لا شك أن مصر كانت وستبقى المكان الأكثر إثارة لي.. ليس لأني عندما تفتحت لدي هواية الأدب أول شيء وجدته بين يدي روايات نجيب محفوظ، التي أسكرتنا بخمرة المكان، وجعلتنا نتماهى مع أبطالها العاديين والسحريين بنفس الوقت، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ورومانسيته العذبة التي أبكتنا في لحظة غروب في زمن ما حيث تتفتق فينا مشاعر جديدة ونحن في مقتبل الشباب، ثم لأجد التلفزيون السوري يعرض ثلاثة مسلسلات مصرية، كل واحد منها ثلاثة عشر حلقة، ثم يعرض مسلسلاً سورياً مدته 7 حلقات قبل أن ينطلق القطاع الخاص فيها لينتج آلاف المسلسلات التي أغرقت السوق كما هي المسلسلات المصرية.. وصارت معاركنا وفتوحاتنا على الشاشة أعظم بكثير في أذهاننا مما اجترحه صلاح الدين الأيوبي وخالد بن الوليد.
ليس لكل هذا وإن كان له دور، إنما لشيء غامض لست أدري ما كنهه إلى الآن، تماماً كما هي الأسرار التي مازالت تنطوي عليها المومياءات، أو سر الضخامة الشديدة للأهرامات التي يقولون أن هدفها الأول حفظ جثة الفرعون.. أو سر العطش الذي يعانيه المصريون، رغم أنهم يمكثون على ضفاف نهر من أعظم أنهار الدنيا وأحد أنهار الجنة كما ورد في الحديث الشريف.. أسئلة وأسئلة ويزداد الأمر غموضاً..
ثم وجدتني أبحث عن أسرار عابرة تخطر في ذهني من خلال شبكة الإنترنت، وكثير من الكتب أقتنيها من المكتبات ومن المعارض ومن الأصدقاء.. وكلما اتضح لي سر، يخالجني أن هناك ألف سر آخر تنطوي عليه روضة السيدة أم هاشم، وأرض الكنانة التي صرت أعرف عنها ربما أكثر من مما أعرف عن بلدي.. وأصابتني لوثة اسمها مصر، وهي بالتأكيد ليست لعنة الفراعنة!
وقد أثارني في الحقيقة، انقسام الشارع المصري إلى أهلاوية وزملكاوية، وأن كثيراً من الأصدقاء الذين أعرفهم، أستغرب منهم أحياناً أن يلبسوا وبدون مناسبة قميصاً (تي شيرت) أو فانيلا بلون أحمر فاقع دون أن أجد هذا اللون مناسباً لألوانهم أو قسمات وجوههم، وعدم تناسقه مع سراويلهم، وبعد الاستفسار اكتشفت أن هذا اللون هو لون لباس الفريق الأهلي.. بينما يلبس آخرون اللون الأبيض.. وتدريجياً رغم عدم اهتمامي بالرياضة، وجدت أن المتحمسين لفريقهم، يحبونه لدرجة التعلق، والهوس.. وأن الألوان أصبحت جزءاً أساسياً من الانتماء والتفكير لهؤلاء الأشخاص..
وحمدت الله كثيراً أن مصر انقسمت إلى لونين، هما أحمر وأبيض، وليس أبيض وأسود لا سمح الله.. رغم أن الحياة في نظر بعضهم هي إما حليب "زي القشطة" أو أسود "زي الزفت" وحسب الموقف يعبرون عن ذلك.. (يانهار أبيض، يانهار أسود).. إذاً كانت حكمة أن يكون اللون الأحمر بديلاً عن الأسود.
وتجد متحمساً لفريق الزمالك ذي اللون الأبيض، ينشر مشاعره على أحد مواقع الإنترنت وبلغة ركيكة يقول:
"كم أنا متحمس جدا لهذه الكلمات التي أكتبها والتي أرجو أن يقرأها كل عضو من أعضاء منتدى احتراف الكرام... والصور والكلمات حصريا لمنتدانا الغالي والتي لم أكتبها غير لاحتراف، وحشتني المواضيع السعيدة التي أكتبها عن حبي الكبير ا ل ز م ا ك.
