الدخان ليس دائما أثرا لحريق، بل أحيانا يولد وحده، غيمة سوداء بلا جمر ولا لهب، تنبعث من نفوس امتلأت بالغيرة، وتنتشر في الهواء كما لو أن للفراغ قدرة على الاختراع، دخان يتشكل من العدم، يتكاثف من الظنون، يتصاعد من الأحقاد الدفينة، ثم يلف العالم بضبابه الخانق دون أن يشتعل عود ثقاب واحد! هذا الدخان بلا أصل، لكنه يتقن دور الحقيقة ببراعة مخيفة، يلف الناس بهدوء، يتسلل إلى العيون فيغشي البصر، ويعلق في الحناجر فيخنق الكلمات، ويدخل الصدور فيضيق التنفس، ليجعل الجميع يستنشقون الشك بدلا من الهواء، ومع كل نفس جديد يكبر ويتمدد، حتى يغطي الشمس، ويحول السماء الصافية إلى سقف رمادي ثقيل!
تأمل كيف تبدأ القصة: همسة عابرة في مجلس، تلميح مبطن في محادثة، نظرة ذات مغزى، جملة مبتورة عن قصد: «لو تعرفون ماذا سمعت...»، ثم صمت محسوب يدعو الخيال للعمل، وفي ساعات قليلة، تتحول الهمسة إلى حديث، والحديث إلى «معلومة موثوقة»، و«المعلومة» إلى حقيقة لا تقبل الجدل، ليُصنع الدخان من لا شيء!
هو ليس دخان المداخن الذي نعرف مصدره، ولا بقايا الحطب الذي يترك رمادا، بل دخان من نوع خاص، دخان الإشاعات والظنون، دخان الكلمات المبتورة والإشارات المسمومة الذي يخرج من فم حاقد كأنفاس التنين في الحكايات القديمة، فيحمل في طياته صورة مشوهة لوجه بريء، يعلقها على جدار الاتهام العام، ويتركها هناك لتصبح جزءا من المشهد اليومي!
أخطر ما في هذا الدخان أنه لا يترك أثرا ماديا يُمسك، لا رماد يدلك على مكان الحريق المزعوم، لا دليل يقودك إلى مصدر الكذبة الأولى، مجرد ضباب أسود كثيف، يسكن في رؤوس الناس، ويعشعش في ذاكرتهم الجماعية، ثم يلتصق بالسمعة كوشم لا يُمحى، ويجعل البريء غريبا حتى عن نفسه، فيشك في براءته، ويبحث عن ذنب لم يرتكبه ليبرر وجود الدخان!
المفجع أن هذا الدخان يجد دائما من يؤمن به أكثر من الحقيقة الناصعة، فالناس بطبعهم يميلون لتصديق الإثارة أكثر من الملل، والفضيحة أكثر من البراءة، والشر أكثر من الخير، كأن في دواخلنا شيئا مظلما يتلذذ برؤية الآخرين يسقطون، يجد في دخانهم المزعوم تبريرا لفشلنا، وعزاء لضعفنا، ومخدرا لضمائرنا المتعبة!
ما أكثر الضحايا الذين ابتلعهم هذا الدخان الأسود!
وجوه صافية شوهتها غيمة عابرة فلم تعد تشبه نفسها، أحلام بريئة ذبلت تحت ضباب ثقيل من الأكاذيب، مواهب واعدة خنقها دخان الحسد قبل أن تزهر، علاقات عميقة انهارت لأن أحدهم قرر أن يختبر متعة النفخ في الهواء، أن يرى كيف يمكن لكلمة واحدة مسمومة أن تدمر عالما كاملا! في عصر السوشيال ميديا، صار إنتاج الدخان أسهل من شرب الماء، من منشور غامض، إلى تغريدة ملغومة، مرورا بقصة مفبركة أو صورة خارج سياقها، كلها أدوات جاهزة لمن يريد أن ينفث سمومه، والانتشار أسرع من البرق، ففي دقائق يلف الدخان العالم الافتراضي، يخترق الحدود ويتجاوز اللغات، ليصل إلى كل شاشة، وقبل أن يفيق الضحية من صدمته، يجد نفسه محاصرا بسحابة سوداء عملاقة لا يعرف كيف بدأت ولا كيف يوقفها!
السؤال الذي يحيرني: لماذا نحب أن نصدق وجود النار دون أن نراها؟ لماذا نتلذذ بنشر الدخان بدل إطفاء الحريق المزعوم؟ هل لأن الدخان يمنحنا شعورا زائفا بالأهمية، فنصبح حملة أخبار، عارفين بالأسرار، مطلعين على الخفايا، أو ربما لأن في دواخلنا نارا خاصة بنا، نخشى أن يراها أحد، فنشغل الناس بدخان الآخرين!
يا سادة..
ليس كل دخان وراءه نار حقيقية، فأحيانا وراءه قلب محترق بالغيرة، أو عين ملتهبة بالحسد، أو نفس تتلذذ بإشعال الفتن، ولعل النار الوحيدة الموجودة فعلا ليست تلك التي نبحث عنها في حياة الآخرين، بل تلك التي تشتعل في صدور ناشري الدخان، نار سوداء تأكلهم من الداخل، ثم يطلقون زفيرها دخانا يخنق الجميع، حتى أنفسهم في النهاية!
واقرأ أيضًا:
هل هي صرخة حرية.. أم انتحار؟ / أسطول الصمود... وموج الندم!
