يحتاج المرء إلي بعض الوقت لكي يفيق من وقع المفاجأة في القرارات والخطوات التي تلاحقت في مصر خلال الأسبوع الماضي، وربما احتاج إلي وقت أطول لكي يستوعب ما جرى، ويتخلص مما استصحبه من حيرة وبلبلة، وإذ تجاوزت مرحلة المفاجأة، بعدما تيقنت من أننا بصدد علم لا حلم فإنني أعترف بعجزي عن استيعاب ما جرى، بل إنني كلما قلبت الأمر ازدادت عندي الحيرة والبلبلة.
(1) خذ مثلا ذلك الانطباع الذي أشاعته وسائل الأعلام، حين أوحت بأن ثمة أجواء ايجابية جديدة في العلاقات المصريةـالإسرائيلية، أدت إلى انقشاع سحابات الكدر بغيومها الداكنة.
هذه الأجواء عناوين الصفحات الأولى من الصحف المصرية، سرعان ما تتبدد حين يتحول المرء إلى أخبار الصفحات الداخلية، التي تنقل القارئ إلي أجواء مغايرة وتسرب لديه انطباعا مناقضا تماما، ففي الأسبوع الماضي تحدثت الأنباء عن الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام، وإطلاق سراح الطلاب المصريين الستة، وانضمام مصر إلي اتفاقية المناطق المؤهلة(الكويز) التي تعد إسرائيل طرفا أساسيا فيها، كما أطلقت في الأجواء أنباء أخري مريحة تحدثت عن موافقة شارون علي تسهيل إجراء الانتخابات الفلسطينية، والتنسيق مع السلطة بشأن الانسحاب,.. الخ
في ذات الأسبوع، بل في ذات اليوم(12/7) نقلت وكالات الأنباء من إسرائيل أن مجلس المستعمرات قرر توسيع ثماني مستعمرات في مرتفعات الجولان خلال العام المقبل، في اليوم ذاته نقلت الوكالات من القدس المحتلة أن خطة بناء الجدار العازل الجاري تنفيذها الآن أدت حتى الآن إلي تهجير وتشريد2173 أسرة فلسطينية تضم11461 فردا، بعد ذلك بيومين اثنين قتلت القوات الإسرائيلية ثلاثة شبان فلسطينيين في رفح لمجرد اقترابهم من الشريط الحدودي مع مصر، وقامت القوات الإسرائيلية بحملة اعتقالات في بلدة كفر ثلث شرق مدينة قلقيلية بالضفة الغربية شملت19 فلسطينيا تراوحت أعمارهم بين16 و40 عاما ونقلتهم إلي مكان مجهول بحجة التحقيق معهم، وأطلقت طائرة إسرائيلية بدون طيار صاروخا استهدف جمال أبو سمهدانة قائد لجان المقاومة الشعبية، الذي كان داخل سيارته في رفح مع اثنين من مرافقيه، فأصابته بجروح، وعقب العملية بساعات نجا المسئول البارز في كتائب شهداء الأقصى(فتح) محمود المدهون من محاولة اغتيال مماثلة في بلدة بيت لاهيا شمال غزة.
حين يشم المرء تلك الروائح المعطرة في مجري العلاقات المصرية الإسرائيلية، ثم يشم في الوقت ذاته رائحة البارود والدم في فلسطين مقرونة بالمكر والكيد في الجولان، فأيهما يصدق؟
(2) إن مختلف الشواهد تدل علي أن شيئا ما لم يتغير في السياسة الإسرائيلية, لكن المدهش في الأمر أن بعض الأقلام في الصحافة المصرية أرادت أن توحي بأن شارون تغير ـ صدق أو لا تصدق ـ وأنه بدأ يستمع باهتمام للنصيحة المصرية، وبالتالي أبدي استعداده لوقف إطلاق النار ضد الفلسطينيين ـ هكذا جاء في النص ـ المدهش في الأمر أن من كتب هذا الكلام ادعي أن الحوادث الفردية التي وقعت بعد إطلاق سراح الجاسوس وعودة الطلاب المصريين الستة(تلك التي مررنا ببعضها توا) تمت دون تعليمات مباشرة من القيادة الإسرائيلية، التي أعلنت أنها سوف تتخذ عددا من الإجراءات التي تعيد بناء الثقة، تمهيدا للتسوية السلمية النهائية!!
