الأفضل أن تبتعد عنا؛ فأنت في كوكب غير كوكبنا
ذات مساء طيب، في تسعينيات القرن العشرين؛ أثناء عملي في المملكة العربية السعودية، أذن علينا المغرب في طريقنا في رحلة العمرة من المدينة إلى مكة؛ فانزوينا إلى أحد المساجد؛ لنصلي المغرب!.
ودخلت إلى الصف؛ وهالني الصوت الرائع الملائكي للإمام؛ وهو يقرأ سورة الضحى، حتى انهمرت دموعي من سحر التلاوة!؟.
وبعد أن انتهى الإمام من الصلاة، التفتت إليه؛ فألجمتني المفاجأة؛ فخرجت لأقابل زوجتي؛ والتي صلت في الصفوف الخلفية، وبادرتني بمفاجأة أخرى وهي تسأل متعجبة ومتأثرة: من هذا الإمام المؤثر؟!.
فهتفت بها: إنه رجب الطيب أردوغان، وسأذهب إليه وأحييه وجميع مرافقيه في الحافلة التي تقف وراءك، ولكي أبلغه سلامنا جميعاً إلى أستاذه رئيس وزراء تركيا نجم الدين أربكان، ولنعلن إعجابنا وسرورنا بتجربتهم الرائدة في قيادة تركيا، وفي انتخابات حرة هزت العالم!؟.
وكانت المفاجأة الثالثة؛ أنني وجدته لا يتحدث العربية أو الإنجليزية؛ بل التركية فقط، وكان المترجم وسيطاً ينقل إلي كلينا جوانب هذا الحوار واللقاء الطيب الدافئ!؟.
ثم توالت المفاجآت؛ عندما سألني عن مصر، وأحوالها، وأخبار أهلها؛ وكأنه يتابع كل دقائقها، وكأنه ينظر إلى ثقلها ويحترم قوتها ومكانتها ومكانة أهلها وريادتها وريادتهم!؟.
وودعته ورفاقه، واستشعرت خيراً؛ بأن هذا اللقاء الطيب الدفيء الأخوي من علامات قبول هذه العمرة المباركة!؟.
وقلت في نفسي أيها الرجل أنت ومن معكم من تلاميذ أربكان، لقد أتعبتمونا بريادتكم للنهوض الحضاري ببلدكم، وفي نفس الوقت تحافظون وتوازنون مسيرتكم؛ بهذا الجانب الطيب في سلوكياتكم تمنيت وحلمت حلماً مسكيناً؛ وهو أن أرى مسئولاً في بلدنا ذات الريادة الإسلامية وهو يؤم الناس، أو على الأقل تكون سيرته حسنة ولو يترفع عن التعدي على أراضي مصرنا المسكينة، أو يبتعد عن عيوننا؛ فلا يظهر على شاشتنا الفضية وهو يتحدث عن الشفافية، وعن عصر الشفافية، وعن...!!!؟؟؟.
بلدنا بتتحطم بينا!؟
ثم شغلتني أيامها قضية أخرى؛ وهي التي أظهرت نبوغه القيادي المبكر؛ وهي تلك النقلة الحضارية التي انتقلت بها مدينته (استانبول) أو (القسطنطينية)؛ عندما كان يرأس مجلسها المحلي؛ لتفوز بجائزة أفضل وأجمل وأنظف مدينة عالمية!؟.
وهو السبب الآخر الذي أتعبنا وأشعرنا بمدى الصغار؛ فنحن لم نزل نتعثر في البحث عن حل لإشكالية حضارية ومشروع قومي خطير وحديث كل منتدى ألا وهو مشروع التخلص من القمامة!؟.
أقول هذا وأنا أتعثر بين أكوام القمامة؛ التي تنبعث من كل ركن في مدننا الحضارية المسكينة!؟.
ونقترح أن يتغير الشعار الآن من (مصر بتتقدم بينا) إلى (مصر بتتقذر بينا)!!!؟.
من المراهقة... إلى الرشد!؟
ثم كانت الحركة التصحيحية الحزبية التي قام بها ورفاقه النشطاء، على نهج أستاذه أربكان؛ لتبلغ بهم مسيرة الحركة الإسلامية في تركيا درجة عظيمة من النضج ليذهلونا ـ كمعجبين في كل العالم بتوجهاتهم الواعية ـ بأنهم قد استعلوا على أخطر معوقات الطريق؛ ليحققوا الحلول الحضارية لعدة إشكاليات مزمنة ومستعصية؛ وأخطرها كما أراها من إطلاعي المتواضع على الأحداث:
1- إشكالية العلاقة بين الثابت والمتغير في الحركة، وذلك في ديناميكية رائعة تستعلي على المعوقات!.
