في مقال بعنوان "الاتجاه هو الدياسبورا والمنفي" نشر في الطبعة الإلكترونية لمجلة جيروساليم ربورت.كوم(25 فبراير 2002)، تشير الكاتبة دراين جاميك إلي مقال نشر في البوسطن جلوب الأمريكية بقلم كاتب يدعو تاي Tye يقول فيه: "ثمة حقيقة يهودية إيجابية جديدة، وهي أن عشرات الجماعات اليهودية في العالم تمارس نهضة دينية وثقافية". ولكن ما هي هذه "النهضة"؟ يخبرنا الكاتب أن دعوة "العام القادم في أورشليم" قد أصبحت صورة مجازية قديمة لا تصلح للعصر الحديث. فإسرائيل –حسبما يقول الكاتب- لم تعد الوطن القومي لليهود، بل هي مجرد وطن لليهود مثل أوطان كثيرة أخري، يقيم فيها اليهود ولا ينوون مغادرتها. ولم يعد من الممكن تصور أن الدياسبورا محطة مؤقتة {كما يتصور الصهاينة} في الطريق إلي إسرائيل، فالاتجاه هو الدياسبورا. (ولذا يمكن تصحيح الدعاء والقول بأنه أصبح بالنسبة ليهود أمريكا على الأقل "العام القادم في صهيون العلمانية" التي كان المهاجرون من يهود اليديشية يسمونها الجولدن مدينا" أي المدينة الذهبية حيث الشوارع من فضة والأرصفة من ذهب).
وقد كتب إبراهام تيروش مقالاً في غاية الأهمية، مدعّماً بالإحصائيات بعنوان "تبدد قوة جذب إسرائيل ليهود المنفى رؤيا الآخرة" (معاريف 28 فبراير 2008). يشير تيروش في مقاله إلى خبرين يسببان قلقاً للمؤسسة الصهيونية، أولهما: أن يهود الشتات لا يهاجرون إلى إسرائيل، والثاني أن ما يسمى الشعب اليهودي يفقد أكثر فأكثر أجزاء واسعة منهم. أحد الخبرين قال، حسب معطيات مكتب الإحصاء المركزي، أنه في العام 2007 وصل إلى إسرائيل 18.129 مهاجرا فقط- وهو العدد الأدنى منذ العام 1988. أما الآخر، ويشير إلى مبادرة متبلورة في مكتب رئيس الوزراء لتعزيز صلة وعلاقة يهود العالم مع إسرائيل، ولكنها أفادت بالمعطيات التالية: 70 في المائة من يهود الولايات المتحدة لم يكونوا أبدا في إسرائيل ولا يعتزمون زيارتها؛ 50 في المائة من يهود الولايات المتحدة متزوجون زواجا مختلطا؛ 50 في المائة من الشباب اليهودي هناك لا يهمهم إذا كفت إسرائيل عن الوجود وفقط أقل من 20 في المائة من يهود رابطة الشعوب يتعرضون لمضامين يهودية.
ثم يستمر الكاتب في شرح هذا الوضع، وبدلاً من وضعه في إطار "التاريخ اليهودي" وما شابه من ترهات، فإنه يتعامل مع هجرة أعضاء الجماعات اليهودية على أنها هجرة إنسانية عادية، يجب دراستها في إطار أسباب الطرد والجذب، وليس في إطار التطلع الأبدي اليهودي للهجرة إلى الوطن القومي أو أرض الميعاد...إلخ، فيقول:
* من الصعب علي المرء إن يكون متفائلا في موضوع الهجرة. مسلمة لها إسناد تاريخي ثابت، هي أن معظم الهجرات إلى ارض إسرائيل، من نهاية القرن التاسع عشر، جاءت إلى هنا (أي فلسطين المحتلة) أساسا بسبب دوافع سلبية في المنفي: اضطهادات، معاداة السامية، الحروب، الوضع الاقتصادي الصعب، وبقدر اقل بكثير بسبب قوة جذب البلاد. ولكن حتى بعد أن نشأت حالات الضائقة والخطر تلك، فإنهم لم يوجهوا خطاهم إلى بلاد صهيون والقدس، التي صلوا إليها وتاقوا زعما طوال أيام حياتهم. فقد فضلت الأغلبية الهجرة إلى بلدان أخرى.
* قوة الجذب الهزيلة لإسرائيل، البلاد وبعد ذلك الدولة، لم تقف إلي جانبها لاجتذاب الأغلبية إلى هنا. النماذج لا تنقص، من عهود الهجرة الثانية وحتى عهدنا الحالي، وفقط من أنقذته دولة إسرائيل من بلدان الضائقة وجلبته إلى هنا، ولم يكن في يديه وسائل للسفر إلى مكان آخر، هاجر إلى البلاد.
* واليوم، تآكلت قوة الجذب أكثر فأكثر. الولايات المتحدة ليست وعلى ما يبدو أيضا لن تكون طاقة كامنة لهجرة كبري (فقط نحو 2.600 هاجروا من هناك في العام 2007)، ولا أي دولة غربية أخرى. ولكن يهود الاتحاد السوفييتي سابقا، والذين اعتبروا كمصدر كامن كبير للتعزيز الديمغرافي، كفوا عن الهجرة. هذا المصدر الكامن استنفد. فقط نحو 6.600 من كل هذه البلدان هاجروا في العام 2007.
