مصادر سكينة الإيمان2
5. فلنحيينه حياة طيبة
إن النفس الخالية من الإيمان وأنواره، نفس مظلمة، يعشش فيها الخوف والقلق والاضطراب، ومن دون الإيمان بالله، والتوكل عليه، تغدو النفس البشرية، ألعوبة بيد الشيطان، يبث فيها الحزن والقلق، كي تستجيب لدعائه لها إلى الفحشاء، والمنكر.
أما النفس المؤمنة المتوكلة، فإنها عصية على الشيطان، حصينة في وجه وساوسه، قال تعالى: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)" [النحل: 98 - 100].
والخوف من الفقر، سبب هام للقلق النفسي، فالإنسان يخشى الفقر، لأن الفقر يحرمه من كثير من الأشياء التي يحبها، ولأن الفقر إذا اشتد قد يحرمه من الأساسيات.
ثم إن الإنسان يخشى الفقر، لأنه حتى لو لم يحرمه من الأساسيات، فإنه ينزله من المكانة الاجتماعية التي يحتلها إلى مكانة دونها، فاحترام الناس وتقديرهم له، قد ينقص إن رأوا فقره، واحتياجه.
وقد وجد علماء النفس، أن الأمن والرزق هما أهم حاجتين إنسانيتين، والإنسان عادة لا يفكر بغيرهما من الحاجات، كالحاجة إلى الحب، والتقدير، وتحقيق الذات، إلا بعد أن يحصل على الحد الأدنى من الأمن والرزق.
ولقد من رب العالمين على قريش بما أعطاهم من الرزق والأمن، قال تعالى: "لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)" [سورة قريش].
والنبي محمد ﷺ بين أن العافية مع الأمن والرزق، ثلاثة أشياء هي الأساسيات للإنسان، قال ﷺ: "مَن أصبحَ مِنكُم آمِنًا في سِرْبِه، مُعافًى في جسَدِهِ، عندَهُ قُوتُ يَومِه، فَكأنَّمَا حِيزَتْ له الدُّنْيا" (رواه الترمذي، وابن ماجه). ولقد طمأن رب العالمين المؤمنين على أرزاقهم حتى لا يفقدهم الخوف من الفقر سكينة نفوسهم المطمئنة، فأكد لهم أن الرزق كالأجل يكتبه الله والإنسان جنين في بطن أمه، فالرزق بيده تعالى يحدده بنفسه، ولا يمكن لأحد أن يحرم أحداً رزقاً قد كتبه الله له... قال تعالى: "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)" [الذاريات: 22 - 23].
وقد ربط المولى بين المغفرة والفضل والرزق. قال تعالى: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" [البقرة: 268].
ولارتباط المغفرة بالفضل، كان الاستغفار مدعاة للفرج، والمخرج من الهم والضيق، وجالباً لرزق الله يأتي من حيث لم يحتسب المؤمن. قال النبي محمد ﷺ: "مَن لزمَ الاستغفارَ جَعلَ اللهُ له من كلِّ همٍّ فرجًا، و من كلِّ ضيقٍ مخرَجًا، و رزَقَه مِن حيثُ لا يحتَسبُ" (رواه أبو داود وابن ماجه والبيهقي).
وللتقوى جائزة مماثلة... قال تعالى: "... وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)" [الطلاق: 2 - 3].
وكما تستدعي التقوى الرزق والفضل، فإن الذنوب قد تستدعي الحرمان من الرزق.. قال ﷺ: "لا يزيدُ في العمُرِ إلَّا البرُّ ولا يردُّ القدَرَ إلَّا الدُّعاءُ وإنَّ الرَّجلَ لَيُحرَمُ الرِّزقَ بالذَّنبِ يصيبُهُ" (ابن ماجه).
فالعمل الصالح مع الإيمان، خير ضمان لحياة طيبة، بكل ما تعنيه الطيبة في الحياة من معنى... إنها الحياة الطيبة في الدنيا، ثم الجزاء والمكافأة في الآخرة... قال تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل: 97].
ووعد الله الذين يداومون على تلاوة القرآن الكريم ويقيمون الصلاة ولا يتهاونون فيها ويؤدون الزكاة وما استطاعوا من الصدقات، وعدهم أن يزيدهم من فضله فقال: "إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)" [فاطر: 29-30].
كما وعد الشاكرين له على نعمه أن يزيدهم منها فقال: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" [إبراهيم: 7]
إنه مع نور الإيمان والطاعة، لا يبقى للقلق الناتج عن خشية الفقر مكان في النفس المؤمنة، وقد قال العلماء الذين فقهوا كلام الله تعالى وأقوال رسوله محمد ﷺ، قالوا: "ما افتقر تقي"، إذ كيف يفتقر والرزاق يرزقه من حيث لا يحتسب؟!. وإن كان هذا لا يعني أن كل فقير هو عاصٍ لله لأن التقوى حالة من الطاعة أرقى من الحد الأدنى الذي لا بد للمؤمن منه.
6. مكانة عند الله لا عند الناس
خلق الله الناس متفاوتين في قدراتهم البدنية والذكائية، ومتفاوتين في فضل الله عليهم من مال، أو جاه، أو فرص مواتية للتعلم وتحصيل الشهادات العالية، أو غير ذلك من عوامل مؤثرة في وضع كل منهم وفي دوره في المجتمع.