2- إشكالية عض الإصابع بين طرفي مقص القوى التركية؛ فتجاوزوا مرحلة الصراع الدامي بين توجهات حزبهم الراديكالية، والمؤسسة العسكرية الأتاتوركية المهيمنة!.
3- حققوا بتوازنهم البراجماتي، وسيرهم الواعي على صراط الميزان الاجتماعي والدولي، وبتجربة عملية الحل الحضاري لإشكالية طالما صدعوا رؤوسنا بها وهي إشكالية العلاقة بين الدعوي والسياسي!؟.
4- ولم يلعبوا على منهجية خطيرة في مسيرة الحركات والأحزاب؛ وهي العقلية التبريرية.
فلم تعجزهم المعوقات، ولم يستكبروا على الأخطاء؛ فاعترفوا بها وصححوها في مهدها، ولم يداهنوا معارضيهم، ولم يخدعوا مناصريهم، ولم يخجلوا من قواعدهم الواعدة!؟.
فأشعرونا أكثر بمدى ما وصلت إليه مسيرتهم الرائدة؛ والتي انتقلوا بها من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الرشد والنضج!؟.
رجولة... وخنوع!؟
ثم جاءت محنة غزة!؟
ورأينا كلنا موقفه الثابت الشامخ الواضح من المعتدي؛ بينما نحن نعاونه ونبارك غزوة على إخواننا!؟.
ثم رأينا موقفه الرجولي الشامخ؛ وهو يوقف ـ ولأول مرة في حياة جيلنا الحالم المسكين ـ هذا المتغطرس القبيح شيمون بيريز في منتدى دافوس؛ بينما رجالنا يصمتون ولا يتحدثون ولا يخجلون، وينسون أن التاريخ قاسي في تعامله مع الأحداث وصانعيها؛ فإما يسطرهم في صفحاته الناصعات، وإما يضعهم في مزبلته!؟.
لقد أتعبونا هؤلاء القوم وأشعرونا؛ أنهم الشموخ في زمن الانكسار، وأن الرجولة لا يقابلها إلا الخنوع!؟.
أخلاقيات قيادية... نفتقدها!؟
ومنذ شهور قليلة سررت جداً عندما رأيت مجموعة من الصور له ولزوجته في مناسبة اجتماعية موحية؛ وهي حفل عرس ابنه رفيق دربه الرئيس عبد الله جول!؟.
لقد فوجئت أنهن محجبات محترمات ملتزمات، في بلد الصراعات وفي زمن التناقضات وفي زمن الفتن الهائجات المائجات!؟.
وقد تأثرت بسلوك العروس الملتزمة، وهي تقبل يدي والدها الفاضل على الملأ!؟.
فأي بشر هؤلاء وأي اعتزاز بالأصول والأخلاقيات؛ لقد أتعبوني كحالم مسكين، وهو يرى قادته، ومسؤولي بلده المسكين، وهم يتسابقون إلى محو هويتهم وهوية وطنهم، وأدعو الله ألا يريك أو يسمعك أخبار حفلات أعراسهم وما يصنع فيها أبناء زمن الحنطرة والتحنطر و(إييييييه) الشعبانية!؟.
يا إلهي؛ أي انحطاط يحاصرنا ويهدد أخلاقياتنا ويدمر هويتنا، وصرخت: (يا رب؛ أشمعنى إحنا)!؟.
انتماء... واغتراب
ومنذ أيام قلائل وصلني على زاويتي في (الفيس بوك) مقطعاً لفيلم فيديو يظهر هذا الرجل المتعب؛ في لقطة معبرة ومؤثرة؛ وهو يسير مع زملائه من الرؤساء الأوربيين ليأخذوا صورة تذكارية على سلالم المؤتمر، وأثناء صعوده وجدناه ينحني على الأرض ليلتقط علماً صغيراً لتركيا من بين أعلام الدول المشاركة والتي سقطت أثناء مراسم الاحتفال، ثم وضعها في جيبه؛ حتى لا يدوسها أحداً بقدمه!؟.
فتأثرت جداً وأرسلت هذا المقطع المؤثر لأصدقائي؛ لأتعبهم واختبرهم كما تعبت وسألتهم سؤال الحالم المسكين المتألم لضياع الانتماء والمستشعر بمدى الاغتراب الذي يحاصره: ترى لو وجدت علم بلدك على الأرض؛ فماذا أنت صانع به؟!.