يعتبر نادي الزمالك المصري النادي الأكثر شعبية على مستوى الوطن العربي وأفريقيا، فعلى الرغم من إخفاقات الفريق الأخيرة لكن شعبيته لم تهتز لأن الزملكاوية لم يشجع والزمالك بسبب انو فريق يحصد بطولات، الزملكاوية يعشقون الزمالك بسبب لعبه الممتع ومثال على هذا النادي الأهلي المصري حصد بطولات أكثر من الزمالك، ولكن شعبيته عربيا وأفريقيا ليست أكثر من الزمالك بسبب أنه يلعب من أجل الفوز وطريقة لعبه مختلفة تماما عن الزمالك".
ثم يذكر الرجل أن الشعب العربي في كل مكان وفي إفريقيا يشجعون الزمالك حتى على فرق بلدانهم، ولا ننسي مباريات الزمالك في دوري أبطال العرب في الكويت 7 آلاف مشجع يشجعون الزمالك ضد القادسية الكويتي في عقر داره، في السعودية 7 آلاف مشجع مصري وسودي يشجعون الزمالك أمام أهلي جدة في جدة، ثم ينشر مجموعة صور يشير فيها إلى أشخاص مغاربة ليبيين ومغاربة، وأردنيين يلبسون لون الزمالك حتى في بلدانهم وحين يحضرون مباريات فرق بلدانهم مع الفريق العملاق .. وحتى في أمريكا يوجد زملكاوية.
وأخيرا يقول شعراً مغنى:
وأخيرا
بحبك يا زمالك اكمني بهواك وبحس انك مني
بحب الحب اللي جمعنا بحب الشوق اللي وجعنا
وعمري بجد مالوش معنى ولا تحلى الدنيا ف يوم غير بيك
كل يوم بيفوت فيك بعيش وبموت بردو أحلى حياه
ويوقع تحت اسم..
عاشق الزمالك المضطهد
مخلص أمين للأبد
ثم يرد عليه قارئ آخر.. وباللون الأحمر طبعاً ويقول له عفواً ! هذا زمان الأهلي.. ويستطرد تحت صورة حمراء للفريق الأهلي قائلاً لا للإرهاب لا للتطبيع لا لقتلة الأطفال..
والحقيقة لا أريد أن أستعرض الكثير من تفاصيل الأخذ والرد بين جمهور الزمالك والأهلي لأن هذا الموضوع لا يتسع سوى للتنويه، وأن التفاصيل في الأخذ والرد تحتاج إلى آلاف الصفحات للوقوف على أكثر التعليقات سخونة وألمعية.. ولكن الأمر قادني إلى البحث عن حكاية هذا الانقسام الودي في الشارع المصري.. إلى أن وجدت ضالتي في كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي" حيث يخبرنا عن حكاية هذين اللونين وظهورهما في مصر ومكانتهما فيها.
ولنطلع على حكاية طريفة ربما يكون ممتعاً أن نقرأها..
يقول الجبرتي:
"ظهر في عسكر مصر سنة جاهلية وبدعة شيطانية زرعت فيهم النفاق وأسست فيما بينهم الشقاق ووافقوا فيها أهل الحرف اللئام في قولهم سعد وحرام وهو أن الجند بأجمعهم اقتسموا قسمين واحتزبوا بأسرهم حزبين: فرقة يقال لها فقارية وأخرى تدعى قاسمية ولذلك أصل مذكور وفي بعض سير المتأخرين مسطور لا بأس بإيراده في المسامرة تتميما للغرض في مناسبة المذاكرة وهو أن السلطان سليم شاه لما بلغ من ملك الديار المصرية مناه وقتل من قتل من الجراكسة وسامهم في سوق المواكسة قال يومًا لبعض جلسائه وخاصته وأصدقائه: يا هل ترى هل بقي أحد من الجراكسة نراه وسؤال من جنس ذلك ومعناه.
