منذ أوائل التسعينات في القرن العشرين بدأ سيل من المقالاتِ يتدفق في أدبيات الطب النفسي وأدبيات السوق الاقتصادية لوصف الأبحاث النفسية والتجارية المهتمة بسلوكِ الإنسان المستهلكِ Consumer Behavior الآخذ في الانفلات، بكل ما يحدثه ذلك من مشكلات اجتماعية واقتصادية، وهذا الاهتمام يمثل تغيرا عن عقودٍ سابقة دامت طويلا اهتمت فيها الدراسات التجارية والإعلانية وأبحاث العاملين في علم النفس التجاري فقط ببحث ما يشجع على الشراء وما يرسخ اسم المنتج وأهمية الحصول عليه في عقول المستهلكين إلى آخر ذلك مما هو معروف ومستمر ما يزال، وأما منذ أوائل التسعينات فقد أصبح هناك أيضًا اهتمام بمشكلة عدم التحكم في سلوك الشراء وهو مفهوم جديد نوعًا ما في الطب النفسي الحديث، حيث كان كل من بلولر Bleuler وكريبلين Kraepelin -وكلاهما من كبار الرجال في طب النفس الحديث- قد أشار إلى حالة مرضية سموها أُنيومانيا (Oniomania Black, 2007) وأُنيو باليونانية القديمة تعني البيع أو الطلَبَ (الشراء) أو المزاد واختصارا هوس الشراء Buying Mania، إلا أن المشكلة ظلت منسية لعقود طويلة حتى أن عاد الاهتمام بها في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي.
وعدم التحكم في سلوك الشراء يمكن تصوره ممتدا كمتصل سلوكي من الشراء الانفلاتي أو الاندفاعي الخالص Impulsive Buying في ناحية إلى الشراء القهري الخالص Compulsive Buying في ناحية، ويتأرجح بينهما سلوك مرضي أصبح يعرف في بعض أدبيات الطب النفسي وأدبيات السوق الاقتصادية بإدمان الشراء Buying Addiction، فيمكن للمريض أن يكون أقرب إلى الاندفاعية أو للقهرية في شرائه لكن هناك قهرية واندفاعية في كل نوبة شراء مرضية، ويمكنُ تعريف إدمان الشراء بأنه: "الشراء المنفلت المتكرر والمُزمن والذي يُصبحُ عادةً ورَدّ فعل أساسي للأحداثِ و/أو المشاعرِ السلبيةِ، ويشمل نمط إنفاق هوسيِ أو لا تمكن السيطرة عليهِ لشراء أشياء لا يحتاجها الفرد أصلا أو لا يحتاجها حاليا وفي أغلب الأحيان يَخْزنها دون أنْ تستعمل، ويشعر مدمن الشراء بنشوة غامرةٍ أثناء عملية الشراء وأحيانا تسبقها أو تصاحبها إثارة كبيرة.... إلا أنها غالبا ما يعقبها الندم بسبب التورط المالي الناتج عن ذلك، وكثيرون من هؤلاء يتسوقون منفردين ويضطرون لإخفاء ما يشترون عن المقربين منهم".
وليست أعداد مدني الشراء بالتعريف السابق في مجتمعاتنا العربية معروفة ولا هي معروفة على وجه الدقة حتى في أيٍّ من بلدان العالم بسبب عوامل عديدة أهمها سرية كثيرين من المرضى حول مشكلتهم، وكذلك جهل كثيرين بأن لها علاقة بالطب النفسي، ورغم ذلك فإن أوائل التقديرات لمعدل انتشار اضطراب الشراء القهري compulsive buying disorder في المجتمع الأمريكي كانت من 2% إلى 8% (Faber & O’Guinn, 1989) وصممت أدوات قياس نفسي لأغراض الدراسة مثل مقياس الشراء القهري Faber & O’Guinn, 1992) Compulsive Buying Scale)، وأما ما وصلت إليه التقديرات حديثا فبلغ 9,3% (Grant, et al., 2005) وهو ما قد يعني أن معدلات الحدوث عالية ومتزايدة ومعدلات اللجوء للعلاج أو نجاح العلاج منخفضة وإن كانت الدراسة الأخيرة أجريت على نزلاء مستشفى نفسي! ولم أستطع الحصول على دراسةٍ عربية بهذا الشأن إلا أن كثيرا يوجد عن الموضوع على صفحات الإنترنت العربية ومن مختلف الأقطار عند البحث باستخدام مصطلحات مثل: "إدمان الشراء" أو"الشراء القهري" أو"إدمان التسوق" أو"هوس الشراء" أو"هوس التسوق" أو"حمى الشراء" أو"حمى التسوق". وهذا يشير بالتأكيد إلى استفحال الظاهرة في المجتمعات العربية وتزايدها في الآونة الأخيرة.
