يبدو أن لبنان هو المحطة الثالثة للفوضى الخلاقة الأمريكية بعد أفغانستان والعراق، لكن التخريب هذه المرة ليس بيد الغزاة، وإنما بأيدي أبنائه. إنها الفتنة تطل من جديد في هذا البلد الذي لا يبدو أنه تعافى من حروبه الطائفية ويقف على شفير الحرب الملعونة مرة أخرى.
ما حدث في لبنان يشكل خسارة لكل الأطراف اللبنانية، حكومة ومعارضة، والرابح الحقيقي أمريكا وإسرائيل. لن يستفيد من اجتياح بيروت حزب الله الذي استخدم السلاح المقاوم لأول مرة لفرض سيطرته على العاصمة، كما لا يكسر هذا الاجتياح شوكة الموالاة الذين يمثلون طوائف لا يمكن إخراجها من المشهد.
قد يشعر قادة حزب الله الآن أنهم لقنوا خصومهم درسا وأرهبوهم، لكن ما سيجنيه الحزب من خسارة بعد هذا الاجتياح لبيروت يفوق كثيرا ما يراه من مكاسب مؤقتة، سيترتب عليها اهتزاز صورته ورصيده في لبنان وخارجه.
رغم رفض التوجهات السياسية لسعد الحريري وتياره لتعاونهم مع أمريكا والغرب، فإن حقوق السنة في لبنان لا يمكن تجاوزها تحت أي مبرر. من حق حزب الله أن يدافع عن سلاح المقاومة لكن عليه أن يراعي هيبة السنة وأن لا يتجاوز الحدود، ولا يغرينه أزمة تيار المستقبل بأن يتمادى في المبالغة في رد الفعل، ويحول سلاح المقاومة إلى قهر خصمه السياسي والسعي لإقصائه بقوة السلاح، لأن هذا التصرف يوفر البيئة الحاضنة للصدام الطائفي الذي يعد أمل العدو لاستنزاف المقاومة وحرق لبنان.
العدو سيعمل على تزكية الصدام الطائفي، وقد يقوم بعمليات واغتيالات لإشعال الفتنة المذهبية، التي تحقق للعدو ما عجز عن انجازه بالحرب. وليس من الحكمة إعطاء المبرر وتوفير المناخ.
العدو سيقوم بتكرار ما يحدث في العراق رغم الفارق بين العراق ولبنان، والفارق بين شيعة العراق العملاء وشيعة لبنان المقاومين. لكن في كلا البلدين فإن أسباب الحريق موجودة، وأصبح لدى العدو خبرة واسعة في إشعال النار.
الوضع في لبنان معقد جدا ومتشابك، لم ولن تستطيع أي جهة أن تضع حلولا مقبولة ترضي كل الأطراف، هذا هو لبنان الذي يتكون من طوائف وتيارات سياسية متداخلة يصعب تفكيكها لإعادة تجميعها على أسس قابلة للتعايش بدون خلافات، لكن تعايش اللبنانيون رغم هذه الخلافات واعتادوا عليها.
الحريري
لا أبريء سعد الحريري من المسئولية، فقد أساء إلى السنة بالعمل مع الأمريكيين والغرب، والجري وراء وليد جنبلاط الذي يعمل وفق أجندة صهيونية. وكان عليه مراعاة توازن القوة على الأرض فلا يتورط في صدام مباشر مع حزب الله واتخاذ إجراءات ضد الحزب بينما حكومته عاجزة عن مراوحة مكانها. ولا أدري كيف يعول الحريري على الجيش الذي أغلبيته من خصومه وهو أعجز عن الانتصار لطائفة على حساب أخرى وإن كان ولابد فهو أقرب إلي الانتصار للشيعة والمسيحيين من الانتصار للسنة، وهذا ما حدث في الاشتباكات الأخيرة، إذ أن الجيش ترك ميليشيا حزب الله تفعل ما تريد تحت سمعه وبصره، بل إن الجيش هو الذي رضخ لأوامر حزب الله بإغلاق قناة وجريدة المستقبل وإذاعة الشرق التابعة للحريري في مشهد يثير الاندهاش.
لقد ورث سعد الحريري قيادة الكتلة الأساسية للسنة في لبنان بعد اغتيال والده، وشتان بين الابن والأب، فالابن أخطأ التحرك من البداية بإعلان العداء لسوريا التي في أيديها معظم أوراق اللعب في لبنان، وبالتبعية دخل في صدام مع حلفاء سوريا من شيعة ومسيحيين، وبدلا من تصحيح اتجاهه، وتحت الرغبة في الانتقام لمقتل والده، وهربا إلى الأمام ارتمى في أحضان أمريكا والغرب فسقط في هوة سحيقة جعلته يفقد الكثير.
