وَأذكرُ هنا ما سمعتُـهُ من أستاذي الدكتور أحمد عكاشه وهو يحاضِرُ طلابَ السنة النهائية في طب عين شمس حيثُ قال أنَّ الناس يعتقدون أنَّ حدوثَ الاكتئاب دليل على ضعف الإيمان بينما الحقيقةُ هيَ أنَّ الاكتئاب يسلبُ الإيمانَ؛ بمعنى أنَّ المؤمنَ المصلي إذا أصابَـتُـهُ نوبَـةُ اكتئابٍ فَـإنَّـهُ سيترُكُ الصلاة!! وكما يقول طارق الحبيب في بحثه: هذا ما يلاحظه الأطباء النفسيون خلالَ عَمَـلِهم منْ ترْكِ المريض للصلاةِ وإحساسهِ بفتور علاقتِهِ مع الله عز وجل! ومن عودتِـهِ للصلاة بعد تحسن حالته ويبـدو -والله أعلمُ- أن هذا الاعتقاد الخاطِئَ لدى الناس إنما جاء من أمرين:
الأول: عـدم إدراك الناس لمعنى المرض النفسي.
الثاني: نظرة الناس للأمراض النفسية على أنها مركب نقص.
ولبحث هـذا علينا أوَّلاً أنْ نفـرّق بين الأعراض النفسية والأمراض النفسية, فالأعراض النفسية هي تلك التفاعلات النفسية التي تطرأ على الفرد نتيجة تفاعله مع ظروف الحياة اليومية، وتستمر لفترات قصيرة، وقد لا يلاحظها الآخرون، ولا تؤثر عادة على كفاءة الفرد وإنتاجيته في الحياة، كما لا تؤثر على عقله وقدرته في الحكم على الأمور. وتعد هذه العوارض النفسية جزءاً من طبيعة الإنسان التي خلقه الله بها، فيبدو عليه الحزن عند حدوث أمر محزن، ويدخل في نفسه السرور والبهجة عند حدوث أمر سار. وهذا أمر معلوم لا يحتاج لإثباته دليل، ويحدث لكل أحد من الناس.
أمـا الأمراض النفسية فأمرها مختلف، وهي لا تقتصر على ما يسميه الناس بالجنون، بل إن معنى المرض النفسي معنى واسع يمتد في أبسط أشكاله من اضطراب التوافق البسيط إلى أشد أشكاله تقريباً متمثلاً في فصام الشخصية شديد الاضطراب. كما أنه ليس شرطاً أنْ تُستخدم العقاقير في علاج ما يسميه الأطباء النفسيون بالأمراض النفسية، بل إن منها ما لا يحتاج إلى علاج دوائي فهي تزول تلقائياً وربما لا يحتاج معها المريض سوى طمأنته كما يحدث عادة في اضطرابات التوافق البسيطة.
ويعتمد الطبيب في تشخيص الاضطراب أو المرض النفسي -بشكل كبير- على ثلاثة أمور:نوعية الأعراض، شـدة الأعـراض ومدة بقاء الأعراض.
ولتشخيص المرض النفسي فإنه يجب أنْ يحدث عند المريض أعراض غريبة، أو ربما أعراض غير مألوفة كالضيق والحزن مثلاً، وتستمر لمدة ليست بالطارئة أو القصيرة وبأعراض واضحة تكون كفيلة بتشخيص المرض النفسي في تعريف الأطباء. ولذلك فإن من يحزن لفقد قريب أو عزيز ويتأثر بذلك فإننا لا نصفه بأنه مريض نفسي إلا إذا استمر حزنه لمدة طويلة ربما تصل لعدة أشهر أو بضع سنوات وبدرجة جلية تؤثر على إنتاجية ذلك الفرد في أغلب مجالات الحياة، أو أنْ تظهر عليه أعراض بعض الأمراض النفسية الأخرى كالاكتئاب مثلاً.
