يعتبرُ هذا المفهوم أحد المفاهيم التي بدأت تتغير فيما يتعلق باضطراب الوسواس القهري،أما السببُ في ذلك المفهوم فيرجعُ إلى طبيعة الأعراض التي يبدو بها اضطرابُ الوسواس القهري من حيث انفصالها عن المنطق ومن حيث تحدِّيـها للإرادةِ لأن ذلك يوهمُ من يرى الأعراض دونَ أن يكونَ على درايةٍ بطرق التشخيص في الطب النفسي أن يعتبرها علامة على الجنون، والحقيقة أن مفهوم الجنون Psychosis أصلاً غيرُ واضح عند الكثيرين بل إنهُ غيرُ محدَّدِ المعالم تمامًا في الفكر الإنساني كله، وحينما ترى إنسانا يشك في أن يده مثلا ربما سقطت من ذراعه (فكرة تسلطية Obsessional Idea) وينظر تحت الكرسي بحثا عن يده.
وبينما هو ممسك بها بكفِّ يده الأخرى، تجده عاجزا عن عدم النظر تحت الكرسي (فعل قهري Compulsive Act) فربما تكونُ قد سقطت منه وهو لا يشعر!، أو عندما تجد امرأة تعجز طوال أيام طمثها عن البقاء بعيدا عن دورة المياه أو عن لمس أبنائها أو زوجها أو حتى الطبخ لهم (أفعال قهرية تجنبية) خوفا من أن يضرهم دم الطمث (فكرة تسلطية)! كيف تقيم ذلك هل هو عقل أم جنون؟ وكثيرا ما وقف العقل البشري عاجزا عن الإجابة الواضحة، لأن معنى الجنون نفسه مختلف عليه.
وهكذا رأى العربُ والمسلمونَ القدماءُ مريضَ الوسواس القهري الذي لا تفيدُهُ الاستعاذةُ بالله من الشيطان على أنه مجنون لأنهم لم تكن لديهم بالطبع فكرةٌ عن وسواس غير وسواس الشيطان ووسواس النفس، فَفي بحثٍ عربي لطارق بن على الحبيب إثباتٌ لردِّ حالات الوسواس القهري إلى الجنون عند بعضِ علمائنا: يقول طارقُ الحبيب ("كما اختلف العلماء في نظرتهم للوسواس، فقد ذكر الجويني في التبصرة فـي الوسوسة أن الوسواس يحدث بسبب نقص في غريزة العقل أو جهل بمسالك الشريعة، والذي يبدو أن معنى الوسواس عند معظم العلماء السابقين -رحمهم الله- معنى واسع يشمل جميع أنواع الوسواس التي ذكرناها ابتداءً لكنهم نسبوها جميعاً إلى الشيطان ولم يقبل أحد منهم -حسب بحثي- أن هناك وسواساً مرضياً سوى ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل:
"أن رجلاً قال له: أنغمس في الماء مراراً كثيرة وأشك: هل صح لي الغسل أم لا، فما ترى في ذلك؟ فقال له الشيخ أذهب، فقـد سقطت عنك الصلاة. قال: وكيف؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رُفـع القلم عن ثلاثة المجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ والصبي حتى يبلغ" ومن ينغمس في الماء مراراً ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون، ويستكملُ طارق الحبيب كلامه مُعَلِّقًا: "ولا أدري حقيقة هل أراد أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله تأديب السائل وزجره بجوابه ذلك أم أنه يرى حقيقة أنه مريض وإذا قبلنا الثانية فإنه يبدو أن معظم هؤلاء العلماء لم يكونوا يتعاملون مع الحالات الشديدة من الوسواس على أنها حالات وسواس مرضي خارج عن إرادة الفرد، وإنما على أنها لون من الجنون أو نقص في غريزة العقل كما مر بنا".
