التشويه الذاتي للجسد: وصف الظاهرة
عرضنا في المقال السابق وصفا عاما لظاهرة تشويه الذات الجسدي بأشكاله المختلفة مقدمين بذلك لما سنركز عليه في هذا المقال وما يليه وهو التشويه الجسدي السطحي/ متوسط الشدة Superficial / Moderate Self-Mutilation، ولما كان الصنف القهري من تشويه الذات هو ما فصلنا شرحه في مقالات سابقة تناولنا فيها اضطراب نتف الشعر، واضطراب قضم الأظافر بالأسنان وغيرها من اضطرابات نطاق الوسواس القهري، فإننا في هذا المقال سنعرض للصنف العَرَضِي Episodic self-mutilation وللصنف التكراري Repetitive self-mutilation، وهي أشكال التشويه الجسدي السطحي/ متوسط الشدة مع التركيز ربما على الصنف الأخير.
فأما مرضى تشويه الذات الجسدي القهري Compulsive self-mutilation : فعادة ما نجدهم يشوهون استجابة لأحداث عقلية تسلطيةٍ (وساوس) تتمثل في الشعور بعدم الاكتمال أو بالضيق غير الواضح والمزعج بشكل لا يفيد معه إلا الرغبة في التشويه طلبا للراحة منه لأنه يختفي بعد مثلا (نتف الشعر أو قضم الظفر أو نقر الجلد) وهم في وصفهم لأنفسهم مقهورون على فعل التشويه حتى وإن تحول إلى عادة فهم ليسوا قادرين على الإقلاع عنه ولا مخيرين بين فعله وعدم فعله، وكثيرون منهم أيضًا كما في بعض مرضى نتف الشعر (أو قضم الظفر أو نقر الجلد) ينتفون وهم في حالة السَّرَحَان الفكري، أي أنهم يشوهون وهم ليسوا بتمام وعيهم، وأكثر الأشكال شيوعا من هذا الصنف هي نتف الشعر وقضم الأظافر ونقر الجلد أو تقشير الجروح وعلى كل فليست كل صنوف التشويه الجسدي القهري علامة مرضية في كل مجتمع فهناك ما يعتبر عاديا في بعض الثقافات وغير عادي في بعضها.
وفي هذا النوع من أنواع تشويه الذات السطحي تكون الأفعال غير مميتة ولا مهددة للحياة وأكثرها شيوعا هو نتف الشعر بأشكاله المتعددة ويليه قضم الأظافر بالأسنان ثم نقر الجلد أو خدشه أو العبث بالجروح أو الندابات بحيث يتعذر التئامها، وكثيرا ما نجد في نفس المريض أعراض الوسواس القهري، كما نجد بعض المرضى ينتفون أو ينقرون أو يقضمون وهم في حالة وعي غير كامل ونجد بعضهم يمارسون نفس السلوك ولكن بطريقة محددة وفيها نوع من التماثل أو التناظر مثلا نتف شعرتين من اليمين وشعرتين من اليسار، أو الشعور بعدم الراحة طالما هناك شعرة مجعدة، أو غير ذلك مما يبدو فعلا قهريا بالمعنى الموجود في اضطراب الوسواس القهري.
وأما مرضى تشويه الذات الجسدي العَرَضِي Episodic self-mutilation فهؤلاء يتعمدون إحداث التشويه وغالبا ما يمارسون سلوك التشويه عرضيا استجابة لمشاعر لا يحتملونها، وعادة تتميز حالاتهم أو شخصياتهم بالاندفاعية والتأرجح الوجداني الحاد بما يتماشى غالبا مع مرضى اضطراب الشخصية Personality Disorder، خاصة اضطراب الشخصية الحدية Borderline Personality Disorder أو أحد اضطرابات الاكتئاب، وهم ببساطة يستخدمون الصدمة الحسية التي ينتجها فعل التشويه الجسدي للهرب من مشاعر غير محتملة، وأكثر أشكاله شيوعا هي قطع الجلد Skin Cutting أو حرقه Skin Burning أو التشويه بإدخال الإبر تحت الجلد Needle sticking أو حتى كسر العظام (الرقيقة) Bone Breaking، وكثيرا ما يمر المرضى من صنف التشويه العرضي إلى صنف التشويه التكراري، وهو أكثر أصناف التشويه الجسدي السطحي شيوعا وما سنركز عليه فيما تبقى.