هذا الكلام الذي يقلب الصورة رأسا علي عقب نشرته احدي الصحف المصرية(الجمهورية12/9), في حين أن الأقوال فضلا عن الممارسات الإسرائيلية تتناقض مع كل سطر فيه، الأمر الذي يضاعف من حيرة المرء ويدفعه إلي التساؤل: لمصلحة من يزين الموقف الإسرائيلي، ويتم التستر علي الجرائم التي ترتكب ليل نهار في الأراضي المحتلة؟
يزيد الطين بلة أن كتاب المارينز الداعين إلي الانخلاع من الانتماء العربي والارتماء في أحضان الولايات المتحدة وإسرائيل انتهزوا الفرصة، وراحوا يتحدثون صراحة علي استثمار أجواء الدفء التي أشاعتها التصريحات في العلاقات بين مصر وإسرائيل، لتقرير المفاصلة مع الأمة العربية، والاندفاع في تطوير العلاقة مع إسرائيل، بزعم أن مصالح مصر أولا، فقد كتب أحدهم يقول صراحة يجب ألا نسمح أبدا للعلاقات العربية أن تؤثر سلبا علي العلاقات مع إسرائيل.
ولتخفيف وقع الصدمة ادعي الكاتب أن تطوير العلاقات المصرية الإسرائيلية يمكن أن يفتح الباب لزيادة تأثير العامل العربي في السياسة الإسرائيلية(؟!) ـ أكثر من ذلك، ذهب الكاتب إلي حد القول بأنه آن الأوان للتخلص من النظر بشكل سلبي لإسرائيل ولأي علاقة معها في دعوة إلي تبرئة إسرائيل من بحر الدم العربي الذي أراقته والتراب العربي الذي اغتصبته بقوة السلاح ـ ثم خلص صاحبنا إلي أن العلاقة مع إسرائيل حق وصواب وينبغي تطويرها بما يحقق كل مصالح مصر(الأهرام12/8).
إن المرء مهما شطح به الخيال ما كان له أن يتصور أن مثل هذا الكلام الكارثي، الذي يهدر المصالح العليا للأمة، ويزلزل الوجدان العربي ويضرب عرض الحائط بوشائج الأمة، يمكن ان يصدر يوما في مصر، وأن يبث من خلال أهم منابرها الإعلامية، لكن أما وقد وقعت الواقعة، فان حيرة المرء إزاءها تدفعه إلي التساؤل: كيف ظهر بيننا أمثال هؤلاء؟ وماذا يريدون لنا؟ وإلي أين نحن ذاهبون؟
(3) خذ أيضا الكلام الذي قيل عن انضمام مصر إلي مشروع المناطق الصناعية المؤهلة الكويز الذي يمكن أي دولة في المنطقة من تصدير إنتاجها الصناعي إلي الولايات المتحدة بدون رسوم جمركية، إذا تضمن نسبة معينة من المكونات الإسرائيلية، وهو المشروع الذي أقره الكونجرس، وأعلنت عنه حكومة الولايات المتحدة عام1996(في عهد الرئيس كلينتون) لكي يكون بديلا عن فكرة بنك الشرق الأوسط الذي اقترحته الولايات المتحدة لكي يمول مشروعات التنمية الاقتصادية في المنطقة، ولكن الدول العربية تحفظت عليه.
إذا لاحظت أن حجر الأساس في المشروع هو إسهام المكون الإسرائيلي في المنتج الصناعي، فستدرك أن في جوهره تثبيتا للتطبيع وتوسيعا لنطاقه، وهو ما عبرت عنه صراحة نشرة وزارة الخارجية الإسرائيلية التي اعتبرت أن ما تريده الدولة العبرية من المناطق المؤهلة يتعلق بأهداف سياسية واستراتيجية معتبرة أن بوابة الاقتصاد كفيلة بكسر الجمود السياسي وتجاوزه.