ثم يتساءل الكاتب عن السبب، فيذهب إلى أن "الوضع الاقتصادي في معظمه تحسن، صلة اليهود الذين بقوا هناك بإسرائيل وباليهودية واهنة، هذا إذا كانت موجودة أصلا، محافل يهودية عالمية ذات وسائل تعمل هناك لتثبيت الجماعات اليهودية [في أوطانها]، وليس لتشجيع الهجرة؛ وقوة جذب إسرائيل ليس فقط تبددت تماما، بل إنها تعتبر اليوم دولة من الخطر العيش فيها ووجودها موضع شك. وهي تخيف اليهود أكثر بكثير من اللاسامية في دولهم (هذا صحيح أيضا بالنسبة لبعض الدول في الغرب).
* إسرائيل تري نفسها، منذ قيامها، كفيلة لسلامة وأمن يهود المنفي. بلاد لجوء لحين الضائقة. اليوم انقلبت الأمور رأسا علي عقب. الكثير من اليهود في الولايات المتحدة يعتقدون، كما شهد علي ذلك علي مسمعي واحد منهم، فان إسرائيل تحتاج للمنفي لا العكس. ليس فقط لغرض الدعم السياسي، المالي والمعنوي، بل كمكان لجوء، إذا ما حلت بها كارثة.
[وهذه إشارة لموضوع نهاية إسرائيل، المسكوت عنه في الخطاب السياسي الإسرائيلي]. ليس لطيفا سماع ذلك ولكن هذا يعبر بوضوح عن الإشكالية وعن الحاجز في الطريق لجلب مهاجرين إلى إسرائيل. وحتى تعزيز الجامعات اليهودية وعلاقاتها مع إسرائيل، الأمر الذي من السليم عمله، لن يولد هجرة كبري، ولا حتى تعليم يهودي، طالما لم تتغير الظروف في المنطقة وإسرائيل تسكن بأمان حرة من التهديدات ومن الحروب. ولكن هذا يكاد يكون رؤيا الآخرة.
"سيقول الساخرون إن تعزيز الجماعات اليهودية في الشتات يهدف إلى إنقاذنا أكثر مما يهدف إلى إنقاذها، فهي ملجأنا ليوم بارد [مقبل]. فمن دون يهود الشتات نحن في مشكلة عسيرة". [مرة أخرى نهاية إسرائيل]
وفي محاولة لتفسير هذه الظاهرة يقول التقرير، حسب ما جاء في الموقع الإلكتروني فورواد.كوم forward.com، إن السبب هو تصاعد معدلات الزواج المختلط. ثم فتح الموقع الإلكتروني الباب أمام الشباب للرد، وقد وافق علي هذا التشخيص العديد منهم، أي أنهم يرون أن السبب في ازدياد ابتعاد الشباب من أعضاء الجماعات اليهودية عن إسرائيل هو الزواج المختلط باعتبار أن أولاد مثل هذه الزيجات لا علاقة لهم بما يسمى "الهوية اليهودية". وهذا أمر متوقع، ففي أي مجتمع يجد أبناء الزيجات المختلطة أنه من الطبيعي أن يتبنوا هوية غالبية المجتمع.
ولكن آخرون يقولون إن القضية هي فقدان يهود أمريكا إحساسهم بأنهم شعب. فيهود أمريكا لا يرون أنفسهم جزءاً من أمة قديمة، ويعرّفون يهوديتهم كما يعرّفها الأمريكيون باعتبارها ديانة وحسب... وهذا الاتجاه لا يمكن العودة عنه لأن تبني اليهود للهوية الأمريكية هو جوهر قصة النجاح اليهودية في الولايات المتحدة... إن الأمريكيين يرون إسرائيل باعتبارها بلداً أجنبياً، وهذه هي ذاتها نظرة يهود الولايات المتحدة لها.
ولكن أهم الخطابات –في تصوري- خطاب ديفيد نيلسون (وهو من الواضح شاب يهودي) فهو يذكر الحقيقة كاملة ويعبّر عن المسكوت عنه. يتساءل مستر نيلسون "هل استطلاع الرأي الذي قام به ستيفن كوهين فكر في أن ضعف ارتباط [الشباب اليهودي بالدولة الصهيونية] له علاقة ما بسلوك إسرائيل منذ عام 1967 وليس بالزواج المختلط".
إن أصحاب الميديا الأساسية يبذلون قصارى جهدهم ليحسنوا صورة إسرائيل الإعلامية بالنسبة للأمريكيين. ولكن يبدو أن يوتوبيا هرتزل (أي الدولة الصهيونية) بترسانة الأسلحة النووية التي ترفض الإفصاح عنها ومستوطنيها المتعصبون الذين يمرحون ويلهون بجوار حمامات سباحة [في مستوطنات] بُنيَت على أرض عربية، مستوطنات تقع على طرق بنيت خصيصاً للمستوطنين ومقصورة عليهم وأسوار ضخمة تمتد كالثعبان... فتقسم القرى الفلسطينية إلى نصفين... وهناك فقر الصبية اليهود الشرقيين، ورجال السياسة الفاسدون، وإعطاء مكانة سامية لأفيجدور ليبرمان [العنصري المجنون].
والله أعلم.
واقرأ أيضاً:
أسباب ظهور النظام العالمي الجديد/ شارون.. مسيح مخلص أم دجال؟/ الحركة الصهيونية كمشروع غربي / الصهيونية... مرتع الفساد / بيان إلى الأمة في الذكرى الستين للنكبة/ الحماقة الصهيونية الكبرى/ نكبة أم تطهير عرقي؟