التفكير السحري Magical Thinking أو التفكير الخرافي في الموسوسين
ربما يكونُ الاستعداد لتصديق الخرافة -ضمن حدود معينة- جزءًا من الطبيعة البشرية، فكثيرون مثلا يهتمون بقراءة الطالع والكف والفنجان ويصدقون حكاياتٍ لا حصر لها عن قوى خفية، وقد يكون ذلك الاستعداد أعلى في ذوي القدر اليسير من المعرفة ربما، إلا أن كثيرين أيضًا من حملة أعلى الشهادات العلمية -جدا- بل ومن أساتذة الجامعات مستعدون في ظروف معينة لأن يصدقوا ما لا يقوم عليه أي دليل مادي، المهم أن هذا القدر اليسير الشائع من التفكير السحري يتداخل في حياة الناس ولا يتسبب في شلل نشاط أي منا.
فإذا أردنا الحديث عن ذلك النوع من التفكير في مرضى الوسواس القهري فإننا سنجد الصورة مختلفة، فالتفكير السحري Magical Thinking طريقة تفكير يتسم بها بالفعل كثير من الموسوسين؛ ودائما ما تراهم يستخدمونها بإسراف وإلى حد التأثير السلبي على حياتهم حتى يصبح من الممكن جدا أن تصاب حياتهم بالشلل، فتراهم يبالغون في توجسهم من عواقب أفكارهم، كما يضفون قوة سحرية على الأفكار وعلى الكلمات وكأنها تقوم بالفعل.
ومن أمثلة ذلك تقييم مريض الوسواس القهري لأفكاره وكأنها أفعال بحيثُ يصبحُ تفكيرُهُ في فعل الفعل أو تخيلهُ لفعل ما، مساويًا في رأيه لقيامه بذلك الفعل أو لإمكانية حدوثه فما دام فكر في شيء فإنه ممكن، وهذا هو ما تمكنُ تسميتهُ باندماج الفكرة بالفعلة Thought Action Fusion ولعل هذا سبب ما نراه من أن الشعورَ بالذنب يعذبُ مريض اضطراب الوسواس القهري على المستوى المعرفي ربما أكثرَ مما يعذبُ مريض اضطراب الاكتئاب الجسيم فمريضُ الوسواس القهري يضخمُ من عواقب أفكاره السيئة إلى حد بعيد كما أنهُ يرى أن عليه معادلةَ هذه الأفكار بأفكار أخرى طيبة (Shafran et al.,1996) وهكذا نجد مفهوم التفكير السحري أو الخيالي متداخلاً مع مفهوم اندماج الفكرة بالفعلة.
وكثيرا ما تبدأ الفكرة السحرية عند مريض الوسواس القهري كطريقة لضبط القلق المصاحب للفكرة التسلطية، أو معادلته بفعل قهري عقلي أو حركي يحمل الطابع السحري، ثم بالتدريج تخرج الأمور من سيطرة المسكين فيسقط في دوامة الوسوسة بأصنافها وأشكالها المرة المتعددة.
ويستطيع التفكير السحري خلق ارتباطاتٍ بين الأشياءِ لا طبقاً للمنطق وقوانين العِلْم، ولا حتى قوانين العادة ضمن العالم الحقيقي، فالأعداد، والكلمات التي تخطر على ذهن المريض، والأفعالُ الشخصية التي يفعلها تستطيع السَيْطَرَة على الأحداثِ الحالية والمستقبليةِ. والحظّ السيئ أَو الحظّ السعيد يُمْكِنُ أَنْ يُتسبب فيهما المريض بالفكرِ، بالبصرِ، باللمس، أَو ببساطة بمجرد أنه ربط بينهما. ومريض الوسواس حين تدور معاناته حول هذا النوعِ من التفكير يُكون مدركا بأنّ تفكيرهُ مجنون أو غير واقعي وليس صحيحا بالنسبة للآخرين، لَكنَّه يَستعمله على أية حال للتَخفيف من قلقِه (أي ينفذ فعلا قهريا ما لدرء فكرةٍ تسلطية ما ولا شيء يربط الفعل بالفكرة لكنه يفعله)، ومن بين تلك الوساوس ما يُمْكِنُ أَنْ يَبْدوَ لا عقلانيا جداً، ولعل هذا سبب تعرض بعض مرضى الوسواس القهري لتشخيص فصام متسرع، ولعلنا أشرنا لشيء من ذلك عند حديثنا عن التداخل التشخيصي بين الوسواس القهري ومرض الفصام وبين الفكرة التسلطية والفكرة الوهامية.
فهناك من مرضاي مثلا:
1- من كانت تواتيه فكرة اقتحامية (أي تقتحم عليه وعيه دون رغبة منه)، مفادها أنه سيطلق زوجته أو سيقول لها "روحي وأنت طالق"، ورغم أنه لم يلفظ الكلمة مطلقا إلا أنه كان يطلب الفتوى من الفقهاء؛ لأنه كان يفكر هكذا:
ما دمت قد فكرت في أنها طالق فقد تكون أصبحت طالقا بالفعل! وكان يطلب من الفقيه أن يسمع سؤاله ثلاث مرات، وأن يكرر الإجابة عليه بأن زوجته غير طالق وما تزال زوجته وحلاله ثلاث مرات أيضا، فهنا نراه يضفي قوة سحرية على أفكاره، كما نرى الأفعال القهرية المتمثلة في السؤال، وتكراره، وطلب تكرار الرد أكثر من مرة.