ورغم أن تشويه الذات الجسدي يحدث في كل أصناف البشر، دون التقيد بمرحلة سنية أو مستوى اجتماعي أو تعليمي وبغض النظر عن الجنس وعن الديانة رغم ذلك فإن من الممكن أن نضع شكلا نماذجيا للحالة الأكثر شيوعا من حالات تشويه الذات الجسدي المتكرر Repetitive self-mutilation، فهي في أغلب الأحوال:
فتاة في مرحلة المراهقة، وغالبا ما نجد في تاريخها الشخصي حوادث ضرار Abuse (تحرش) جنسي Sexual أو جسدي Physical أو عاطفي Emotional، وكثيرا ما نجد اضطرابات نفسية مواكبة في نفس الحالة وأشهرها إساءة استخدام العقاقير نفسانية التأثير أو الاعتماد عليها أو اضطرابات نطاق الوسواس القهري أو اضطرابات الأكل النفسية، كما تتميز الأسرة التي تربت فيها الحالة بالكبت الشديد لكل أشكال التعبير عن الغضب، وغالبا ما نجدها تفتقر إلى مهارات التعبير عن المشاعر، كما تفتقر الحالة غالبا إلى الدعم الاجتماعي الحقيقي.
ويمكننا تعريف تشويه الذات الجسدي بشكل عام بأنه محاولة تغيير الحالة المزاجية من خلال إحداث أذى في الجسد من الشدة بما يكفي لإحداث ضرر في أنسجة الجسد دون وجود نية للانتحار بهذا الفعل، ومعنى هذا أن الشخص لا يحاول الانتحار وإنما هو يحاول تغيير حالته المزاجية بأي ثمن، وهذا يذكرنا بالشكل الشائع للإدمان بين الشباب أو معظم مدمني هذه الأيام الراغبين في تغيير أدمغتهم (كما يقولون) بأي طريقة ممكنة.
وأكثر أشكال تشويه الذات الجسدي التكراري شيوعا هو التقطيع أو القطع Cutting الجلدي أو الحرق مباشرة أو بتقريب شيء ساخن، وقد بينت دراسة نشرت حديثا على الإنترنت (Jacobs, 2006) أن أكثر الأماكن التي يُحْدثُ بها الأذى هي الذراع، المعصم، الكاحل وأسفل الأرجل، بينما تلي البطن ثم السطح الداخلي للفخذ ثم القدمين وأخيرا تحت الإبط، ويحدث الفعل في أغلب الأحوال عندما يكون الشخص بمفرده، وأما معدل الحدوث فمرةً واحدة على الأقل أسبوعيا، وغالبا ما تُستخدم السكاكين أو الأمواس أو قطع الزجاج المكسور أو الأظافر أو الإبر أو الأقلام أو المسامير الصغيرة أو حتى أجزاء المعلبات الفارغة؛
ويلي ذلك شيوعا نقر الجلد Skin Picking أو تنكيء الجروح، ويلي ذلك الخبط بشاكوش أو بشيء آخر ثم تكسير العظام bone-breaking وأيضًا خبط الرأس وتخزيق الجلد أو إدخال إبرة فيه أو في أحد الأوردة، أو غير ذلك إلى آخره، والمشكلة الحقيقية ليست في حدوث أحد تلك الأفعال مرةً أو مرتين وإنما تكمن المشكلة في أن من يلجئون لهذا الفعل غالبا ما يكررونه بل غالبا ما يدمنونه.
