تاريخ اضطراب الوسواس القهري(1)
نأتي بعد ذلك إلى أحد علماء العرب والمسلمين الموسوعيين وهو أبو زيد البلخي (850م – 934م)، في كتابه "مصالح الأبدان والأنفس" حيث أنه ذكر "أحاديث النفس ووسواسها" وهذا طبيعي يحدث لكل إنسان (أبو زيد البلخي1984) أما الوسواس الذي يمنع الإنسان عن التفكير فيما سواه ويشغله عن أكثر أعماله أو عن قضاء أوطاره، فهو من الأعراض النفسية التي لا بد من علاجها ويقسم البلخي هذا الوسواس المرضي من حيث موضوعاته إلى نوعين:
الوسواس المتعلق بمن يحبه الإنسان ويتمناه أمثال مجنون ليلى، وكثير عزة، وجميل بثينة، وحاليا يطلق عليه بعض علماء النفس المحدثون Stalking "Kamphuis& Emmelkamp, 2000" وبالعربية هو "الملاحقة" أو التعلق وشدة الولع والحب الشديد لشخص ما لدرجة المشي وراءه ومتابعته في كل مكان وملاحقته وغالبا ما يكون هذا الحب من طرف واحد (كمال مرسي 1988, ص ص 153 -186)
والوسواس الثاني (هو مثل تحديث نفس الإنسان بأمر مخوف قد يحل به عن قريب، وأشد من ذلك هو تحديثها إياه بمكروه قد ينزل به في بدنه وحياته وهذا أصعب المخاوف وأشدها تمكنا من القلب واستيلائها عليه).
ويرى البلخي أيضا أن الوسواس (عرض ليس بمعروف السبب وليس بالحقيقة علة موجبة، وإنما هو شيء يقع في طباع بعض الناس من قبل مولده) وكأنما يشير من طرف خفي إلى عامل الوراثة كمسبب لهذا الاضطراب وذلك هو ما تشير إليه كثير من الدراسات الحديثة في الغرب (Hollander et al., 1989 ; Rasmussen et al., 1986) وقد ذكر البلخي بعض السمات الشخصية للموسوسين منها: (أنهم يوجدون سيئي الظنون بأنفسهم في خيفتهم عليها مما لا يجب أن يُخاف منه، كذلك يوجدون سيئي الظنون في مجمل أمورهم فلا يعرض لهم أمر من الأمور الممكنة والتي يمكن أن تتصرف على وجهين إلا ذهبت أوهامهم إلى الوجه الذي هو أصعب وأخوف، فهم دائماً يتوقعون الأسوأ).
وهذا يشابه كثيرا ما نشر في الدوريات الغربية خلال العقدين الأخيرين (Lydiard et al., 1988 ; Tallis & De Silva, 1992). ويجد هذا الطرح ما يؤيده لدى التصنيفات الحديثة Nosology حيث يصنف الوسواس القهري ضمن اضطرابات القلق. كما في التقسيم الأمريكي للأمراض النفسية - الرابع (American Psychiatric Association, 1994)
أما المدهش في كتاب هذا الرجل الموسوعي فهو برنامج العلاج الذي اقترحه من عشرة بنود سأشير إلى المهم منها في عجالة من الوقت وباختصار أرجو أن يكون غير ممل ولا مخل (الزبير طه،1993 ، ص ص 142-123):
1- (أن يعلم المريض بالوسواس أنه يعاني من عرض وأن الناس من معارفه يشهدون بأنها وساوس باطلة وأنها لا تستتبع أي ضرر بل هي مجرد أفكار سخيفة عليه ألا يلتفت إليها). وقد نشر في هذا المجال حديثا مقالا عن فائدة شريك الحياة في المساعدة على علاج الوسواس (Emmelkamp & De Lange,1983)
2- (أن يفكر في أن كل عرض يعرض للنفس من الظنون السيئة والفكر الرديء مما لا يكون له في الظاهر سبب معروف فإنه شيء من مزاج بدنه). وهو ما يشير إلى أهمية المنشأ العضوي للاضطرابات النفسية (Donovan & Barry, 1994; McDougle et al., 1992) كما يؤكد للمصاب باضطراب الوسواس أنه مجرد خواطر مزعجة كالأحلام السيئة التي لا تتحقق عندما يحلم بها شخص ما بعد استيقاظه من نومه وفي هذا الصدد يقول: (وأنه شيء لا مكروه عليه منه وذلك شبيه بحال من يتأذى بالأحلام التي يخاف سوء تأميلها، إذا صار رؤية الأحلا (المخيفة) عادة ولم يتعقب ذلك مكروها وجب عليه أن لا يكترث بعد معرفته بأن ذلك شيء وقع له بالطبع والمزاج فتكون هذه الفكرة إحدى الفكر التي يقابل بها وساوسه الرديئة). وهذا ما يسمى باستبدال فكرة سيئة بفكرة حميدة يدفع بها المريض الفكرة الو سواسية المكروهة.
