بالنسبة لأغلب البشر تبدو فكرة أن يقوم الشخص بإيذاء نفسه جسديا فكرة ملغزة على الفهم ومرعبة التصور، ويمكنك أن تجرب: فكر مثلا في أن شخصا ما يقوم بصورة متكررة بجرح نفسه أو إحداث خدوش بسكين أو موسي في جلد يديه أو رجليه أو فتاة تفعل ذلك في ما تحت أو بين نهديها أو في ذراعها أو رجليها، هل تجد ذلك فعلا عاقلا؟ الحقيقة أن هذا النوع من تشويه الذات الجسدي نادر الحدوث في المجانين، وهناك مما يقابله الطبيب النفسي عدةُ أصنافٍ أو أشكال من تشويه الذات الجسدي، وما يحدث في الحالات الذهانية Psychotic Cases أو تحت تأثير الحبوب المُخَدِّرة أو في أصحاب المتلازمات المرضية هو شكل أكبر جسامة مما سبق كقلع العينين مثلا أو الإخصاء الذاتي أو بتر طرفٍ من الأطراف، وسنعرضُ لوصف كل أشكال تشويه الذات (أو إيذاء النفس) الجسدي.
وأما ما سنركز عليه في هذه السلسلة من المقالات فهو صنف من أصناف تشويه الذات الجسدي يسمى تشويه الذات الجسدي السطحي/ متوسط الشدة Superficial / Moderate Self-Mutilation وهو يحدث في أناس عاقلين لكنهم شديدو المعاناة بحق، ويؤدي حدوثه بصورة متكررةٍ إلى تشويهٍ حقيقي للجسد، وواقع الممارسة الطبية على مستوى العالم يقول بأن ظاهرة إيذاء النفس الجسدي (Bodily Self-injury BSI) أو تشويه الذات جسديا Self-Mutilation أو إيذاء النفس المتعمد Deliberate Self Harm، أو نظير الانتحار Parasuicide هي ظاهرة في تزايد مستمر خاصة في المراهقات.
أشكال التشويه الذاتي للجسد:
هناك عدة تصنيفات لتشويه الذات الجسدي إلا أن أكثر تلك التصنيفات قبولا وشيوعا في أدبيات الطب النفسي هو التصنيف الذي اقترحه أماندو فافازا سنة 1996 في كتابه "أجساد تحت الحصار" (Favazza, 1996)، والذي يصنف فيه تشويه الذات الجسدي إلى ثلاثة أشكال:
1- تشويه الذات الجسدي الجسيم Major self-mutilation: وهو الصنف الذي ينتج عنه فقد لعضو كامل أو قدر كبير من أنسجة الجسد ولهذا السبب فإنه غالبا ما يحدث مرةً واحدة ويشمل مثلا إخصاء الذات self castration ، قلع العين eye enucleation أو سلخ الوجه facial skinning أو بتر أحد الأطراف limb amputation، وعادة ما يرتبط هذا الشكل المروع من أشكال تشويه الذات بحالات الذهان مثل الفصام أو الاضطراب الثناقطبي من الدرجة الذهانية أو الاكتئاب الجسيم من الدرجة الذهانية أو النقص العقلي أو الثَّمل (التسمم intoxication) بمادة مخدرة أو نفسانية التأثير كالكحول، وكثيرا أيضًا ما يتعلق هذا الصنف من تشويه الذات بالمواضيع الجنسية أو الدينية كعقابٍ على ذنب أو بدافع الرغبة في التطهر من الجنس أو خوفا من الشذوذ الجنسي.
وكمثال يذكر فافازا حكاية حدثت سنة 1933 لفتاة في السادسة عشرة من عمرها كانت تعاني من التهابٍ دماغي مزمن بدأ منذ كان سنها ثمانية أعوام حيث وجدتها ممرضتها تمسك عينها اليمنى في يدها وتقول أنها سقطت من تلقاء نفسها وهي نائمة! وبعد نحو ساعتين تكرر الحدث مع عينها اليسرى وبدت غير عابئة بشيء! فعندما سئلت قالت نفس ما قالته في المرة الأولى لكنها بعد ذلك بفترة اعترفت بأنها عانت من رغبة لا تقاوم irresistible urge في قلع عينها وفعلت ذلك وهي شبه نائمة دون أي شعور بالألم.