ولتبسيط الموضوع فإننا نقسم الأمراض النفسية إجمالاً إلى نوعين:
الأول: ما يمكن تسميتُهُ بالعُصَاب NEUROSIS ويشملُ تلك الأمراض التي لا تؤثر على عقل الفرد ولا يفقد معها استبصاره أو قدرته في الحكم على الأمور لكنها تُنقص نشاطه بعض الشيء، كالحزن الشديد المستمر لفترات طويلة وعـدم قدرة البعض على التوافق مع بعض مستجدات الحياة (اضطراب التكيف أو التوافق) وغيرها كثير. وقد تصيب هذه الأمراض أيضاً الصالحين وغيرهم من الناس إذا توفر ما يدعو لحدوثها من الأحداث الحياتية لهمْ.
الثاني: ما يمكنُ تسْمِـيَـتُـهُ بالذُّهَـانِ PSYCHOSIS ويشملُ تلك الأمراض التي تؤثر على عقل الفرد فيفقد استبصاره بما حوله، وتضعف كفاءته وإنتاجيته وقدرته في الحكم على الأمور، ويحدث فيها أعراض غريبة لم تعهد عن ذلك الفرد ولم تعرف عنه كالاعتقادات والأفكار الغريبة الخاطئة التي لا يقبل معها نقاش، أو أنْ تتأثر أحد حواسه أو بعضها بما هو غير مألوف له كسماعه لبعض الأصوات التي لا وجود لها حقيقة، أو وصفه لنفسه بأنه يرى بعض الأجسام دون أنْ يكون لها أي وجود على أرض الواقع ويمكن أنْ يصيب هذا النوع من الأمراض أي أحد من الناس سواءً كانوا من الصالحين أو الطالحين إذا توفر ما يدعو لحدوثها من أقدار الله عز وجلت مشيئتهُ.
وكما يشير الزميل طارق الحبيب لعلي أعجب من البعض الذين يربطون درجة التقوى والإيمان بامتناع الإصابة بالأمراض النفسية دون العضوية!! فلقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه" صدق رسول الله . وهذا البيان النبوي شامل لجميع الهموم والغموم صغيرها وكبيرها، وأياً كان نوعها. وفي الأصل أن الأمراض النفسية مثل غيرها من الأمراض ولا شك، وهي نوع من الهم والابتلاء، ولذلك فإنها قد تصيب المسلم مهما بلغ صلاحه. كما إنه لم يرد في الكتاب الكريم ولا في السنة المطهرة ما ينفي إمكانية إصابة المسلم التقي بالأمراض النفسية حسب تعريفها الطبي، ومن نفي إمكانية ذلك فعليه الدليل. ولعل فيما ذكره أبو حامد الغزالي -رحمه الله- في كتابه "المنقذ من الضلال" من وصف لنوبة الاكتئاب الحادة التي أصابته، وهو المعروف بعلمه وتقواه وورعه ما يفند ذلك الكلام. وبالإضافة إلى ذلك فإن انتقال أغلب الأمراض النفسية عبر الوراثة يعكس بوضوح الطبيعة المرضية لتلك الأمراض (طارق الحبيب، 2001).
وبالرغم من ذلك كله فإن المسلم يتميز عن الكافر وكذلك التقي عن الفاجر في انه يحتسب ما يصيبه عند الله ويستعين بحول الله وقوته على مصائب الدنيا ولا يفقد الأمر مثلما يفقد غيره مما يخفف من أثر المصائب عليه بعض الشيء. ولذلك فإننا نلاحظ حدوث حالات الانتحار في المجتمعات الغربية تفوق بكثير ما يحدث في المجتمعات الإسلامية رغم عدم وجود إحصائيات دقيقة لذلك في المجتمعات الإسلامية، لكن من عمل من الأطباء النفسيين في كلا المجتمعين يدرك بوضوح ذلك الفرق.
ويتبادرُ إلى الذهن هنا تساؤلٌ عن رافد متصل بموضوع التدين والصحة النفسية والجسدية، ولكن في صورة ماذا يعطيه التدين لصحة صاحبه؟ فمن المشهور علميا لدى أهل الطب النفسي (خاصةً)، ودينيا لدى الكتاب الإسلاميين المعاصرين، وغيرهم، أن التدينَ يقي من المرض النفسي، ويحمي صاحبه في اكتئابه من الانتحار، وذلك رغم تأكيدنا على خطأ المقولة الشائعة: أن المرض النفسي لا يصيب المؤمن القوي، برغم كل ذلك تبقى حقيقة علمية بسيطةٌ لكنها غير قابلة لأن ينكرها عاقل وهي أن الإيمان القوي الصحيح يحمي صاحبه ويقيه أولاً من الوقوع السهل في أعراضٍ كالقلق والاكتئاب التفاعلي والتي يمكنُ جدا أن يكونَ الوقوع السهل فيها بداية للغوص في المرض أو الاضطراب النفسي الشديد كالقلق المتعمم والاكتئاب الجسيم، وهي اضطراباتٌ نفسية بعيدةُ الأثر على حياة المريض، ولكن يبقى الإيمان القوي الصحيح أيضًا عاملاً مهما في التخفيف من وطأتها إن حدثت، كما يبقى عاملاً داعما لمحاولات العلاج على اختلاف أنواعها.