فقال له خير بك: نعم أيها الملك العظيم هنا رجل قديم يسمى سودون الأمير طاعن في السن كبير رزقه الله تعالى بولدين شهمين بطلين لا يضاهيهما أحد في الميدان ولا يناظرهما فارس من الفرسان.
فلما حصلت هذه القضية تنحى عن المفارشة بالكلية وحبس ولديه بالدار وسد أبوابه بالأحجار وخالف العادة واعتكف على العبادة. وهو إلى الآن مستمر على حالته مقيم في بيته وراحته.
فقال السلطان: هذا والله رجل عاقل خبير كامل ينبغي لنا أن نذهب لزيارته ونقتبس من بركته وإشارته قوموا بنا جملة نذهب إليه على غفلة لكي أتحقق المقال وأشاهده على أي حالة هو من الأحوال.
ثم ركب في الحال ببعض الرجال إلى أن توصل إليه ودخل عليه فوجده جالسا على مسطبة الإيوان وبين يديه المصحف وهو يقرأ القرآن وعنده خدم واتباع وعبيد ومماليك أنواع فعندما عرف أنه السلطان بادر لمقابلته بغير توان وسلم عليه ومثل بين يديه فأمره بالجلوس ولاطفه بالكلام المأنوس إلى أن اطمأن خاطره وسكنت ضمائره فسأله عن سبب عزلته وامتناعه عن خلطته بعشيرته فأجابه أنه لما رأى في دولتهم اختلال الأمور وترادف الظلم والجور وأن سلطانهم مستقل برأيه فلم يصغ إلى وزير ولا عاقل مشير وأقصى كبار دولته وقتل أكثرهم بما أمكنه من حيلته وقلد مماليكه الصغار مناصب الأمراء الكبار ورخص لهم فيما يفعلون وتركهم وما يفترون فسعوا بالفساد وظلموا العباد وتعدوا على الرعية حتى في المواريث الشرعية فانحرفت عنه القلوب وابتهلوا إلى علام الغيوب فعلمت أن أمره في أدبار ولابد لدولته من الدمار فتنحيت عن حال الغرور وتباعدت عن نار الشرور ومنعت ولدي من التداخل في الأهوال وحبستهما عن مباشرة القتال خوفًا عليهما لما أعلمه فيهما من الأقدام فيصيبهما وغيرهما من البلاء العام. فإن عموم البلاء منصوص واتقاء الفتن بالرحمة مخصوص.
ثم أحضر ولديه المشار إليهما وأخرجهما من محبسهما فنظر إليهما السلطان فرأى فيهما مخايل الفرسان الشجعان وخاطبهما فأجاباه بعبارة رقيقة وألفاظ رشيقة ولم يخطئا في كل ما سألهما فيه ولم يتعديا في الجواب فضل التشبيه والتنبيه ثم أحضروا ما يناسب المقام من موائد الطعام فأكل وشرب ولذ وطاب وحصل له مزيد الانشراح وكمال الارتياح.
وقدم الأمير سودون إلى السلطان تقادم وهدايا وتفضل عليه الخان أيضا بالأنعام والعطايا وأمر بالتوقيع لهم حسب مطالبهم. ورفع درجة منازلهم ومراتبهم ولما فرغ من تكرمه وإحسانه ركب عائدًا إلى مكانه وأصبح ثاني يوم ركب السلطان مع القوم وخرج إلى الخلا بجمع من الملا وجلس ببعض القصور ونبه على جميع أصناف العساكر بالحضور فلم يتأخر منهم أمير ولا كبير ولا صغير فطلب الأمير سودون وولديه فحضرا بين يديه فقال لهم: أتدرون لم طلبتكم وفي هذا المكان جمعتكم.
