معظمُ مرْضَى اضطراب الوسواس القهري يخافونَ من أن يؤدي بهم ما يفكرون فيه أو ما يفعلونه إلى الجنون، وبعضهم يعتبرُ نفسهُ مجنونًـا بالفعل ومعظمهم يحاولونَ التكتم على أعراضه مخافة أن يتهمه الناس بالجنون، المهمُّ أن الأطباء النفسيين أنفسهم كانوا في وقتٍ من الأوقات يرون في اضطراب الوسواس القهري بدايةً لطريق الذهان وبعضهم كانَ يرى أن أعراض الوسواس القهري إنما هيَ حمايةٌ للمريض من الذهان أو الفصام، وبعضهم كانَ يتابعُ مرضى الوسواس القهري وهوَ يتوقَّـعُ أن يتحوَّلَ بعضهم إلى مرضى بالفصام.
وفي الطبعة الثالثة للمرجع الشامل للطب النفسي Comprehensive Textbook of Psychiatry والتي صدرت عام 1980 جاءَ أن نسبةً تتراوحُ في الدراسات المختلفة ما بينَ 3 % و 12% من مرضى الوسواس القهري المزمن قد يتحولون إلى مرضى بالفصام وإن كانَ ذلك مشكوكًا فيه، لأنَّ مريض الوسواس القهري مهما كانت أفكارهُ غريبةً أو شاذة ومهما كانتْ أفعالهُ كذلك ومهما كانَ مُـنْغَـمِسًـا فيها إلا أنهُ لا يفقدُ علاقتَـهُ بالواقعِ ولا تتبلدُ مشاعرهُ ولا ينسحبُ من العلاقات معَ الأشخاص الآخرين كما يفعلُ مريضُ اضطراب الفصام المزمن الذي لا يتناول الدواء، بمعنى أن الملاحظةَ الطويلة لمرضى الوسواس القهري ومتابعتهم لسنوات غالبًـا ما تفشلُ في العثور على علامات الفصام الجوهرية التي يعرفها الطبيب النفسي، بل إنه ليبدو أن وجودَ أعراض الوسواس القهري تحمي المريضَ من الدخول في الفصام.
ويقولُ عكاشه "والجدير بالذكر هنا هوَ تحول بعض حالات الوسواس القهري إلى مرض الفصام، ويختلفُ العلماءُ في تفسيرِ مدَى هذا التحول وتتراوحُ النسبة من 12-1% أما في بحثنا في مصرَ فقد وجدتُ أن 8% من الحالات قد تحولتْ في غضون خمس سنواتٍ من الوسواس القهري إلى أعراض ذهان الفصام"، ويضيفُ عكاشه "ويعتقد روث 1960 أن الذهان الناتج عن الوسواس القهري يختلفُ أساسًـا عن الفصام، ويحتملُ أن يكونَ نوعًـا مستقلاًّ من الذهان له مُسَبباتهُ البيئيةُ ومصيرٌ مختلفٌ عن الفصام، وقد لاحظتُ ذلكَ أيضًـا في عددٍ كبيرٍ من الحالات حيث استمرت شخصية المريض متكاملةً حتى في وجود الذهان، ولم يحدث أي تدهور سلوكي أو في الشخصية، وهذا يختلفُ عما يحدثُ في الفصامْ"
وأما يحي الرخاوي فقد كانت الحمايةُ التي يقدمها اضطراب الوسواس القهري من الانهيار الفصامي تتخذُ موقعًا مركزيًّا في نظريته عن السيكوباثولوجيا كلها في السبعينات من القرن الماضي فهوَ يقولُ في شرح سر اللعبة (يحيى الرخاوي ، 1979): "وإن كان العصاب الرهابي قد أعلنَ إنذارًا بحركةٍ داخليةٍ نشطةٍ تهددُ بالتناثرِ والجنون، ثم فشلَ أو كادَ يفشلُ لأن التفاعلَ لهذا الإنذار كانَ انفعاليًّا مُزْعِجًا مُصاحبًا بكل مظاهر الخوف الجسمية والنفسيةِ، فإن العصابَ الوسواسي يعلنُ تضاعفَ الخوفِ من هذا التهديد مع العجز عن استمرار الاستجابة الانفعالية المخيفةِ له، والناتجُ من هذا وذاك هو حلٌ وسطٌ خطير، وهوَ أن تخفَّ درجةُ الانفعال ومصاحباتهُ، وأن تزيدَ درجةُ العقلنة وتثبتَ وتتأكَّـدَ بالتكرار، مع استبعاد انفعال الخوف الأصلي، بمعنى إدراك لا معقولية هذا السلوك المُعَـقْلنِ، ثم الأمنُ الخَـفِيُّ في رحاب التكرار ، وعلى ذلك فإنهُ يلزم سيكوباثولوجيا استتباب هذا العصاب الوسواسي عدةُ شروط:
-1- أن يكونَ التهديدُ بالذهان (الحركة المستقلة النشطة الداخلية المُهَـدِّدَة) أشد وأقرب (حقيقةً في بداية الأمر........... ثم تخيُّـلاً بعد ذلك).