2- تلك الأم المسكينة التي كانت تقتحم وعيها فكرة أن أحد أولادها قد أصابه مكروه وهو نائم في سريره، وتتسلط عليها هذه الفكرة؛ فترميها في حالة من التوتر الشديد الذي لا تجد الخلاص منه إلا بأن تقوم للاطمئنان على الولد في سريره، وهذا هو الفعل القهري لتتحقق من أن مكروها لم يصب ولدها، فإذا ما قامت بالتحقق، وعادت إلى فراشها داهمتها فكرة أنها قد تكون تسببت في خنق ابنها وهي تقبله أو وهي تغطي وجهه! فتقوم من فراشها للتحقق مرة أخرى من أنه يتنفس، ثم تطعنها الفكرة السوداء التالية: ما دمت فكرت في أنني قد خنقت ابني إذن.... فمن الممكن أن يحدث ذلك!
3- ذلك الأب المسكين الذي بعد زواج ابنته الوحيدة، وبعد أول مكالمة تليفونية بينها وبينه التي اطمأن فيها عليها، داهمته فكرة أنه قد يمارس الجنس مع ابنته! ولم يستطع التخلص من هذه الفكرة رغم إيلامها الشديد له؛ فهذه فكرة اقتحامية تسلطية، ولكن أشد ما كان يعذبه عندما جاء لطلب العلاج كان هو "أنه ما دام تخيل نفسه يمارس الجنس مع ابنته؛ إذن فمن الممكن أن يحدث ذلك".
ورغم أنه لم يكن لديه أي تصور لكيفية حدوث ذلك غير ما حكاه لي من المذكور في التوراة افتراءً على نبي الله لوط -عليه السلام- من أن ابنتيه سقتاه خمرا واضطجعتا معه على ليلتين متتاليتين، وأنجبتا منه مؤابا وبني عمي (سفر التكوين، الإصحاح التاسع عشر) فمن الممكن إذن أن يفعل ذلك وهو مخمور، المهم هو أنه ما دام فكر؛ فإن ذلك قد يحدث أو كأنه حدث!
4- كثيرون وكثيرات كانوا يتجنبون النظر إلى أعلى أي بناية ينتظر أن يكون فيها أطباء لأنهم يخافون أن تؤدي رؤيتهم للوحات إعلان الأطباء عن أسمائهم إلى أن يمرضوا حسب التخصصات! ورغم أن اسم المرض أي مرض هو كلمة تقال قوتها كلها أن توصل المعنى وليس أكثر، فإن ما يحدث للموسوس عند سماع اسم مرض من الأمراض هو فكرة اقتحامية تسلطية أنه قد يصاب أو أحدٌ من ذوي الدلالة عنده بذاك المرض، تتبعها أفكار اجترارية، تتوالد وتتكاثر في رأسه، وتدور غالبا حول الوصمة أو العذاب المتعلق بذاك المرض، وكلها تحوم حول التقييم المبالغ فيه للخطر أو للتهديد المتمثل في اسم المرض، والنزوع إلى أداء أفعال قهرية استباقية تتمثل في التجنب أو التحاشي، كذلك ففيه إضفاء قوة غير موجودة أصلا على الكلمات!
وهناك من المرضى كذلك، من يبالغون في عواقب عدم استجابتهم لأفعالهم القهرية، أو تراهم يفسرون الرابطة بين ما يفعلون من طقوس وما هي مفعولة لأجله بطريقة مخالفة للمنطق، وإذا ضربت هنا بعض الأمثلة فإن الأمر سيتضح:
1-أذكر واحدا من مرضاي الموسوسين كان يصر على أن التزامه بارتداء جاكت من الصوف في قيظ الصيف هو الضمان الوحيد لكي لا تصاب ابنته الموجودة مع زوجها في إحدى دول الخليج بالتهاب رئوي!!
2-وموسوس آخر كان يؤكد أنه لا بد أن يتلو أدعية معينة بطريقة معينة 20 مرةً يوميا، لتبقى أمة الإسلام في كل مكان بخير.
3- وطفل في العاشرة من عمره كان يقوم برمي كل أقلامه من الشباك ليلة الجمعة؛ لأنه بذلك يكون قد تخلص من كل الأخطاء التي ارتكبها طوال الأسبوع، ومحا أثر كل المواقف التي تصرف فيها بغباء!!
وبطبيعة الحال فإن التفكير السحري رغم غرابته وما يمكن أن يتسبب فيه من إعاقة ليس أكثر من أحد سمات الموسوسين المعرفية التي تستجيب للعلاج المعرفي السلوكي إضافة إلى عقاقير الم.ا.س.ا في أغلب الأحيان، ولكن المهم هو أن يتعاون المريض ويثابر على متابعة جلساته العلاجية وتناول عقاره، وطلب الشفاء من الله.
ويتبع >>>>>>>>>>>>>: التفكير السحري (الخرافي) في الموسوسين: تفصيل
واقرأ أيضاً:
فاعلية العلاج النفسي الديني في الوسواس القهري(2) / منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري (11) / ما هو اضطـراب الوسواس القهري؟