الفترة التي قضيتها في جنين (1917-1923) حدث فيها تبدل كبير في عالم الشرق. انتهى حكم العثمانيين في بلاد الشام (1918)، وبدأ الحكم البريطاني في فلسطين وشرق الأردن والعراق وحكم الفرنسيين في لبنان وسوريا. هذا محلياً، أما عالمياً فقد انتهت الحرب العالمية الأولى بانكسار دول الوسط (ألمانيا وحلفاؤها) وزالت الدولة العثمانية التي تقلص وجودها في آسيا الصغرى وجزء صغير من أوروبا –ولعله من المناسبات التاريخية الحرية بالانتباه والتذكر أن الذي بقي تركياً من الإمبراطورية الواسعة هو الرقعة التي نشأت فيها دولة آل عثمان بادئ بدء.
هذه الفترة وفي جنين كان القراء الذين تصلهم الصحف محدودي العدد، لذلك لم يكن من فائدة من إيصال أخبار المدينة أو أوامر الحكومة إلى الناس على أساس مكتوب. فما الحل؟
كان الدلال هو سبيل توصيل كل شيء إلى الناس وعلى أوسع وجه. والدلال كان رجلاً (وقد يكون أكثر في الأماكن الأوسع، لكن جنين كان فيها دلال واحد) يقوم بتبليغ أهل البلدة ما يجب أن يسمعوه. لم يكن موظفاً بمعاش، لكنه يحصل على شوفة خاطر (معناها في الواقع أجرة لكن مركز الدلال كان يتطلب تناول أجرة. هو يعمل العمل ثم يناوله الذي كلفه الأمر ما فيه النصيب).
كان صوت الحاج حسن يلعلع في جنين كل يوم تقريباً، وأحياناً أكثر من مرة واحدة في اليوم. الأمر متوقف على الأحداث.
يا سامعين الصوت صلوا على النبي -الفاتحة الضرورية. يا سامعين الصون صلوا على النبي، إن شاء الله يكون في بيوتكم هيك. يعقد زواج فلان يوم الخميس من الجمعة المقبلة. التعليلة تبدأ يوم الثلاثاء وتدوم (تطول كان الذي يقوله) ثلاث ليال: التعليلة تعني السهرة الخاصة بالعريس. وهي عادة سهرة تقتصر على السحجة والدبكة. الدبكة لعلها معروفة في أكثر أنحاء بلاد الشام لكن لعل السحجة كانت خاصة بالريف الفلسطيني. الدبكة فيها حركات، وبعضها مركبة وكبيرة. والدبكة كانت ترافقها عادة أبيات من الدلعونة. على دلعونا على دلعونا – راحوا الحبايب ما ودعونا، لكن ثمة مئات الأبيات الدلعونية الصالحة. لكن اثنتين من الدلعونا كانتا خاصتين بجنين ويمكن أن تؤرخا.
بيدي مجيدي وبيدو مجيدي – سافر حبيبي ويش طالع بيدي.
والله لربطله بدربه الحديدي. عسى على الله يمرق من هونا.
الدلالة الخاصة بجنين والأماكن المشابهة لها هو درب الحديدي. وقد كانت جنين محطة لسكة حديد متفرعة من سكة حديد الحجاز عند العفولة وتصل إلى نابلس وإلى طولكرم ووادي الصرار في فرع آخر، لذلك فإنه سيربط (سيرابط) بدرب الحديدي
القفلة الثانية هي الأصل طارت طيارة في السما العالي فيها جندرمية وضابط نصراني
حبي يا حبي رد الأمانة سيفي وسلاحي عندك مرهونة
لكن في جنين أصبحت طارت.... فيها جندرمة وضابط ألماني
تبديل نصراني بألماني كان في جنين فقط لأنه كان في جنين وحدة ألمانية جوية عسكرية في أيام الحرب العالمية الأولى.
الدلعونة وما إليها كانت خاصة بالدبكة. السحجة كانت صف الشباب يكاد يلتصق بجدار وكل عمله أن يصفق كل واحد على أنغام شعر خاص بها.
