دخلت عليَّ وزوجها سيدة في الخمسين من عمرها، مختمرة، وعرفت بعد قليل من التعارف أن مشكلتها هي وسواس النظافة، قلت في عقلي أكيد سأجد لديها وسوسة سابقة أو حالية فيما يتعلق بالطهارة،...... لكنني لم أجد!...... وأكَّدَّت هي نفسها أنها طوال عمرها نظيفة زيادة...... دون إحداث مشكلات لكنها الآن أصبحت عبئا ثقيلا على أسرتها كلهم!
فدون أن يكونَ هناك ما يمثل سببا واضحا...... زادت معها الأمور حتى أصبحت لا تهدأ ولا تكل ولا تمل من التنظيف المستمرِّ ووضع الشروط والقيود على أفراد الأسرة وعلى الزائرين ما استطاعت فتراقبهم وتفحص بعيون صامتة ملابسهم وأحذيتهم وتصرح بالنهر أو الصراخ إذا خالف أحدهم دستور النظافة الذي وضعته، بغض النظر عن عواقب ذلك إن كان قريبا ذلك الضيف، أو هي تكظم نفسها وتكتم صراخها حتى ينصرف الضيف لتنظف وتنظف ما خلفه من قذارة...... فهل هو الخوف من العدوى يا سيدتي؟
أجابت نعم فقلت لها "لا عدوى"..... قومي أقيس لك ضغط الدم وأفحص أعصابك...... وبدا لي أنها تفكر في "لا عدوى" هذه التي قلتها...... ولا تدري ماذا كنت أقصد، سألتها ألم تعملي خارج بيتك من قبل قالت: حصلت على دبلوم التجارة ثم تزوجت،...... مازحني زوجها وأنا أقيس الضغط قائلا أنه يريدني أن أصلح له زوجته لأنه ليس لديه غيرها وليس لديه مالٌ لغيرها فتمتمت بما فهمت منه أنها تتهمه بوجود المال لديه، أو وجود نيته لزواج ثاني...... ولم أستوضح شيئا بعد ذلك، متعلقا بهذا الأمر.
كان ضغطها أعلى قليلا من الطبيعي...... وسألتها هل تأخذين عقاقير للضغط فقالت صنفين صباحي ومسائي..... فقلت عليك أن تتابعي مع طبيبك المعالج...... ما أخبار الشهية للطعام وأخبار النوم فقالت شهيتي كانت قد ساءت كثيرا لكنها أفضل منذ شهرين، سألت زوجها...... تراك كنت قاعدا تتفرج عليها؟ فأجاب لا والله بل هي ترفض رفضا باتا أن أحضرها للطبيب النفساني!
ماذا عن النوم قالت كنت لا أنام لكن عقَّار الضغط الذي آخذه صباحا جعلني أفضل أصبحت أنام بعد استعماله، سألتها تنامين في النهار قالت أصبحت أنام الليل جيدا والنهار أيضًا...... قلت لها هروب؟ ولا "نوم الظالم عباده!"...........فترقرقت دمعتان في عينيها فقررت الولوج إلى أعمق قائلا لكن أنت فعلا ظالمة؟؟..... قالت ظلمت الجميع...... وظهر حزنها وأحسست بالدموع تكاد...... فقلت لكنك ظالمةُ نفسك قبل الجميع وهذا هو الأمر الخطير! قالت كيف؟
قلت ممَ تخافين؟ قالت أخاف من القذارة ...... من الوسخ أليس تجلب الأمراض؟ قلت لها فقط هل خوفك من هذه الناحية؟ قالت نعم قلت لها وما رأيك في قول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بيانا لأهمية أن يؤمن المسلم بأن لا شيء يحدث إلا بقدرٍ من الله حتى فيما يتعلق بانتقال الأمراض، قال صلى الله عليه وسلم (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) وهو حديث صحيح، ومعنى هذا أننا يجب أن نؤمن أن الله سبحانه هو الذي يحمينا ويقدر لنا أن نمرض أو لا نمرض، ولن تغير أفعالك القهرية شيئا من القدر، لكنك رغم ذلك تحملين نفسك ما لا تطيق فتظلمينها بالإصرار على محاولة التعمق في حفظ النظافة المبالغ فيها بنفسك! وإن المنبت لا أرض قطع ولا ظهرًا أبقى؟ ترى تفهمين ما أقصد؟
قالت أول مرة أسمع بهذا، وعلى كل حال هناك مشكلة أخرى هي أنني لا أستريح ما لم يكن كل شيء في مدى ما أستطيع الوصول إليه نظيفا...... بل يبرق من شدة النظافة...... أنا أحب المساواة والتناسق والتناظر بين الأشياء أليست هذه نظرة جيدة؟ يضايقني عدم التناسق أشعر كأنني أغلي ولا أريد العبث بالنظام!