علاقة تشويه الذات الجسدي التكراري بالانتحار:
غالبا أيضًا ما ينشأ السؤال عن احتمالات الانتحار في حالات إيذاء النفس المتكرر، والحقيقة أننا نتحدث عن شكلين مختلفين من أشكال السلوك الإنساني فبينما يعني الانتحار رغبة في إنهاء الحياة، يعني إيذاء النفس الجسدي رغبة في التعايش ولو بشكل غير مرضٍ، يعني بينما يعني الأول يأسا من الحياة يعني الآخر شكلا من أشكال التأقلم مع الحياة أو المشاعر المؤلمة، أي تأقلم وإن يكن معوجا. لكن ذلك لا يعني أننا نستطيع نفي خطر الانتحار لأنه موجود سواء لأن اكتئابا شديدا أضيف إلى مشكلة الشخص الأصلية أو لأنه فقد الأمل لسبب أو لآخر، أو لأن ما قصد به إن يمثل إيذاء جسديا فقط أدى إلى فقدان الحياة.
وهناك من يعرفُ إيذاء النفس المتكرر بأنه الفشل المتكرر في مقاومة اندفاعه لإحداث الأذى بالنفس دون رغبة واعية في الانتحار (Favazza, 1998, p. 264)، ومعنى هذا أننا -لأسبابٍ عديدة- سنبقى نخاف على أولئك المرضى من الانتحار، فهذا التعريف لا ينفي إمكانية وجود رغبة لا واعية في الانتحار، وأيضًا لا أحد يستطيع أن ينفي احتمال حدوث اكتئاب، إن لم يكن من الأصل موجودا، والحقيقة أنني قابلت من المرضى من ينطبق عليهن ذلك لكنني عرفت أيضًا مرضى تشويه جسدي متكرر كنّ وظللن محبي حياةٍ لأبعد الحدود، وكان سلوك التشويه أمرا لا تفسير لديهن له إلا أنه يريحهن أو أنهن مدمناتٍ عليه
هل تشويه الذات الجسدي التكراري محاولة لجذب الانتباه؟
ردا على من يتهمون مرتكبي إيذاء النفس الجسدي المتكرر بأنهم يحاولون جذب الانتباه ليس أكثر، يرى البعض أن من يريد جذب الانتباه يمتلك وسائل أخرى كثيرة كأن يلبس لباسا غريبا أو يغير لون شعره إلى آخره، والحقيقة أن هذا التبرير غير كاف من وجهة نظري لأن ما يستتبعه إيذاء النفس الجسدي ليس فقط جذبا للانتباه وإنما جذبا للرعاية والاهتمام وربما لحل المشكلة الحقيقية التي يعيشها مرتكب الفعل ولا يملك لها حلا.
وغالبا ما يسلك من يعتاد أو يدمن إيذاء النفس الجسدي طريقا شعوريا سلوكيا معرفيا كالتالي:
1- في المرة الأولى يجربُ الشخص فعل الإيذاء الجسدي بالمصادفة أو بعدما رأى آخر يفعله أو سمع عنه.
2- تداهم الشخص في وقت تالٍ من حياته مشاعر غضب أو قلق أو فزع شديد، هو ما يسبق تكرار الفعل، حيث تتراكم تلك المشاعر أيا كان نوعها في حين يعجز الشخص عن التعبير عنها بأي شكل من الأشكال المباشرة للتعبير.
3- ويجد الشخص نفسه مدفوعا إلى فعل الإيذاء الجسدي الذي يمثل مخلصا من كل تلك المشاعر المتفاقمة، ويشعر فعلا بأنه تخلص منها.
4- يلي ذلك شعور بالذنب والخجل، وعادة ما يقوم الشخص بإخفاء آثار الإيذاء الجسدي الذي أحدثه والأدوات التي استخدمها في ذلك.