وإذا كنا نتهم حزب الله بالتجاوز على السنة وفرض هيمنته عليهم بقوة السلاح فإن الحريري عليه أن يتحمل وزر ما تم، فهو الذي أساء بإظهار السنة وكأنهم في خندق الحلف الأمريكي الصهيوني. ما فعله الحريري أضر بالسنة وأفقدهم مكانتهم داخل لبنان وخارجه، وإن لم يتدارك قادة السنة هذه الانتكاسة فإنهم سيخسرون المزيد والمزيد، وسيتفكك الكيان السني ويصبح السنة على الهامش.
الجامعة العربية
لم يعد للجامعة العربية تأثير فيما يحدث لسبب بسيط وهو أن الدول الكبرى في الجامعة هي التي ورطت الحريري، خاصة مصر والسعودية إذ قامت الدولتان بتبني الأجندة الأمريكية ومساندة الحريري في توجهه الساقط، وانخرطت الدولتان رسميا في ما يسمى "الدول المعتدلة" الموالية لأمريكا، وتم الزج بالسعودية على وجه الخصوص في مواجهة ضد سوريا وإيران، وكانت النهاية أن تحملت المملكة الخسارة مع الحريري واضطرت في النهاية إلى ترحيل رعاياها من بيروت، في مشهد يعكس فشل الدبلوماسية السعودية التي كانت صاحبة التأثير الكبير في لبنان.
لم يعد في العالم الإسلامي هيئة لها هيبة تنهي المأساة في لبنان، لكن هذا لا يمنع المخلصين من أبناء الأمة أن يسعوا لتقديم النصح لكل الأطراف بوقف ما يحدث من قتال يصب في النهاية لصالح العدو المتربص بالجميع، والذي سيعمل على مزيد من تعميق الصراع إلي أن يصل إلى اللا حل. العدو يشعل الفتنة لتحقيق الأهداف التي عجز عن تحقيقها بالحرب.
ما يحدث في لبنان يقتضي أن يشارك أصحاب الرأي في الأمة في بلورة المقترحات التي تساعد في إيجاد حل لما يحدث في لبنان لوقف هذه المأساة.
من المقترحات التي أرى أنها قد تفيد في هذه اللحظة، إن كان ثمة من يسمع ويستجيب ما يلي:
- على حزب الله أن يسحب قواته من بيروت ويعيد الأوضاع إلى ما قبل الاشتباكات وأن يدفع الدية لمن قتلهم، وأن يدفع التعويضات للمصابين والخسائر التي تسبب بها، وأن لا يتعامل بعصبية في تعاطيه مع الوضع الداخلي وأن يصبر ويتحمل. عليهم أن يعلموا أن المعارك السياسية لا تنتهي بالضربة القاضية، وإذا كانت نشوة الانتصار المتوهم هي التي تحكم اللحظة فإنها لن تطول كثيرا إن لم ينسحبوا، وستنقلب بالخسران إن شاعت الفتنة واتسعت رقعة الاشتباكات.
- على الحريري وممثلي السنة أن يتنصلوا من علاقاتهم الآثمة مع أمريكا والغرب وأن لا يتخذوا قرارات تصب لمصلحة العدو. فإن التفكير الاستراتيجي الصحيح أن يكسبوا الداخل وليس السير في الطريق الذي يسير فيه جعجع وجنبلاط. وعليهم أن يدفعوا الدية لمن قتلوا من الطرف الآخر في ردود الفعل التي تمت.
- على الدول العربية التي تتدخل في الأزمة اللبنانية لتنفيذ الأجندة الأمريكية الصهيونية أن تتوقف لأنها تسيء إلى سنة لبنان وتسيء إلى نفسها، وقد ثبت أن دورهم هدام وليس دورا بناءاً.
- على الجميع أن يعي أن الضغوط ستتواصل لتفجير الوضع الداخلي إلى انتهاء فترة حكم الرئيس بوش، وهذه الضغوط هي التي ستعرقل أي حل في لبنان، لذا فان أضعف الإيمان هو تجميد المواقف وعدم الانجرار وراء أي استفزاز لحين انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد الذي لن يكون أمامه إلا سحب القوات الأمريكية من المنطقة وتغيير السياسة الأمريكية القائمة على الحرب في عهد المحافظين الجدد.
لا يسعنا إلا أن ندعو الله أن يقي لبنان شر الفتنة، وأن يوقف هذا الاقتتال الحرام، وأملنا أن ينظر اللبنانيون إلى مآلات الأمور وأن لا يعمي بصائرهم التنافس الحزبي والطائفي عن اتخاذ ما يحقن دماءهم وما يحميهم من السقوط في الفوضى الملعونة بأيديهم وبأيدي أعدائهم.