تنبهنا هذه الخلفية إلي ثلاثة أمور:
أولها أن القرار الأمريكي استهدف المصلحة الإسرائيلية بالدرجة الأولي، وثانيها أن الاتفاقية في حال الانضمام إليها تضرب عصفورين بحجر واحد، فهي تقنن إدخال إسرائيل في النسيج الاقتصادي العربي، بل تفرضها بالإكراه، لأن المصدر العربي إذا لم يشرك إسرائيل في منتجه فلن يستفيد من الإعفاء الضريبي ومن ثم ستغلق في وجهه أبواب الأسواق الأمريكية، في الوقت ذاته فإنها تلغي تماما فكرة المقاطعة الاقتصادية التي يفترض أنها مستمرة إلي الآن(الأردن قاطع اجتماعات مكتب المقاطعة منذ انضمامه إلي المشروع)
أما الأمر الثالث فان إسرائيل من خلال مشروع الكويز تهمش القضية الفلسطينية وتقفز فوقها، كما أنها تتجاوز الحكومات العربية وحساباتها السياسية، وتتجه مباشرة للتعامل مع رجال الأعمال والقطاع الاقتصادي، مخترقة بذلك العصب الحساس في بنية المجتمعات العربية، ومعززة موقعها ومصالحها مع قوي الضغط المتنامية في العالم العربي.
سألت نفرا من أهل الذكر عن رأيهم في الموضوع فقالوا إن للانضمام إلي المشروع مردوده السياسي المقطوع به(يقصدون عملية التطبيع) أما مردوده الاقتصادي فهو غير مضمون، ذلك أن صناعة النسيج المصرية التي يعول عليها في المشروع الجديد ليست في أفضل حالاتها، فقلاعها الأساسية في المحلة الكبرى وكفر الدوار وحلوان مثلا لم تتجدد آلاتها منذ سنوات وخسائرها بعشرات الملايين، ولهذا السبب فإن مصر لم تتمكن من خلال السنوات الماضية من الوفاء باحتياجات الحصة التي خصصت لها في اتفاق سابق لتصدير المنسوجات إلي الولايات المتحدة.
ويفترض في ظل اتفاقية الكويز أن تصل المنسوجات المصرية إلي السوق الأمريكية بسعر رخيص نسبيا يمكنها من منافسة المنتجات الأخرى المتوافرة في تلك السوق، غير أن جودة المنتج تعد شرطا أساسيا للفوز في سباق المنافسة، وبهذه الجودة دخلت المنتجات الصينية مثلا إلي السوق الأمريكية، دونما حاجة إلي كويز أو غيره، ومن المشكوك فيه كثيرا أن تصمد المنسوجات المصرية في منافسة المنسوجات الصينية أو الهندية في تلك السوق.
أضافوا أن للمسألة وجها آخر يتمثل في النسبة المفروضة من جانب إسرائيل، أيا كان مقدارها، ذلك أنه مادام المنتج المصري، ملزما بها، فان الطرف الإسرائيلي سيكون حرا في تحديد السعر الذي يفرضه، كما أن أحدا لا يستطيع أن يضمن أنه سيقدم إلي المستورد المصري أفضل ما عنده.
أثار بعض أهل الذكر نقطة أخري جديرة بالانتباه هي أن السوق الأمريكية رغم اتساعها، وأهميتها ليست السوق الوحيدة الموجودة في العالم، فأوروبا سوق اقرب، والاتحاد الأوروبي مهتم منذ سنوات ببرنامج تحديث الصناعة المصرية، ثم إن إفريقيا كانت سوقا أصيلا ومهما لصناعة النسيج المصرية، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يلقي كل الثقل باتجاه السوق الأمريكية، خصوصا أنها سوق غير مضمونة، وأهم من ذلك أن التكلفة السياسية فيها باهظة؟
(4) باعتبارها سباقة إلي الانضمام للكويز، فان التجربة الأردنية مع المناطق الصناعية المؤهلة جديرة بالدراسة، فالأرقام الرسمية تشير إلي ارتفاع كبير في قيمة الصادرات الأردنية(نسبة الملابس والمنسوجات فيها96%) إلي الولايات المتحدة، فقد كانت قيمة تلك الصادرات في عام1995 تعادل9,3 مليون دينار أردني، وارتفعت في عام2002 إلي ما قيمته289,7 مليون دينار، ولكن لأن مستلزمات صناعات النسيج تستورد كلها من الخارج تقريبا، فان قيمة الاستيراد اقتربت من قيمة المصدر، حيث وصلت قيمة ما دفعه الأردن في استيراد تلك المستلزمات في عام2002 إلي285,1 مليون دينار، وبالتالي فان الدخل الذي تحقق من التصدير دفع بكامله تقريبا في الاستيراد.
