"أنا الذبابة التي تلسع البقر ليكف عن الخوار" سقراط
هكذا كان سقراط يحرض الفكر الباحث عن الحقيقة، مع أن سقراط لم يخط كلمة واحدة إلا أن تلامذته النجباء هم من كتبوا كافة مؤلفاته. وان كنت أبتعد عن سقراط سلوكاً وفكراً ليس ترفعا بل لقصور في الوصول إلى ما وصل إليه فإن من النجباء من يحاول توهماً أن يقلد سقراط في أزمة اغتيال رفيق الحريري -يرحمه الله-.
فقد انقسم الرأي ما بين مؤيد ومتهم لسوريا باغتيال رفيق الحريري وبين منافح ومدافع عن سوريا مفندا سياسة تجريم سوريا بتحملها المسؤولية المباشرة عن اغتيال رفيق الحريري. والعجيب أن من يقود هذا الرأي المنقسم أغلبهم من اللبنانيين فجزء منهم مع سوريا (موالين) وجزء ضد سوريا (غير موالين). لكن يتفق الطرفان على أن رفيق الحريري على النقيض من زعاماتنا العربية الحكايين بأنه رجل عملي عاد لوطنه بأمواله بينما الزعامات وكثير من رجالات الثراء في البلدان العربية الأخرى والذين اثروا من خيرات الوطن العربي هاجروا وهجروا أموالهم إلى الغرب. رفيق الحريري خدم وطنه بالأفعال وليس بالأقوال والخطب.
فمبررات الرأي الموالي لسوريا أنها تدافع عن لبنان وتقف لإسرائيل بالمرصاد لذا هي تتعرض لضغوط من الصهيونية العالمية وأذنابها، أمريكا. فأمريكا تستميت بإثبات التهمة على سوريا ظلما وعدوانا قبل ظهور نتائج التحقيق. وخبرة المواطن العربي طويلة مع لجان التحقيق التي لن تفضي إلا إلى المجهول. ولجان التحقيق أو التفتيش الأمريكية أو التي سترسلها هيئة الأمم المتحدة سوف تثبت ما تريده أمريكا. ألم يحدث هذا في العراق؟
إن الذي يدافع عن سوريا ينفي بإصرار وعناد شديدين التهمة بأن تقوم سوريا بمثل هذا العمل المشين لأنه يلطخ سمعتها. بل يعتد صاحب هذا الرأي بالتفاخر أن رفيق الحريري هو في عداد الشهداء لأن إسرائيل هي من يقف وراء اغتياله. وإذا ثبت أن سوريا وراء الاغتيال سينقلب هذا الرأي إلى تبني مسوغات ومبررات الرأي المتهم لسوريا.
أما الرأي المتهم لسوريا فانه يبدي مساحة واسعة من التفهم لعملها بل ويقفز فوق التوقعات بأن سوريا لم تجد بداً من تصفية رفيق الحريري جسديا لأنه كان يشكل خطراً شديداً عليها وأنه وراء قرار مجلس الأمن رقم 1559 الداعي لانسحاب سوريا من لبنان. وأنه كان يتآمر على سوريا مع أمريكا وفرنسا وإسرائيل وأن اغتياله يمنع المؤامرة على سوريا ولبنان.
هذا التذبذب في المواقف بل انقلاب رأي الناس إلى 180درجه حسب أهوائهم من النفي المطلق واعتبار الاغتيال عمل مشين إلى الحق المطلق بأنه عمل مبرر وأخلاقي هو نتيجة عمل الأجهزة الاستخباراتية والإعلامية العربية التي تطبق سياستها التسويقية والتبريرية الخاصة بها من خلال التطبيل لها في حلقات الزار والتسبيح بحمد الدولة العربية العتيدة.
ليست سوريا إلا مجرد دولة كبيرة الفم متورطة ببعض شعارات الرفض والصمود والتصدي الحماسية اللهلوبة والمتلهبة وفي واقع الحال غير المعلن عنه فهي على استعداد للانسحاب من لبنان لكن بشرط أن تضمن أمريكا عدم حدوث قلاقل داخلية لها بعد الانسحاب. وهي أيضا على استعداد للتخلي عن الجولان. وإلا كيف نفسر هذا الضعف عندما سحبت أمريكا سفيرتها من دمشق علق مصدر سوري مسئول: "إن السفيرة الأمريكية ذهبت لنقل وجهة نظر سوريا لأمريكا" وكأن وجود السفيرة في دمشق يمنعها من نقل وجهة نظر سوريا لأمريكا؟ إضافة على ذلك إن طبيعة تشكيلات الجيش السوري الحالية ليست بوضع هجومي أو دفاعي وإنما كل فرقة عسكرية تقابل وتراقب الفرقة العسكرية الأخرى حماية للنظام.