-2- أن يكونَ الانفعالُ بالخوف العقليِّ أكبر من احتمال المريض على المستوى السوِي أو العصابي في صورة العصاب الرهابي.
-3- أن تنشأ حلقةٌ مفرغةٌ من التعود وتثبيتِ التحليل معًا تحافظُ على استمرار السلوك وتثبيته، حتى يكتسبَ ذاتيتهُ التي تكونُ جزءًا لا يتجزأ من سمات الشخصية، وتصبحُ بمرور الزمن الدعامة العصابية المتينة التي تحافظُ على تماسكِ الشخصية دونَ تناثرٍ أو اختلاط."
ويتضح من هذه الفقرات كيفَ كانَ يفكرُ الأطباء النفسيون في العالم ويفندونَ فروضًـا محاولين بيان مدى صحتها، وبالطبع كان ذلك مبنِيًّـا على نظريات لم تحظَ بالبحث العلمي الدقيق وإنْ كانَتْ بعضُ الدراساتِ الموثوقِ بها قدْ رأتْ تقسيمَ مرضى اضطراب الوسواس القهري إلى عدةِ أنواعٍ منها نوعٌ ذهاني يضعونَ فيه المريضَ الذي لا يقاومُ وساوسهُ ولا أفعالهُ القهريةَ ويبدو مقتنِعًـا بها؛
ولكنَّ هذا بالطبع لا يعني أن الوسواس هو الذي أدَّى بهِ إلى الجنون فمفهومُ أن العلاقة سببية غيرُ صحيحٍ وإنما الصحيحُ أن بعضَ مرْضى الوسواس القهري يتصفون بصفات غالباً ما تكونُ موجودةً من بداية اضطرابهم وهذه الصفات تقربهم من ما يحسُّ الناس أنهُ حافةُ الجنون أو أنهُ الجنونُ نفسهُ من حيثُ اقتناعهم إلى حدٍّ ما بوساوسهم أو أفعالهم القهرية فلا يقاومون غسيلَ أيديهم مثلاً حتى يلتهبَ الجلدُ من تأثير المنظفات أو أنهم لا يقاومونَ رغبتهم في التحقق وإعادة التحقق أو لمس الشيء وإعادة لمسهِ دونَ أن يشتكوا من عجزهم عن منع أنفسهم من ذلك، وهذه الصفةُ هيَ التي تجعلُهم مختلفين عن معظم مرضى الوسواس القهري المفترضُ فيهم أن يرفضوا أفكارهم التسلطية وأن يقاوموا أفعالهم القهرية لأنهم غيرُ مقتنعينَ بها أما أن يظهروا نوعًـا من الاستسلام فهذا ما يحيرُ الطبيبَ النفسي.
ومن الأطباء النفسيين اليوم من يعتبرُ نوعين من مرضى اضطراب الوسواس القهري مجانين أو يعتبرونهم نوعًا ذهانيا من اضطراب الوسواس القهري Obsessive Compulsive Psychosis وهذان النوعان هما:
-1- أولئكَ الذين فقدوا البصيرةَ بعدم معقولية أو صحة أفكارهم التسلطية أو أفعالهم القهرية، والحقيقةُ أن هؤلاء المرضى لا يختلفون كثيرًا عن مرضى اضطراب الوسواس القهري العاديين في معظم الصفات اللهم إلا في كون أعراضهم مقبولةً من وجهة نظرهم.
-2- مرضى اضطراب الوسواس القهري ذوي التصاحب المرضي Comorbidity مع اضطراب الفصام أو مع اضطراب الشخصية الفصامية النوع Schizotypal Personality Disorder (وهي أقربُ ترجمةٍ للمصطلح) أو مع الاضطراب الوهامي (الضلالي) Delusional Disorder.
والواضحُ في الآونة الأخيرة أن مفهومَ الفكرة التسلطية نفسها يتسعُ شيئًا فشيئًا بحيثُ أصبح تحولها إلى فكرة مبالغٍ في تقديرها Over-Valued Idea وكذلك تحولها إلى فكرةٍ وهامية أمرًا ممكنًا دونَ أن يعني ذلكَ نزع تشخيص اضطراب الوسواس القهري عن المريض، خلاصةُ القول أن مفهومَ الفكرة التسلطية التقليدي قد اهتزَّ إلى حد كبيرٍ.
واقرأ أيضًا:
بين الوسواس والفصام تشخيص فارقي/ بين الوسواس والفصام: وساوس عاطفية! م2/ بين الوسواس والفصام وشرب المتة!