وهكذا نجدهم، فإذا أعطى مرتكبو تشويه الذات الجسيم تفسيرا فعادة ما يكون دينيا أو جنسيا أو استجابة لأمر قوة عليا كروح متلبسة أو لصوت (هلوسة سمعية) أمر، وغالبا ما يكون ارتكاب الفعلة متبوعا بحالة من الهدوء النفسي توحي بأن للفعلة دورا في حل صراع نفسي داخلي، إلا أن ذلك الهدوء لا يستمر طويلا وكثيرا ما يتكرر تشويه الذات الجسدي الجسيم.
وهناك كثيرون يقدمون على إخصاء أنفسهم رغبة في التحول الجنسي transsexualism أو خوفا من الانغماس في الشذوذ أو الممارسات الجنسية المحرمة ومن أمثلة هؤلاء حالة ظهرت على استشارات مجانين (هل أستحق الوجود ؟؟ لله تعالى القول الفصل..)، وقد ظل صاحبها يعاني من مشكلته حتى أرسل مرة أخرى عبر موقع المستشار متسائلا كيف أخصي نفسي؟؟، بل إن هناك من يقدم على تلك الفعلة رغبة في التخلص من الغريزة الجنسية بوجه عام.
ويقول فافازا أن ذلك يبقى مقصورا على فئة من المتدينين المسيحيين، وكذلك قلع العينين (Favazza, 1998) بل إنه يذكر آية من آيات العهد الجديد في إنجيل متى ونصها بالعربية "وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه* فإن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم* وإن كانت يدك اليمنى تعثرك فاقطعها وألقها عنك لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم" (إنجيل متى الإصحاح الخامس 28-30)، ويقول فافازا أن هذه الآيات كثيرا ما يستشهد بها مرتكبو التشويه الجسدي الجسيم، ويستكمل فافازا قائلا أنه بحث عن حالة قلع ذاتي للعين واحدة في غير الثقافات المسيحية فلم يجد في الصين ولا في اليابان ولا سنغافورة ولا هونج كونج ولا الهند ولا في السكّان الأصليين لأستراليا ولا بين مواطني غينيا الجديدة (Favazza, 1998).
2- تشويه الذات الجسدي اللزومي المتكرر Stereotypic self-mutilation: ويتضمن أفعالا تكرارية بل إيقاعية أحيانا تتميز بالرتابة من التشويه الجسدي وأكثرها شيوعا هو ضرب الرأس head-banging، وحفر الأنف أو غيره من فتحات الجسد Body orifices، أو قضم الأصابع أو الضغط على العين أو عض النفس المتكرر، ويختلف هذا الصنف من أصناف تشويه الذات الجسدي في خلوه من الرمزية وفي حدوثه بشكل لزومي وعدم تأثره بوجود آخرين يحيطون بالفاعل، ويبدو هذا الصنف من تشويه الذات الجسدي أكثر ارتباطا بالأسباب العضوية وهو أكثر شيوعا في نزلاء المصحات العقلية من المتخلفين عقليا ومرضى المتلازمات المصاحبة للنقص العقلي أو الذاتوية (التوحد) autism أو اضطراب ريت Rett's disorder أو متلازمة توريت Tourette syndrome، وأحيانا في مرضى الفصام المزمن، وتختلف نسب شيوعه بين الدراسات من 3.5 % إلى 40% (Winchel and Stanley, 1991)، ويلاحظ شيوعه أكثر في المقيمين في المصحات منه في غيرهم رغم اشتراكهم في نفس الحالة المرضية، وفي معظم الحالات يكون مرتكبو هذا الصنف من تشويه الذات غير واعين لما يفعلون ولو أنهم وعوه لوجدوه بلا معنى.