فمثلا، الجولان المحتل أصبح محمية طبيعية من كثرة أعشاش الطيور المهاجرة والمستوطنة جراء طول هدوء هذه الجبهة وسوريا تجدد كل ستة شهور اتفاقية بقاء قوات الطوارئ الدولية في هضبة الجولان. لذا ستواجه سوريا معضلة داخلية قد تكون دموية بعد انسحاب ما يقارب 40-60ألف جندي سوري من لبنان وهم الذين اعتادوا على الرفاهية والانتفاع الاقتصادي بالبلطجة والابتزاز والرشاوى. إذ من شأن الانسحاب أن يحرمهم الكثير من الامتيازات الاقتصادية، وقد غدا الأمر طبيعياً أن يقدم الجندي السوري رشوة لتكون خدمته في لبنان لاقتناص فرصة العمر بتحقيق الثراء من التهريب حتى أصبحت ظاهرة ما يعرف بـ "حقيبة رامي مخلوف الدبلوماسية" وكأنها بطاقة إعفاء لحاملها القادم من لبنان إلى سوريا من التفتيش والمساءلة.
من مظاهر القصور المتعمد وسلبية القضاء اللبناني أن يقوم عسكري سوري برتبة لواء بإخلاء مبنى أو فيلا من أصحابها أو ساكنيها بالإكراه ويضع لافتة الصمود والعناد الخاصة به على المبنى المصادر والتي تقول "تحت تصرف اللواء....." وكأن المبنى أملاك غائبي. ولا يستطيع المالك اللجوء للقضاء أو التجرؤ برفع الأمر للجهات اللبنانية المعنية لكنه باستطاعته إتباع المنطق الأعوج والوصول إلى حل توفيقي ومرضي للواء بدفع المقسوم له من المال.
لم تتعلم سوريا البعث من بعث العراق عندما ضم الفرع (الكويت) إلى الأصل (العراق) فقام الجيش العراقي بنزع أعمدة الإنارة من شوارع الكويت. للأسف تصادر إسرائيل أملاك الفلسطيني بحجة "قانون أملاك الغائب" وحضرة اللواء السوري يصادر أملاك اللبناني بحجة "قانون أملاك الحاضر"!
سوف يترتب على الانسحاب السوري من لبنان خروج حوالي مليون عامل سوري لم تستوعبهم مرافق سوريا الاقتصادية فذهبوا ليجدوا لقمة عيشهم في لبنان. والكثير غيرهم من الأخوة السوريين وجدوا رزقهم في دول أمريكيا اللاتينية. فسوريا المشغولة بسياسة تحقيق التوازن الإستراتيجي العسكري مع إسرائيل نسيت أو تناست طوال فترة حكم البعث أن تبني مرافق اقتصادية تستوعب العاملين المتواجدين داخل سوريا نفسها فكيف بالعائدين إليها من لبنان؟ اقرءوا كتاب "خيانات اللغة والصمت" للشاعر السوري فرج بيرقدار الذي تذوق طعم السجن مدة 14عاما ليدرك المرء عمق الظلام الذي اقتيد إليه الإنسان العربي.
هل سيقوم أبو العينين زعيم مخيم عين الحلوة بإثارة القلاقل الآن بعد أن تم استدعائه إلى دمشق بمرافقة عسكرية سورية للاجتماع مع وليد المعلم نائب وزير الخارجية السورية رغم وجود حكم بالإعدام عليه في لبنان ولا يستطيع مغادرة مخيم عين الحلوة؟
عملية اغتيال رفيق الحريري هي من نوع اللعب النظيف جداً خبيبي. وأكرر الكلمة الأخيرة لمن التبس عليه قراءتها أول مرة خ_ب_ي_ب_ي. فسوريا في ورطة الآن لأن تهمة اغتيال رفيق الحريري لاصقة بها وهي لا تستطيع نفي التهمة عنها لسياساتها السيئة في لبنان ولا تستطيع إثبات التهمة على غيرها لعدم قدرتها على تقديم أدلة ملموسة ضد طرف آخر. قناعتي أن سوريا لم تغتال رفيق الحريري بل اغتالت طائفة السنة في لبنان وسوريا بإتباع سياسة ممنهجة ومدروسة قبل اغتيال رفيق الحريري. وهل المسرح السوري واللبناني يحتاجان إلى كثير من الذكاء لإدراك هذه الحقيقة. إن من اغتال رفيق الحريري هم أنفسهم البكائين عليه مثل البكائين على عرفات الذي أراح وارتاح منه الكل بعد ذهابه فأصبح صفحه وطويت. لكن بقي ملف التحقيق في أسباب موت عرفات قائما وغير مكتمل فهل سيبقى ملف التحقيق لاغتيال الحريري قائما أم أن الحدثين مختلفين من حيث الأهمية؟
طيب الخير لكم
اقرأ أيضاً
عندما يصبح التطبيع هو القاعدة وليس الاستثناء/ الحرية قبل الديمقراطية وليس بعدها/ إعلان وفاة العرب.....؟!!!!!!!/ ماذا للشرق الأوسط؟ لا شيء... فقط..الموت