هناك مشكلة إذن تعاني منها نفوس أعداد كبيرة من البشر في تعاملها مع الرغبة في الشراء، ولذلك أسباب كثيرة لا نستطيع أبدًا إغفال دور المجتمع المحدث فيه هذا الأمر، ذلك المجتمع الذي تحول إلى سوق كبيرة للاستهلاك، ولكي أوضح الأمر أكثر فإن ما يحدث عندما يتعرض الإنسان لإغراء بضاعة ما هو الشعور بالرغبة في الحصول على تلك البضاعة، والتعامل مع هذا الإغراء يحتاج إلى ضبط النفس والقدرة على الموازنة بين ما أستفيده وما أخسره، وتتداخل عوامل كثيرة في تحديد السلوك الذي سيلجأ الإنسان إليه استجابة لذلك الإغراء، من بينها طريقة العرض، وتوفر النقود، أو بطاقات الائتمان، وخبرة الإنسان المسبقة مع الخواص الحسية للمنتج الذي يشتريه (كاللون والموديل والسعر مثلا فيما يلبس) أو كالرائحة والملمس والمذاق(فيما يؤكل) أو الميزات الجديدة في جهاز إليكتروني مثلا إلخ، ومن المهم طبعًا أن نعرف أن ما يتعرض له إنسان العصر الحديث من إغراءات يفوق طاقاته بكثير، وأنا حتى الآن أتكلم عن إنسان طبيعي في ظروف غير طبيعية كالتي نعيشها جميعًا في مجتمع السوبر ماركت الكبير الذي أصبحنا نعيش فيه.
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد مع الأسف الشديد، فما يحدث لكثير من الناس ليس فقط أنهم يسرفون في الشراء، وليس أنهم يدمنون الشراء لميزة فيما يشترونه، وإنما تتحول العملية بالتدريج إلى إدمان لعملية الشراء نفسها بغض النظر عن أهمية أو قيمة ما يشترون! ويحدث ذلك لأن نشاط الشراء يتحول بالتدريج إلى نشاط يتعامل الإنسان به مع أي مشاعر سيئة يتعرض لها، فهو يكتشف بالصدفة أن التجول في السوبر ماركت أو المول وشراء كل شكل جديد من أشكال المنتجات إنما يرفه عنه ويقلل من توتره أو قلقه أو خوفه أو أي من المشاعر السيئة، بل ويحوله من ذلك الشعور غير الطيب إلى شعور متعاظم باللذة والانتعاش يتصاحب معه ويتلوه الاستمتاع بالمنتج الذي يراعى فيه غالبا أن يشجع على الشراء أكثر، ويضاف إلى ذلك طبعًا ما يقدمه تجريب كل جديد من وسيلة للتفاخر ومادة للحديث مع أصدقائه ومعارفه إلى آخر ما هو معروف من سلوكيات.
ونستطيع القول بأن النزعة الاستهلاكية لازمت الحضارة الغربية، فرغم أننا نجد مثلا في آثار مصر الفرعونية ما يشير إلى ترف نخبتها من الفراعنة والكهنة حيث كانت بيوتهم تمتلئُ بالذهب والعطور ومقتنيات المرمر والخشب المجلوب من وراء البحار، وهذا كله يندرج ضمن السلع الترفيهية أو السلع الاستهلاكية في المفهوم الحديث، إلا أنه لم تكن هناك إمكانات استهلاكية واسعة في ذلك الوقت، ونفس الكلام نستطيع قوله عن الحضارة الإسلامية والتي غاب عنها جوهر القبول باستغلال الآخر حتى لو كان الآخر هو الزبون، كذلك فضلا عن غياب إمكانات استهلاكية واسعة غابت أيضًا الإمكانات التصنيعية الواسعة، وهو ما شهده العصر الحديث مع منجزات الحضارة الغربية المتتالية في مجال التكنولوجيا والإنتاج الصناعي الضخم.