والله لم يفضل أحداً بزيادة على الآخرين إكراماً له، ولم يضيق على أحد إهانة له، إنما هي حكمته كي تتنوع الأدوار في المجتمع، ويقوم كل منا بخدمة الآخرين من موقعه وفي مجاله، فتتكامل هذه الأدوار، ولا يبقى في المجتمع حاجة يترفع أحد عن القيام بها... قال تعالى: "وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)" [الزخرف: 31 - 32].
إذاً التفاوت مقصود كي يسخر بعضنا بعضاً، فيخدم كل منا الآخرين، ويؤدي كل منا دوره في المجتمع.
لكن الناس إذا غفلوا عن هداية الله اعتبروا دوراً اجتماعياً أعلى قدراً وأكرم من دور آخر، فنظروا إلى مهن على أنها راقية، وإلى أخرى على أنها قليلة القدر والقيمة، وبالتالي رأوا أن من يؤدي بعض الأدوار أعلى قدراً وكرامة من الآخرين، وأعطوه الحق ليستعلي على الآخرين، فجعلوا للغني قدراً وكرامة أكبر مما للفقير، وجعلوا لصاحب الجاه أو السلطان كرامة أكبر من الآخرين، واعتبروا صاحب المهنة التي تدر المال الوفير أو الجاه العريض أكرم من أصحاب المهن الأخرى.
والحق غير ذلك، فبين الحين والآخر تحدث اضطرابات عمالية في مدن كبرى حديثة، فيضرب العمال في مهنة معينة عن العمل ليذكروا المجتمع أن دورهم هام، وعليه أن ينصفهم في أجورهم، فعندما يضرب عمال النظافة في مدينة كبرى مثل لندن أو باريس، يتذكر الناس قيمة عامل النظافة وقدره، إذ تغرق مدينتهم الجميلة في قاذوراتها.. فتزداد أجور العاملين.
ولكن دون الإيمان يبقى التعالي في النفوس، فيرى الطبيب، أو المهندس، أو المدير نفسه فوق عامل النظافة.
إن هذا الواقع الذي تعيشه أغلب المجتمعات، يجعل الإنسان يسعى دائماً إلى رفع مكانته في المجتمع من خلال مهنته، وثرائه، وسلطته، أو غير ذلك، فترى الذي لم يحصل على ما يعتبر نفسه أهلاً له من المكانة، يسيطر عليه الإحباط، والشعور بالسخط، والتذمر، والحرمان.
أما الذين وصلوا إلى مكانة في المجتمع ترضيهم، فإنهم يعانون من القلق.، لأنهم يخشون أية مصيبة في الصحة، أو المال، أو المنصب، تنزلهم من رتبة إلى رتبة دونها، ولا يطمئن أحد إلى دوام نعمة الله عليه إلا الشاكرون... قال تعالى: "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" [إبراهيم: 7].
إن الإيمان، يريحنا من هذا القلق الناجم عن خشية فقد المكانة في المجتمع، لأنه يقرر أن كرامة الإنسان ومكانته لا علاقة لهما بغناه أو فقره، ولا علاقة لهما بمنصبه، أو مهنته، ولا بنوع سيارته، وفخامة منزله، إنما الأمر كما قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" [الحجرات: 13].
فالمؤمن، ومن البداية لا يجعل المكانة في المجتمع غايته وهدفه.، لأن السعي وراء المكانة والإحساس أنه فوق الآخرين، هو نوع من العلو في الأرض الذي قال تعالى عنه: "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" [القصص: 83].
المؤمن لا يدخل السباق على المكانة مع الآخرين.. فالناس في هذه الحياة، يشبهون ركباً في سفر، أما الذين يتنافسون على المكانات فيجعلون سفرهم سباقاً بينهم، فيضيفون تعباً إلى تعبهم، أما المؤمن فإنه لا يدخل هذا السباق أبداً، إنما يسير في طريقه يسابق الزمن، ولا يسابق الناس، إنه يريد مكانة عند الله لا عند الناس.
قال النبي محمد ﷺ: "إنَّ عِبَادِ اللَّهِ مَن لو أَقْسَمَ علَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" (البخاري).
وقال أيضاً: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لو أقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرَّهُ، ألا أُخْبِرُكُمْ بأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوّاظٍ مُتَكَبِّرٍ" (البخاري والترمذي).
روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: "مَرَّ رَجُلٌ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: ما رَأْيُكَ في هذا؟ فَقالَ: رَجُلٌ مِن أشْرَافِ النَّاسِ، هذا واللَّهِ حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشَفَّعَ، قالَ: فَسَكَتَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ، فَقالَ له رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما رَأْيُكَ في هذا؟ فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، هذا رَجُلٌ مِن فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هذا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشَفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ لا يُسْمع لِقَوْلِهِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هذا خَيْرٌ مِن مِلْءِ الأرْضِ مِثْلَ هذا".
إذن رجل فقير صالح خير في ميزان الله من ملء الأرض من رجل من أشراف الناس لكنه منافق لا يساوي عند الله شيئاً.
إن المؤمن الذي يسعى إلى المكانة عند الله يكون في راحة من مشقة السباق القائم بين الناس، مع أنه لا يقف في مكانه، بل يتقدم في الحياة والمجتمع. وهو في راحة لأن السعي وراء المكانة عند الله لا يجلب القلق، أو الإحباط إلى النفس، إنما يملؤها سكينة، وطمأنينة، ورضاً.
ويتبع: مصادر سكينة الإيمان4
واقرأ أيضا:
سيكلوجية الإيمان والكفر9 / تأملات نفسية في الزكاة 2