٠ وأما في التراث الغربي القديم إنجليزيا أو فرنسيا أو ألمانيا أو إيطاليًا فقد كانتْ المسميات التي يطلقونها على أعراض الوسواس القهري كلها تشيرُ إلى ربطه بخلل منطقي أو بالهذاءات أو الوهامات Delusions والتي هيَ حجرُ الزاوية في تشخيص الجنون، وكذلك ربطوهُ بجنون الاضطهاد Paranoia، ومنهم من اعتبرَ الوساوس وهامات في مرحلة التكوين، وظل الوضعُ الفكري الغربي كذلك إلى أن بدَأ النصفُ الأول من القرن العشرين وعرف جانيـه Janet وكورت شنيدر K. Schneider علة الوسواس القهري تعريفًـا يركزُ على وجود البصيرة عند المريض (أي المعرفة بتفاهة أو عدم منطقية أفكاره أو أفعاله القهرية وبناءً عليه مقاومته لها)، وذلك ما يجعلُ مريض الوسواس القهري مختلفًا عن مريض الذهان بأنواعه أو الفصام إذا أردنا التحديد؛
حيثُ كانت المشكلة التي تواجه الطبيب النفسي عندما يفكرُ بطريقة شنيدر هيَ "وماذا يكونُ التشخيصُ إذا لم يكنْ مريضُ الوسواس القهري مقتنعًا بتفاهة أو عدم صحة أفكاره التسلطية أو أفعاله القهرية؟" وكانتْ الإجابةُ حسب تعريف شنيدر هيَ أن المريض هنا قد أصابهُ الجنون أو الفصام بشكل أدق!، إلا أن الملاحظات السريرية للأطباء النفسيين لم تكن تتفقُ مع ذلك لأن نسبة لا يستهانُ بها من مرضى اضطراب الوسواس القهري يقتنعون بعد فترة من المعاناة بأن وساوسهم صحيحة أو أن أفعالهم القهرية صحيحة ولكنهم لا يظهرونَ أعراض الفصام ولا يستريحُ الطبيبُ النفسيُّ لتشخيصهم بالفصام Schizophrenia؛ وهناك أيضًا من اعتبر أن هؤلاء يمثلون مجموعة من المرضى يقعون بين الوسواس والذهان أو الفصام أي تحمل أعراضهم بعض صفات الوسواس أو الفعل القهري وبعض صفات الهذاءات أو الوهامات.
ومريض الوسواس القهري يريحُ الطبيبَ النفسي طالما ظل محتفظًا ببصيرته التي تعني رفضه للأفكار التسلطية أو الأفعال القهرية في نفس الوقت الذي يشتكي فيه من عدم قدرته على وقفها أو منعها رغم محاولته المستميتة أن يتخلص منها، لكنه يحيرُ الطبيبَ النفسي إذا ما بدا مقتنعًا بالفكرة الخاطئة التي هيَ وسواسه أو بمعقولية فعله القهري وهو بذلك يتوقفُ عن المقاومة لأنه إن فعل ذلك أصبحَ شبيهاً بالمريض الذهاني، هذا هو أصل المشكلة التصنيفية التشخيصية للوسواس القهري، إذن فقد مرَّ التفكير في الطب النفسي بمرحلة كانتْ تجعلُ المريض بالوسواس القهري مريضًا مُـخْـتَـلَـفًـا على تشخيصه أو ضمه مع العصاب أو الذهان، لكنَّ الواضحَ من كل هذا الكلام أنهُ حتى الطبيبُ النفسيُّ كانَ معرضًا للتأثرِ بذلك المفهوم.
وأما ما وصلَ إليه التفكيرُ بعد ذلك فهوَ أن الصورةَ المرضية للوسواس القهري هيَ صورةٌ قائمةٌ بذاتها ربما وقعتْ خارج العصاب Neurosis وخارج الذهان Psychosis وربما احتوت على صفات من كلٍّ منهما، وربما تأرجح المريضُ بينَ كليهما، والملاحظات السريرية (الإكلينيكية) في الواقع تقول ذلك حيثُ تصل نسبةُ مرضى اضطراب الوسواس القهري الذين يقتنعونَ بصحة وساوسهم أو أفعالهم القهرية أو يكفونَ عن مقاومتها سواءً كان ذلك في مرحلة مبكرةٍ أو متأخرة من اضطرابهم إلى ما بينَ 15,5% و17,7% وربما أكثر من ذلك، وأما إجابة السؤال الأصلي وهوَ هل الوسواس القهري نوعٌ من الجنون؟ فلم يعد أحد يبحثُ عنها لسبب بسيط هو أن الجنونَ أو الذهانَ كمفهوم لم يعدْ من المفاهيم التي تقسمُ الأمراضُ النفسية على أساسها كما كانَ الحالُ في الماضي.
واقرأ أيضًا:
بين الوسواس القهري والفصام: نسخة مجانين!/ بين الوسواس القهري والفصام