وقد تطورت النزعة الاستهلاكية الحديثة مع تطور الحياة ووسائل الاتصال، وكذلك تطور النزعة الطبيعية للإنسان نحو الاستهلاك حتى أن البعض يرى أن هذه النزعة تغير في الإنسان حتى مستوى الجينات بمعنى أن الأجيال الأصغر ستكون عرضة أكثر من الأجيال الأكبر ولعل هذا ما أشرنا إليه عند حديثنا عن كثرة المعروض وأثره على الإنسان، وكذلك تطورت أماكن ووسائل العرض والإعلان عن السلع فتحولنا من المحال الصغيرة المتخصصة إلى السوبر ماركت إلى المول العام الشامل، الذي يحتوي كل شيء لا فقط لتشتري وإنما لتأكل ولتشرب ولتجلس مع الأصدقاء أو تدخل الإنترنت أو تقضي حاجتك أو لتترك أطفالك يلعبون في أمان وحتى في بعض المولات هناك أماكن للصلاة، بصورة أوضح أصبح مكان البيع يستبقيك ويستهويك ويقدم لك كل ما تشاء.
كذلك نجد أن كلا من قنوات التلفزيون الأرضية والفضائيات قد ساعدت كثيراً في دفع الناس للتسوق والشراء، فتطور التسوق عبر التليفزيون ثم ظهر التسوق عبر الإنترنت ثم تعددت مواقع التسوق الإلكتروني على شبكة الإنترنت وتسابقت فيها بينها لتفي بطلبات الزوار طبقا لاحتياجاتهم المتنوعة، وهكذا فمنجزات ثقافة العولمة تتوالى مشجعة على طقس الشراء بشتى السبل واستجابة الإنسان حتى الآن تبدو سمعا وطاعة دون تقديرٍ للعواقب في كثير من الأحيان، وفي مجتمعاتنا دون قليل انتباه مع الأسف إلى قيم أصيلة في ثقافتنا نجد أن حمى الشراء تتزايد انتشارا والمولات تتبارى في جذب العباد.
وعلى وعدٍ بتكملة الكتابة عن المشكلة النفسية الاجتماعية المتمثلة في إدمان التسوق أو الشراء وما يمكن أن يؤدي إليه من مرض الشراء القهري، أختم هذا التقديم بحديث فاجأني أنه في صحيح مسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنه قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ «أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يعني ذلك أن من تخرج أو يخرج للسوق إنما يكون في أبغض الأماكن لله وهو ما يعني أنك لا تأتيه إلا مضطرا لحاجة هل أحد من الناس يعي ذلك؟ أنا في انتظار آرائكم يا مجانين.
المراجع:
Black D. (2007):Compulsive Buying Disorder: A Review of the Evidence. CNS Spectr. 2007;12(2):124-132
Faber RJ, O’Guinn TC.(1989): Classifying compulsive consumers: advances in the development of a diagnostic tool. Adv Consum Res.16:147-157.
Faber RJ, O’Guinn TC. (1992): A clinical screener for compulsive buying. J Consumer Res. 1992;459-469.
Grant JE, Levine L, Kim D, Potenza MN. (2005): Impulse control disorders in adult psychiatric inpatients. Am J Psychiatry. 2005;162:2184-2188.
يتبع ..............: إدمان الشراء مرض أم عرض أم رد فعل؟؟1
وأيضًا: إدمان الشراء أو التسوق أم الشراء القهري؟ مشاركتان
اقرأ أيضاً:
مجتمع يربينا على الإدمان ولا مجتمع الفياجرا؟ / الفهم الحالي للإدمان رؤية متحفظة