اذكر
تقنطر بارضك يا حماة – يا دمه ملأ (ملأ) المحرمة
تقنطر وقع عن الفرس وهو راكض، وتم ذلك بأرض حماة ومثلها تقنطر بأرضك يا جنين – ودمه ملأ المناديل
لكن لم تكن كل التعاليل تقتصر على "ثلاث" ليال. فالقادرون كانوا يقيمون التعليلة (السهرة) سبع ليال.
وعندها يتغير الرقم.
يا سامعين الصوت صلوا على النبي – عقب الله عند ولاد ولادكم فلان بن فلان الفلاني يجرى تطهيره في اليوم الفلاني الدعوة للحضور بعد صلاة الظهر.
إذ كان يركب الصبي المطهر على حصان يدور به أنحاء المدينة. يا سامعين الصوت صلوا على النبي – إن شاء الله لا يصيبكم مكروه. فلان انتقل إلى رحمته تعالى صباح اليوم (أو الليلة البارحة) يصلى على جسده الطاهر في الجامع الكبير عند صلاة العصر (من اليوم المعين)– لا يضيف لا مدعوين ولا أي إشارة تدعو الناس إلى حضور الجنازة. هذا أمر لا يدعى إليه ولكن يخبر عن الحادث، ولا يدعى الناس للصلاة فهذا أمر مفروض على المسلمين.
مدة الحفلات للأعراس كانت ثلاث ليال أو سبعاً. لكن كان هناك شيء آخر يضاف إلى المناداة (الدلالة) على مكان العرس. كانت جنين مقسومة، على عادة القرى والبلدان والمدن الصغيرة –عادة– إلى حارتين إما شرقية وغربية أو شمالية وجنوبية.
والإعلان –صوت الدلال– عن الاحتفاء العرس (بالتعليلة) كان أحياناً يعين فيما إذا كانت التعليلة خاصة بالحارة الشرقية أو الغربية (جنين كانت شرق–غرب). لكن هذا كان قليلاً ما يحدث. إن اسم العريس وأسرته تعني نوع المدعوين بطبيعة الحال.
لكن الحاج حسن سمعته مرة ينادي:
يا سامعين الصوت صلوا على النبي –بلدية جنين تدعوكم لدفع رسوم المسقفات (المنازل والدكاكين إلخ) والمدة خمسة عشر يوماً (أو شهر) والذي لا يدفع خلال هذه المدة يجازى (يعاقب) على تأخره بمبلغ إضافي.
يا سامعين الصوت صلوا على النبي –يأمركم سعادة القائمقام... بك بأن تقيدوا أسماء المواليد في الدفاتر الرسمية.
ولم تتبدل صورة الإعلان الرسمي في أيام الانتداب البريطاني سوى باسم القائمقام.
يأمركم سعادة القائمقام المستر مكلرن (فقد شغل هذا المنصب كل المدة التي قضيتها في جنين. بادئ الأمر كان اسمه الماجور مكلرن (ضابط في الجيش البريطاني). لما أنشئت الإدارة المدنية في فلسطين سنة1920خلع الثوب العسكري ولبس البدلة العادية وصار اسمه المستر مكلرن.
مثل ذلك الخاص والرسمي كثير. وكما ذكرت قبلاً لعل الحاج حسن الدلال المشهور–كان يدعو إلى مناسبتين مختلفتين في اليوم الواحد.
لا حاجة إلى القول إن اسم العروس لا يذكر أبداً في دعوات الأفراح. أما في حال الوفاة فالمتوفاة هي أم فلان أو زوجة فلان أو ابنة عم أو ابنة خال فلان.
ومن ألطف النداءات التي سمعتها من الحاج داود.
يا سامعين الصوت صلوا على النبي–اختفت حمارة فلان خلال الليل. فمن رآها أو عرف مكانها يدل صاحبها عليها وله الأجر والثواب.
وأنا واثق من أن جنين ليست الوحيدة التي كان فيها دلال. ففي الناصرة كان أكثر من دلال واحد لأنها كانت أوسع انتشارا.
القرى لم تكن تحتاج إلى دلال. ففي بضع دقائق يكون الخبر أو الدعوة قد وصلت إلى أصحابها من طريق الزيارات البسيطة–قد لا يتسع الوقت لشرب فنجان قهوة. فكان يقال قهوتكم مشروبة، وينتهي الأمر.
الحاج حسن، دلال جنين –صورته صوته ماثلان في ذاكرتي.