ولا يغيب عن ذهني كلام واحد من مرضاي جاء يطلب العلاج من اكتئابه الجسيم، وحكي لي كثيرا عن مكافحته الشخصية الطويلة للاكتئاب وأعراضه على مدى سنة كاملة بذكر الله ومحاولة التزود بالطاعات وتقوية الإيمانيات في مواجهة اليأس والكمد الناتجين عن اكتئابه، ورغم علمي وما أثبته هذا المريض نفسه من أن المكافحة الشخصية للاكتئاب.. كثيرًا ما تخدع!، وأنه ما جاءني إلا عندما فترت علاقته بربه وخاصمته حلاوة إيمانه، وبدأت أفكار الانتحار ووساوسه تقفز إلى ذهنه ولم تعد نفسه تحس للذكر طعما، ولم يكن أمامي إلا اللجوء للعلاج بالصدمات الكهربية، وتحسن جدا بفضل الله، وزال اكتئابه، رغم كل ذلك لا أستطيع أن أنسى ما حكاه لي عن تجربته في مكافحة الاكتئاب بذكر الله، وهو ما يجعلني مقتنعا بأهمية تقوية الإيمانيات كوقاية، ولكنني في نفس الوقت أؤكد أن حدوث المرض النفسي لا يعني ضعف الإيمان!
وما نسيتُ لا أنسى ما حكاه لي واحد من مرضايَ كان قد أهمل في استخدام عقَّـار اكتئابه في مرحلة الوقاية وعندما بدأ يحس بعودة الأعراض أسرع باستئناف دوائه وأخذ يدعو الله عز وجل خائفا من حدوث انتكاسة كاملة في حالته فسجد لله وأخذ يردد قوله تعالى في سورة الأنبياء (الآية 83) "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (صدق الله العظيم) فرفع الله عز وجلَّ عنه الكثير من أعراضه لكنه أيضًـا أخذ بالأسباب وواصل دواءَهُ بعد ذلك وكذلك يكونُ المسلمُ الحق.
المراجع:
1- د. طارق الحبيب (2001): مفاهيم خاطئة عن الطب النفسي ... عن موقع bafree.net بتاريخ 24 كانون الأول (ديسمبر) 2001
واقرأ أيضا:
حدود العلاقة بين المريض والطبيب النفساني مشاركة / حدود العلاقة بين المريض والطبيب النفسي مشاركة3 / العلاج النفسي مجرد كلام ×× / هل يصح أن يتزوج الطبيب النفسي من مريضته؟؟
التعليق: (قرأتُ المقال قديما، وكنت قد قرأت كتاب طارق الحبيب "مفاهيم خاطئة في الطب النفسي" وضرب مثال الغزالي، فتصوروا لما ضربتُ مثال الغزالي في معرض نقاش عن الاكتئاب ماذا أجاب أحدهم؟! قال أنّ الاكتئاب الذي حصل له كان بسبب غوصِه في كتب الفلسفة وفترةِ تفلسفه فاسودُّ قلبُه!
يعني مُصادرة على المطلوب لا تنتهي، الإيمان ما جعلناه إيمانا، والسبب ما جعلناه سببا حتى مع وجود تناقضات في النتائج والاحصائيات تتعارض مع هذا المنطق (وهنا تظهر أهمية تقويم طُرق التفكير والاستدلال وتدريس المغالطات المنطقية من باب معرفة الشرّ لتوقّيه ! فالمشكل منطقي بالدرجة الأولى، رغم معرفة معطيات جديدة في الموضوع يتمّ تجاهلها في تحيّز معرفي عجيب) ..... ويتبع