3- يقول أبو زيد البلخي (الله ركب الأنفس في الأبدان تركيبة على غاية الإحكام والإتقان، فلذلك ترى كل حي تألف البدن الذي تحله، حتى أن الإنسان لتصيبه، الآلام والأوجاع والنكبات من الضرس والجرح والكسر والمرض والقحط فتحتمل ذلك وتعيش معه وكذلك الأمراض). وهنا يوجه البلخي نظر مريض الوسواس إلى أن الجسم يداوي نفسه أفضل من الطبيب وأن مرض الوسواس لا يقتل وإنما تقتل الآجال، والآجال في علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله، وهو بذلك يستخدم مزيج من العلاجين المعرفي والديني في مداواة هؤلاء المرضى. (Gullick& Blanchartd, 1973) و(Lewis& Joseph,1994 )
4- أن يفكر مريض الوسواس في: (أن الله تبارك وتعالى، أراد، عمارة هذه الدنيا وبقاء أهلها فيها إلي المدة التي قدرها، كذلك جعل أسباب السلامة فيها أغلب من أسباب الهلكة). وهنا يشير البلخي إلى أهمية الأفكار الإيجابية وهي أن الشفاء هو الأصل في الأمراض كلها ويدفع عن المريض الأفكار السلبية وهي أن المرض يؤدي إلى الهلاك وإلى الجنون، وذلك مثلا كما في حالة اضطراب الوسواس القهري، وفي نفس الوقت يدفع بالأفكار السلبية بعيدا عن عقل الموسوس.
5- أن يفكر المريض في (أن الله تعالى، جعل بلطفه لكل داء دواء وفرق بين تلك الأدوية في أصناف النبات وأجزاء أبدان الحيوانات وسخر خلقا من عباده لتتبع تلك الأدوية، ثم ألهم خلقا آخرين باستنباط صناعة الطب، حتى ركبوا تلك الأدوية بأوزانها ومقاديرها) وهنا يشير البلخي إلى أهمية العلاج الدوائي وهو ما نعتمد عليه كثيرا اليوم في علاج الحالات المتألمة من اضطراب الوسواس القهري.
6- (أن يفكر أن المرض له أسبابه والصحة لها أسبابها، وكما أن البنيان القائم لا ينهدم هكذا بغتة من تلقاء نفسه والمصباح المضيء لا ينطفئ فجأة وبدون مقدمات، فكذلك الجسم لا يموت إلا بمقدمات معقولة) وكأنما البلخي يقول هذا لمن استولت عليه وساوس مرض الموت إذا أثبت الفحص الطبي أنه لا يوجد عنده مرض قاتل.
7- (يستحضر المريض يقينه بأن الله تبارك وتعالى جعل لكل داء يعرض للأبدان والأنفس دواء) وهنا يعود البلخي لاستخدام العلاج الديني مرة أخرى.
8- (أن يحرص المريض بالوسواس على تجنب الوحدة والانفراد لأن من شأن الوحدة أن تهيج على الإنسان أحاديث النفس). وهنا تظهر أهمية العلاج الجمعي والذي اثبت فاعلية في علاج الوسواس القهري (Van Noppen et al., 1997)
9- (أن يحرص المريض على شغل أوقات الفراغ بالعمل الصالح وما يفيد الناس . ومع ذلك فإن البلخي لا يفوته أن يوصي هؤلاء المرضى بالترفيه عن النفس لمن استطاع إلى ذلك سبيلا)وهذا منهج الاعتدال والوسطية الذي يدعو إليه الدين وعلماء الصحة النفسية في نفس الوقت.
10- (أن يستعين المريض بمن يثق في مودتهم له وشفقتهم عليه فيعينوه على تكذيب الوساوس). البلخي هنا يعود إلى النقطة التي بدأ منها برنامجه العلاجي وهي الاستعانة بمن يحبهم المريض، ويثق في رأيهم لإيقاف الأفكار الوسواسية المزعجة وتكذيبها كالطبيب المعالج وشريك الحياة أو أحد الأخوة وهذا متعارف عليه الآن في العلاج النفسي للوسواس القهري.
ولقد عاصر البلخي أحمد بن محمد بن يعقوب الملقب "بمسكويه"، وقد تناول مسكويه موضوعات الصحة النفسية من زاوية الفلسفة وذكر أن الأسباب المولدة للأمراض النفسية هي الغضب والحزن والخوف. أما طريقة مسكويه في العلاج النفسي فكانت أقرب إلى الجانب التحليلي النفسي فهو يبحث في المكونات الخلقية في شخصية المريض والتعامل مع تلك المكونات في برنامج علاجي طويل المدى وهو أسلوب متوقع من مسكويه نظرا لخلفيته الفلسفية. بينما يتعامل البلخي مع الأعراض الموجودة مباشرة عن طريق العلاج السلوكي – المعرفي بالإضافة إلى استخدام العلاج الدوائي المتوافر في عصره (مروان أبوحويج ,1988,ص ص163-131 ) ولا يسعنا في ذلك إلا القول بأن: منهج البلخي في علاج الوسواس القهري قريب جدا من مناهج العلاج التي يستخدمها المعالجون النفسيون في شتى أنحاء المعمورة الآن.