فقالوا: لا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب فقال: أريد أن يركب قاسم وأخوه ذو الفقار ويترامحا ويتسابقا بالخيل في هذا النهار.
فامتثلا أمره المطاع لأنهما صارا من الجند والأتباع فنزلا وركبا ورمحا ولعبا واظهرا من أنواع الفروسية الفنون حتى شخصت فيهما العيون وتعجب منهما الأتراك لأنهم ليس لهم في ذلك الوقت أدراك. ثم أشار إليهما فنزلا عن فرسيهما وصعدا إلى أعلى المكان فخلع عليهما السلطان وقلدهما أمارتان ونوه بذكرهما بين الأقران وتقيدا بالركاب ولازما في الذهاب والإياب. ثم خرج في اليوم الثاني وحضر الأمراء والعسكر المتواني فأمرهم أن ينقسموا بأجمعهم قسمين وينحازوا بأسرهم فريقين قسم يكون رئيسهم ذو الفقار والثاني أخوه قاسم الكرار.
وأضاف إلى ذو الفقار أكثر فرسان العثمانيين وإلى قاسم أكثر الشجعان المصريين وميز الفقارية بلبس الأبيض من الثياب وأمر القاسمية أن يتميزوا بالأحمر في الملبس والركاب. وأمرهم أن يركبوا في الميدان على هيئة المتحاربين وصورة المتنابذين المتخاصمين فأذعنوا بالانقياد وعلوا على ظهور الجياد وساروا بالخيل وانحدروا كالسيل وانعطفوا متسابقين ورمحوا متلاحقين وتناوبوا في النزال واندفعوا كالجبال وساقوا في الفجاج وأثاروا العجاج ولعبوا بالرماح وتقابلوا بالصفاح وارتفعت الأصوات وكثرت الصيحات وزادت الهيازع (1) وكثرت الزعازع وكاد الخرق يتسع على الراقع وقرب أن يقع القتل والقتال فنودي فيهم عند ذلك بالانفصال. فمن ذلك اليوم افترق أمراء مصر وعساكرها فرقتين واقتسموا بهذه اللعبة حزبين.
واستمر كل منهم على محبة اللون الذي ظهر فيه وكره اللون الآخر في كل ما يتقلبون فيه حتى أواني المتناولات والمأكولات والمشروبات والفقارية يميلون إلى نصف سعد والعثمانيين والقاسمية لا يألفون النصف حرام والمصريين. وصار فيهم قاعدة لا يتطرقها اختلال ولا يمكن الانحراف عنها بحال من الأحوال ولم يزل الأمر يفشو ويزيد ويتوارثه السادة والعبيد حتى تجسم ونما واهريقت فيه الدماء.
ويذكر الجبرتي أن الناس في مصر ظلوا لفترة طويلة منقسمين إلى قاسمية وفقارية.. (هذا على ذمة الجبرتي)، ثم نجدهم بعد ذلك بطرابيش حمر أو عمائم بيضاء، يعني ابيض واحمر دائماً.. هذا زمان طبعاً.. أما الآن فهم والحمد لله نقول بثقة أنهم متناسقون في لونين أحمر وأبيض، أهلاوية وزملكاوية.
___________________________________________________________
(1) الهَيْزَعَةُ: الخَوْفُ، والجَلَبَةُ في القِتالِ
واقرأ أيضاً:
نيسان / فاقد الأمان / غزالي / زمان العجب / أحلام أب مسافر / جندي مارينز أميركي يتغنى بقتل عائلة عراقية / أحزان بابل / حالة موت / أقلام فاسدة / كوني إذا متفائلة / تحية صباحية/ تباركت أسراره / وردة المساء / انطفاء / أولمرت يقبل عباس / سادة الظلام / حكايتنا لها معنى / مرحباً بالضيف / عصفور على الشباك / أقول لأهل مصر لا تحزنوا / أقول لأهل مصر لا تحزنوا مشاركة