أن أحدد منذ اللحظة الأولى للطوفان من أنا وبماذا أشرف وبماذا لا أشرف، ربما لأنني أرى الوقت وقت أفعال لا أقوال، وربما لأن أفعال المقاومة لا تعبر عنها أقوال، سجلت موقفي إذن على مجانين ودخلت ساحات الحرب مع الفيس بوك والواتساب في النشر وفي التمرير دعما للقضية لكنني لم أطل كثيرا ثم اكتفيت بعدها بالمتابعة، والمقاطعة وتحفيز ابن عبد الله للكتابة فبدأ سلسلة من سبت الغفران إلى سبت الطوفان، وقد وصلنا المدونة الحادية والعشرين وما تزال السلسلة مستمرة، وكنت أتولى تمرير ارتباطاتها للمجموعات والزملاء من المهتمين بالشأن العام.
طال الصمت ولم أتوقف عن الصمت والتدبر حتى كان ما وجدته بالأمس وكنت قد نسيته بالكلية، وهو هذه الصفحة من موقع مجانين سنة 2004 التي كانت مقدمة للباب الجديد فلسطين يد بيد في إصدار موقع مجانين الأول(2003-2009)، وكم أسعدني أن أخيرا وجدت ما كنت أبحث عنه على صفحات فلسطين يد بيد وهو أغنية راية بيضا تلك الأغنية التي تذكرتها مع أحداث الطوفان وكنت أعرف أنها موجودة في مكان ما في باب فلسطين يد بيد لكنني فتشت كل الموقع الحالي ولم أجدها، لكنها كانت مرفوعة على الخادم فأنزلت نسخة منها ورفعتها على الفيسبوك، وانتهى تفكيري إلى احتمال أن الأغنية كانت ضمن واحدة من المدونات في غير باب فلسطين يد بيد، وأما مقدمة الباب التي كنت كتبتها أنا فلم أتذكرها بل كنت أظن أن مقال ابن عبد الله: فلسطين..... الجهاد في متناول الجميع كان مقدمة لهذا الباب.
تقول المقدمة كما يظهر في صورة الصفحة:
مقدمة:
عندما أرسلت لنا أختنا "فجر" من فلسطين تقول "دماغي محتاج تجميع"، وظهر ردنا عليها على صفحة استشارات مجانين تحت عنوان : دماغي محتاج تجميع: ثمن الصمود الفلسطيني ومتابعتنا لها في نفس الوقت الذي وصلتنا فيه من فلسطينية أخرى استشارة بعنوان: ستار أكاديمي الفقرة الأخيرة علي شاشة الانتفاضة في ذلك الوقت رأينا أنا وأخي الدكتور أحمد عبد الله أن علينا في مجانين أن نقوم بدورنا الذي لم يعد يصح أن نتقاعس عنه وولدت فكرة فلسطين يد بيد، والذي نحاول من خلاله أن نكونَ مع أهلنا المحاصرين المطاردين، جاعلين يدنا مع أيديهم صحيح أن أيديهم ستبقى دائما أعلى وأغلى من كل يد بعيدة عن نار المعركة، لكننا أبينا إلا الجهاد بما نحسن وما نستطيع، وقلت لأحمد وقتها هل لأن الرسائل جاءتنا من فلسطين اخترناها كبداية؟ فقال ربما لأنها الأقدم وأهلها أكثر تواجدا على الإنترنت، وأردنا أن نفتح لهم بابا للتواصل ولو حتى تحت الحصار ومن خلال الإنترنت، إضافة إلى بذلنا الجهد في تعليمهم ما نستطيع نفعهم به والتعلم منهم لأنهم أصحاب خبرة لا يملكها أحد في العالمين.
لكن الأمر لم يعد قاصرا على الأعزاء في فلسطين (وأقصد أعزاء النفوس-وليس فقط الأعزاء علينا)، ولماذا لا نقول العراق يد بيد وأفغانستان يد بيد والشيشان يد بيد ومن يدري إلى كم يد بيد سنحتاج يوما، فمدوا أيديكم وجاهدوا معنا كل بما يحسن، فالجهاد بمعناه الواسع فرض عين على كل مسلم ومسلمة ولكم في الجهاد المدني: الطريق إلى فعل مختلف نموذج لعلكم تحتذون، ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد.
أ.د وائل أبو هندي
ثم وضعنا في آخر المقدمة رابطا لتحميل هذه الأغنية الجميلة راية بيضاء ورابطا للدخول على جسر التواصل، ثم بعض الارتباطات لمقالات تخص القضية الفلسطينية، سواء على مجانين أو موقع إسلام أونلاين أحد أغنى المواقع العربية في ذلك الوقت، حيث كنا نجمع مقالات د. عبد الوهاب المسيري يرحمه الله ود. فهمي هويدي وغيرهم من المهتمين بالقضية الفلسطينية.
وقتها كنا نحاول تجميع الجهود المدنية لدعم فلسطين كل بما يستطيع، كنا نرى الدعم المعنوي والتعريف بالقضية والمناداة المستمرة بضرورة إنهاء الحصار غاية ما يستطيع الجميع، وربما لم يتخيل أحد أن الحسم العسكري ممكن، إلا أن المقاومة أبت إلا أن تخرق التوقعات، فكان ما فعلته دليلا جديدا -لكنه أقوى وأمضى من كل ما سبقه- على أن الرضا بالهزيمة اختيار، مثلما الإصرار على النصر اختيار، فبعدما ارتضت الحظيرة العربية كلها (أو تكاد) الخنوع والخضوع للمشروع الصهيوني الأمريكي في المنطقة أبت المقاومة الفلسطينية المحاصرة والمطاردة منذ عقود إلا أن تنتصرفكان لها ما أرادت وكما يقول أحمد عبد الله (أيقظتنا غزة مجددا لنرى كيف يخرج الحي من الميت، وتنبلج من قلب حالك الظلمات أنوار فجر جديد، كأن لم تكن ظلمة ولا سواد!!، وكأن العجز والشلل والهزيمة ومشاعر اللا جدوى واللا معنى وانعدام الأمل وانغلاق الأفق - كلها مجرد أوهام يصدقها صاحبها فتكون واقعه!!).