5- وعندما تتكرر حالة مشابهة يجد الشخص نفسه وقد ارتبط الأذى الجسدي عنده بالشعور بالخلاص من المشاعر التي لا تطاق.
6- وبالتدريج يدفع تكرار تلك المشاعر إلى أداء قهري لفعل الإيذاء الجسدي، بشكل يشبه الإدمان.
وبرغم كل تلك الملاحظات فإن الإجابة العلمية على سؤال لماذا يفعل بعض الأشخاص هذه الأفعال بل ويدمنونها تبقى إجابة غير مؤكدة وليست أكثر من مجرد نتائج استبطان الأشخاص الذين يقومون بإيذاء النفس الجسدي، وبعض نظريات علماء النفس استنادا إلى تلك النتائج، فأما الأسباب التي يفسر بها هؤلاء المرضى أفعالهم فهي أحد أو بعض ما يأتي:
1- إيذاء النفس يعطي ارتياحا مؤقتا من المشاعر العنيفة أو الهائجة وكذلك الانضغاط والقلق.
2- إيذاء النفس يعطي الشخص الشعور بأنه موجود حي حقيقة وهناك من يصفه بأنه يشعره بأنه شيء! أو قادر على الشعور ما يزال!
3- إيذاء النفس الجسدي يجعل البعض قادرا على إخراج آلامه النفسية فيشعر بالألم في الخارج لا في الداخل!
4- يرى البعض أن إيذاء النفس الجسدي يمثل لهم الألم الوحيد في حياتهم الذي يستطيعون التحكم فيه، على عكس آلام الضرار الجسدي أو الجنسي أو العاطفي التي لم يتحكموا فيها أبدا.
5- يصفه البعض بأنه طريقة للتخلص من خدر أو تنمل المشاعر Emotional Numbness المزعج الذي يعذبهم.
6- يصف البعض إيذاء النفس الجسدي بأنه ملطف للنفس Self-Soothing لمن لا يملكون وسيلة أخرى.
7- ويراه البعض عقابا للنفس على مشاعرها القوية (والتي عادة ما كانوا محرومين من التعبير عنها في طفولتهم) وبعضهم يراها عقابا مناسبا لمشاعر بعدم الجدارة والسوء الذاتي بشكل أو بآخر، وهذه كلها عواقب الضرار في الطفولة Child Abuse.
8- ويفعل البعض ذلك الفعل من أجل أن يظهروا لأنفسهم قدرتهم على رعايتها(وهو ما لم يتعلموه أبدًا من قبل)
9- ويكون فعل الإيذاء الجسدي أحيانا سلوكا لجذب انتباه الآخرين أو للتأثير فيهم لإثنائهم مثلا عن قرار معين لا يرضي مرتكب الفعل.
وأما المحاولات العلمية التي تحاول الإجابة على سؤال لماذا يؤذي البعض أجسادهم عامدين Deliberate Self Harm وبصورة متكررة، كيف يمكن لإيذاء الجسد أن يعطي الإنسان راحة من شعور ما لا يطيقه الإنسان؟ هذه المحاولات لا تعدو كونها افتراضات علمية تنتظر الإثبات الموضوعي القاطع، وربما أحدثكم عنها في مقالٍ تال.
ويتبع>>>>>>>: التشويه الذاتي للجسد مشاركة
المراجع:
- Jacobs, B. (2006)Adolescents and self cutting (self harm): Information for parents. Available from URL: http://www.cahe.nmsu
- Favazza, A. (1998): The coming of age of self-mutilation. Journal of Nervous and Mental Disease, 186(5), 259-268.
واقرأ أيضًا:
إيذاء النفس المتكرر: وسواس أم إدمان
التعليق: بصراحة أنا أسوي كذه بس أحاول أتوقف لكن ما أقدر أتوقف ما أدري ليه؟ حاولت أكثر من مرة