وجائتني التعليقات الدامية التي يجمعها حالة اغتراب وصفها شاعر الملاحم الإسلامية كامل أمين:
اجتاز في وطني وفي أهلي عمراً ... من الحزن طالت فيه أسفاري
مهاجرٌ وبلادي تحت راحلتــي ... ولاجئ رغم أني صاحب الدار
فمنك لله يا أردوغان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أجندته... وهموم الفقراء
ومنذ أيام وصلتني مجلة (المجتمع الكويتية) العدد (1869) بتاريخ (18/9/2009) وفي الصفحة (11)؛ أن هذا الرجل في أحد أيام رمضان قد فاجأ الجدة الفقيرة المسنة (عائشة أولجون) وزوجها المشلول القعيد القاطنين في إحدى عشوائيات العاصمة أنقرة، وتناول معهم الإفطار، ثم زار عدداً من الأسر الفقيرة فاطمأن عليهم، واستمع لشكواهم في مظاهرة حب دافئة!؟.
فاستنكرت في نفسي تصرفاته المستفزة لنا، وقلت في نفسي؛ ألم يجد هذا الرجل أمكنة وبشر أنظف من هؤلاء ليزورهم أمام العدسات؟!.
ألا يوجد عندهم (كارفور) ليزوره؟!.
ألم يجد قعدة على ترعة تزدحم بضفادع بشرية أمنية، في خص يبنيه رجال أمنه، وفي ضيافة ممثل قدير من أمنه، وعلى شاي صنعه رجال أمنه؟!.
حتى أنت... يا أحمد يا منصور!؟
لم أكد أنتهي من هذا الهم، وأشعر بشيء من التنفيس عن هموم الحالم المسكين؛ حتى هوى على رأسي المسكين هذه الكلمات:
(صناعة التاريخ حرفة لا يجيدها إلا الرجال)!؟. (نحن استمعنا إلى صوت شعبنا)!!؟.
(وأنه لن يملأ الفراغ الذي ستتركه أمريكا في المنطقة عاجلاً أم آجلاً إلا صناع التاريخ، إلا دول قوية وحكومات تسمع لصوت شعبها، أما الأقزام الذين مشوا ويمشون في ركاب أمريكا وإسرائيل؛ فإن مصيرهم سيكون لا شك مصيرها، وسوف ينالون؛ دون شك مكانتهم المرموقة في مزبلة التاريخ!؟).
وقد اقتطفتها دون تعليق من مقال رائع لا يجب أن يفوت أحد؛ وعنوانه (الأتراك يعيدون صناعة التاريخ) للصديق الحبيب والإعلامي الرائع (أحمد منصور) في عدد الأربعاء الأسبوعي لجريدة الدستور (21 أكتوبر 2009م)!؟.
فأحببت أن أختم بهذين العتابين الحزينين:
الأول: (كفانا هموماً ومقارنة بين مواقف الرجولة، ومواقف الخزي التي تحاصرنا وتقتلنا يوماً بعد يوم؛ خاصة ما أصابني بعد قراءة هذه الإنجازات العبقرية المذهلة التي صنعها هذا الرجل الشامخ؛ والتي وردت في مقال الدستور، ولا أجد عتاباً أبلغ من عتاب قيصر لبروتوس: حتى أنت يا أحمد يا منصور)!؟.
الثاني: (أيها الرجل؛ من سلطك علينا؛ كفانا هموماً؛ نستشعرها ونحن نتابع إنجازاتك ومواقفك يوماً بعد يوم، لأنني كحالم مسكين؛ في حالة من التناقض الداخلي والتشرذم النفسي؛ لوقوعي بين شعورين قاتلين يتجاذباني؛ لأنني أزداد فخراً بك، وفي نفس الوقت استشعر مدى الصغار الذي يحاصر أحلامي المسكينة في التغيير مثلكم!؟.
فالأفضل أن تبتعد عنا؛ فأنت في كوكب غير كوكبنا؛ وإن صممت على هذه المواقف، ولم ترعوى عن مسيرة الصعود؛ فستشعرنا بمدى هبوطنا، وستكشف سوآتنا، وتفضح كوكبنا؛ أرجوك أرحمنا، ودعنا في حالنا)!؟.
مع تحيات الحالم المسكين:
د. حمدي شعيب
واقرأ أيضاً:
أردوغان... و"أخي جاوز الظالمون المدى"! / انتهى الدرس "التركي ـ الأردوغاني"!!