قلت لها وماذا عن رغبتك في إتمام كل شيء على أكمل وجه؟ قالت طبعا...... هكذا يجب عليَّ وعلى غيري، قلت لها بحيث يكون بلا غلطة ولا تقصير؟ ولكن هل تأخذين بالظاهر المتفق عليه في أن الفعل المعين انتهى أم أنت تكررين وتتحققين وتعيدين التحقق والتأكد؟ قالت لأتقن عملي! قلت لها ليس الحديث هنا عن الإتقان فالإتقان يكون بتحقق ما اتفق عليه الناس من مواصفات وحضرتك مواصفاتك فوق الحدود البشرية!.......... صحيح ..........! قالها زوجها، وأمنت على كلامه هي متنهدة تنهيدةً حزينة.
أكملت قائلا أما أفعالك كلها وأفعال زوجك وأنا وأفعال غيرنا من البشر –وكل المخلوقات- فناقصة، وعلينا أن نجعل هذا العيب عيبا غفلنا عنه لأننا بشر وليس أن نتعمق ونتنطع في محاولة عدم إبقاء ما يشوب كمال أفعالنا بحيث نسقط صرعى للوسوسة، علينا أن نقبل بأن نقصا -خطأ أو عيبا- يشوب أفعالنا بالتأكيد وعينا به أم لم نعي لأننا مخلوق وفعل المخلوق ناقص! ألست تؤمنين بأن الكمال لله وحده!
سأعطيك يا "حاجة" ما يساعدك إن شاء الله من عقاقير الم.ا.س.ا وشرحت لها عن الآثار الجانبية على المدى القصير، ونبأتها عن تفاؤلي بسرعة تحسنها إن شاء الله لأني لمست رغبة صادقة في التغيير والاستعداد لتحمل المشقة من أجله،...... وإذاها ستبكي ثالثة.... فقلت لها لا وفري البكاء لما بين يدي الله راجية ومستعيذة ومستعينة اطلبي منه الشفاء، وتابعي بعد أسبوعين.
وأقول لكم أنتم يا مجانين أو يا عقلاء المجانين، طبعا هذه سيدة لديها بعض السمات الوسواسية وبعض من الخصائص المعرفية لمرضى الوسواس، وكانت طوال ما مضى من سنوات عمرها متماشية مع الوسط المحيط ومقبولة كأم حريصة دقيقة نظيفة منمقة الأشياء، لكنها فجأة ربما لظهور اكتئاب وربما لحدثٍ حياتي كربي -لم أستطع معرفته خلال الفحص الأول- لأي من هذه الأسباب أو غيرها أو بلا سبب معلوم قدر الله أن تسقط صاحبتنا على مدى الشهور السبعة الماضية في براثن الوسوسة (أحدثا عقلية تسلطية+ أفعال قهرية)، فلجأت إلى الطبيب النفسي بعد طول امتناع وكنت أول من وقَّع الكشف عليها كطبيب نفسي، وكانت وسوستها بالنسبة لي جديدة نوعا في أخذها صورة النظافة -بدون وسوسة الطهارة وهذا ما يندر خلال عملي مع المرضى المسلمين- ، في خبرتي على الأقل، وأما التواكب بين وسوسة النظافة والتنظيف ووسوسة الكمال والتمام -وغالبا التشاؤم- فكثيرا ما لحظت تواكبهما معا في نفس المريض وما وسوسة النظافة أصلا إلا أحد أشكال الرغبة في كمال الأمان...... عادة مع تقييم مفرط للخطر...... فهل يشاركني الأطباء النفسانيون الرأي؟
وهل نستطيع يوما دراسة ملاحظاتنا تلك وهل يوما نبدع تصنيفا آخر أو نجيب إجابة أفضل على سؤال: هل هناكَ أنواعٌ من اضطراب الوسواس القهري؟
ولمناقشة الأعماق المعرفية لمظاهر الوسوسة لدى مريضة عربية مسلمة، لمزيد من هذا وذاك اقرؤوا على مجانين:
مين كمال؟؟ حد يعرفه؟ م/ الكمالية والتخزين القهري: هل هو إدمان؟/ الكمالية والإتقان بين السواء والمرض/أقصى؟ حدود الوسوسة! ربما3/ للساقطة واللاقطة: قاعد على الواحدة