يأتي بعد هؤلاء الأعلام المتقدمين حجة من حجج الطب الإسلامي ألا وهو أبو بكر الرازي (854 م –932م) (250 - 313 هجرية) "مبتكر الخيوط الجراحية" فأضاف إلى اضطراب "الوسواس القهري" علاقته المتشابكة مع الاكتئاب فأطلق على الاكتئاب الجسيم اسم الوسواس السوداوي (Youssef, 1994) وإلى حد ما تشير الدراسات الحديثة إلى وجود الاكتئاب مترابطا مع تواجد الوسواس القهري في نفس المريض بنسبة تتراوح من 80 – 90 % من حالات الوسواس القهري (Jenike,1998).
أما ابن سينا (980 – 1038م) (370 – 428 هجرية) في كتابه الشهير "القانون في الطب" والذي كان يدرس لطلبة الطب في جامعات أوربا في بداية النهضة الأوروبية الحديثة، فقد ذكر بعض التركيبات الدوائية من أعشاب وغيرها كوصفة علاجية لمرضى الوسواس القهري، وقد أقترح ابن سينا العلاجات المفرحة والمهدئة وبالذات إذا كان الوسواس مصحوباً بالاكتئاب (السوداوي): مثل شراب البابونج وماء الشعير والحليب والزبد، واستنشاق روائح المسك والكافور، واقترح تركيبات دوائية يدخل فيها الأفتيمون واللازورد والسكنجين والأهليلج والأفسنتين بنسب وكميات محددة، وبالطبع هذه التركيبات تحتاج إلى مراجعات وأبحاث علمية من علماء الصيدلة في وقتنا الراهن، لمعرفة تركيباتها وتأثيراتها على الوسواس والاكتئاب. ( ابن سينا، 1956 ،ج3 ، ص54)
المراجع العربية:
- أبو زيد البلخي (1984). مصالح الأبدان والأنفس ، معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية (يصدرها فؤاد سركية) جامعة فرانكفورت، ألمانيا.
- كمال إبراهيم مرسي (1988). تعريفات الصحة النفسية في الإسلام وعلم النفس، مجلة المسلم المعاصر(51,52) ص ص 186-153 .
- الزبير بشير طه(1993). الصحة النفسية لدى أبو زيد البلخي، المجلة العربية للطب النفسي، المجلد الرابع، ص ص42-123 .
- ابن سينا (1956). القانون في الطب، الجزء الثالث، القاهرة ، دار الحلبي للنشر، ص 851.
المراجع الغربية:
- Kamphuis, J.H., & Emmelkamp, P.M.G.(2000). Stalking- a contemporary challenge for forensic and clinical psychiatry. British Journal of Psychiatry, 176, 206-209.
- Hollander, E., DeCaria, C., & Liebowitz, M. R. (1989). Biological aspects of obsessive-compulsive disorder. Psychiatry Annals, 192, 80-86.
- Rasmussen ,S.A. & Tsuang,M..T.(1986). Clinical characteristics and family history in DSM-III obsessive –compulsive disorder. American Journal of Psychiatry,143(3)317-322.
- Tallis, F., & De Silva, P. (1992). Worry and obsessional symptoms: a correlational analysis. Bahviour Research & Therapy , 30(2) 103-105.
- Lydiard, R., Laraia, M. T., Fossey, M., & Ballenger, J.C. (1988). Possible relationship of bowel obsession to panic disorder with agoraphobia. American Journal of Psychiatry, 145(10) 1324-1325.
- American Psychiatric Association.(1994) Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, 4th.ed. Washington, DC: American Psychiatric Press; 1994.
- Emmelkamp, P.M.G., & De Lange I., (1983). Spouse involvement in the treatment of obsessive compulsive patients. Behavioral Research and Therapy,21(4)341-346.
- Donovan, N. J.,& Barry, J.J. (1994). Compulsive symptoms associated with frontal lobe injury. American Journal of Psychiatry, 151, 618.
- McDougle, C. J., Goodman, W. K. & Price, L. H. (1992). New research on the neurobiology of obsessive-compulsive disorder. Current Opinion in Psychiatry, 5, 249-254.
- Gullick, E. L. & Blanchartd, E. B. (1973). The use of psychotherapy and behavioral therapy in the treatment of an obsessional disorder: An experimental case study. Journal of Nervous & Mental Diseases, 156, 427-431.
- Lewis, C. A. & Joseph, S. (1994). Religiosity: Psychoticism and obsessionality in Northern Irish University students. Personality and Individual Differences, 17, 685-687.
- Van Noppen,B. , Steketee, G. , McCorkle BH & Pato ,M (1997) Group therapy multifamily behavioral treatment for Obsessive – compulsive disorder : a pilot study. Journal of Anxiety Disorders ,11,(4) : 431-446
- Youssef, H. (1994). Arabic expression of emotion. British Journal of Psychiatry, 165(3) 407.
- Jenike, M. A. (1998). An overview of obsessive compulsive disorder. In: Jenike M, Baer L, Minichiello W (Ed.).Obsessive-compulsive disorder practical management,(pp 3-11). St Louis: Mosby. 3 rd ed.