من ناحية ثانية أشارت دراسات رسمية وأهلية صادرة عن وزارة الصناعة والتجارة الأردنية، وبنك الصادرات والتمويل إلي أن الاستفادة الأردنية من المناطق الصناعية المؤهلة لا تتجاوز5% سنويا من القيمة المضافة، في حين تظهر الأرقام استفادة الطرف الإسرائيلي من الإعفاءات الجمركية والضريبية لمدخلات الإنتاج التي تصدرها إسرائيل بشكل كامل إلي تلك المناطق الصناعية.
وإزاء انفتاح السوق الأردنية أمام الصادرات الإسرائيلية، فقد شهد الأردن ما يشبه الغزو الإسرائيلي لأسواقه، حيث تضاعفت الصادرات الإسرائيلية إليه16 مرة في الفترة مابين عامي99 و2003، إذ أظهرت أرقام التجارة الخارجية الرسمية ارتفاع الصادرات الإسرائيلية للأردن من5,7 مليون دينار في نهاية العام الأول(99) إلي82,3 مليون دينار في نهاية2003، وبينما بلغت نسبة الارتفاع في حجم الصادرات الإسرائيلية إلي الأردن خلال الخمسة أشهر الأولي من العام الحالي نسبة46% لم تسجل الصادرات الأردنية إلي إسرائيل سوي5% فقط، علما بأن الصادرات الأردنية إلي الدولة العبرية كانت تشكل سبعة أضعاف الصادرات الإسرائيلية للأردن عام1999، وهو ما يدل علي أن الانفتاح الاقتصادي الأردني علي الإسرائيلي في ظل الكويز انقلب لصالح إسرائيل تماما، في حين كان الخطاب السياسي والإعلامي ظل يروج للادعاء بأن الفائدة الأكبر من وراء الدخول في الاتفاقية ستكون لصالح الأردن.
(5) الصحف الأردنية نشرت في شهر أكتوبر الماضي ـ في الذكري العاشرة لاتفاقية وادي عربة ـ أكثر من تقرير حول محصلة العلاقات التي نشأت بين الأردن وإسرائيل، وكيف أنها أدت إلي ربط الاقتصاد بين البلدين، من خلال غرفة تجارة مشتركة أردنية إسرائيلية، وإنشاء11 مدينة صناعية مؤهلة، في حين لم يتجاوز حجم التجارة البينية117 مليون دولار عام2002، وفقا لأرقام دائرة الإحصاء الإسرائيلية، كما أن رأس المال الإسرائيلي أحجم عن الاستثمار في الأردن.
هذا في الوقت الذي ألزم فيه الأردن بإنهاء المقاطعة تماما، ووجد نفسه منساقا ـ والانتفاضة مشتعلة في فلسطين ـ إلي توقيع خمس اتفاقيات لمشروعات كبري مع إسرائيل، فضلا عن انه تحمل من جراء الوجود الإسرائيلي المكثف في البلاد أعباء أمنية إضافية استصحبت توترا دائما.
إننا بصدد الدخول في مغامرة كبيرة، باهظة التكلفة سياسيا، وغير مضمونة النتائج اقتصاديا، الأمر الذي يكرس الحيرة والبلبلة، ويفتح الباب لمخاوف وهواجس لا حدود لها.
اللهم إنا لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه.
المصدر: جريدة الأهرام العدد 43107 السنة 12-9- 2004 ديسمبر 14 2 ذي القعدة 1425 هـ الثلاثاء
اقرأ أيضا:
هل نندم علي الانسحاب من غزة؟ / الحرية قبل الديمقراطية وليس بعدها / إلى عمرو خالد: عد إلى أهلك وأمتك