3- تشويه الذات الجسدي السطحي/ متوسط الشدة Superficial / Moderate Self-Mutilation: هذا هو الصنف الأكثر شيوعا من أصناف تشويه الذات الجسدي ويبلغ معدل انتشاره حوالي 1.4 % من مجموع الناس في المجتمعات الغربية وهي نسبة مرعبة بحق، وكالعادة لا توجد دراسات مسحية توضح معدل الانتشار في مجتمعاتنا.
وليس يتشابه كل المرضى في هذا الصنف من أصناف التشويه الذاتي للجسد، فهناك من تقترب صورتهم المرضية من صورة مرضى الوسواس القهري، فهم يمارسون سلوك التشويه بشكل قهري كما نرى في مرضى اضطراب نتف الشعر، ويسمى التشويه في هذه الحالة تشويه الذات الجسدي القهري Compulsive self-mutilation، وهناك من تتميز حالاتهم بالاندفاعية والتأرجح الوجداني الحاد بما يتماشى غالبا مع مرضى اضطراب الشخصية الحدية borderline personality disorder، ويسمى تشويه الذات الجسدي العَرَضِي Episodic self-mutilation وهؤلاء غالبا ما يمارسون سلوك التشويه عرضيا استجابة لمشاعر لا يحتملونها كما سنبين، وهناك كذلك من يمارسون تشويه الذات الجسدي بصورة اعتيادية أو بمعدل منتظم إلى درجة أن أحدهم يتخذ لنفسه هوية قاطع Cutter أو حارق Burner ويصف علاقته بتشويه الذات بأنها علاقة إدمان! (Favazza, 1998)، ويسمى سلوك تشويه الذات هنا بتشويه الذات الجسدي التكراري Repetitive self-mutilation، وهذا الشكل الأخير هو ما ينادي بعض الباحثين في الطب النفسي (Favazza & Rosenthal 1993) باعتباره اضطرابا قائما بذاته وهو الأكثر شيوعا من أشكال التشويه الذاتي للجسد، وهذا الشكل -السطحي/ متوسط الشدة- من تشويه الجسد هو ما سنركز عليه في المقالات التالية.
المراجع:
1-Favazza, A. R. (1996): Bodies under siege: Self-mutilation and body modification in culture and psychiatry (2nd ed.). Baltimore: Johns Hopkins University Press.
2- Favazza, A. (1998): The coming of age of self-mutilation. Journal of Nervous and Mental Disease, 186(5), 259-268.
3- Winchel, R., & Stanley, M. (1991): Self-injurious behavior: A review of the behavior and biology of self-mutilation. American Journal of Psychiatry, 148,3, 307-317.
4- Favazza AR, Rosenthal RJ (1993): Diagnostic issues in self-mutilation. Hospital and Communiy psychiatry 4:134-140.
التعليق: "بالنسبة لأغلب البشر تبدو فكرة أن يقوم الشخص بإيذاء نفسه جسديا فكرة ملغزة على الفهم ومرعبة التصور"
وإيذاء الإنسان لغيره نفسيا هل هي فكرة ليست ملغزة على الفهم وليست مرعبة؟!!!!
ربما الإيذاء المادي هو تعبير عن ألم لا يمكن احتماله
ربما هو بديل لما يفوق الإيذاء الجسدي
منتهى الألم ألا يشعرك هذا الإيذاء بالراحة فتتمنى أن تفعل أكثر من مجرد إيذاء لتتخلص من آلام لا تُحتمل ولا تنتهي
وما العيب في ذلك طالما لا أحد يهمه أمرك
وما العيب إن كنت كالمهملات التي لا يريد أحد الاقتراب منها
وما العيب إن كانت كلماتك لا أحد يهتم بها أو ربما يزدريها
وما العيب طالما أنت بلا قيمة
وما العيب وأنت لا تستطيع احتمال الألم