من (التشخيص الثقافي) لل(التشخيص الثقافي الحضاري)!
(التشخيص الثقافي) -كما مر معنا- ذو نزعة تركيزية انعزالية عالية، حيث يمارس العمل التشخيصي لأجزاء وتفاصيل الثقافة دون بذل عناية تذكر لطبيعة واتجاهات تفاعلات تلك الثقافة مع الثقافات الإنسانية الأخرى في ميادين الفلسفة والعلم والحياة، مما يفقد ذلك النوع من التشخيص (الاستبصار الفكري) و (النقد الشمولي).
ولاسيما عند تقييم فعالية الثقافة في أداء وظائفها، والتنبؤ بمستقبلها في خضم عالم ديناميكي سريع التغير، الأمر الذي يجعل التشخيص الثقافي مفتقراً لأدوات أعمق وزاويا تفكير متمايزة ودرجة تركيز مغايرة في الممارسة التشخيصية... تلك الأدوات الأعمق وزاوية التفكير المغايرة التي يجب إضافتها إلى العملية التشخيصية للثقافة تتجسد في أدوات التحليل الحضاري...أو ما يمكننا تسميته بالتشخيص الحضاري الذي من شأنه رفع سقف التشخيص الثقافي وتوسيع دائرته ليشمل تموضع وحركة المجتمع -الأمة ذات الثقافة الواحدة- في خضم المسار الحضاري، واستيعاب طبيعة تفاعلها مع الحضارات أو المدنيات (كالمدنية الغربية!) الأخرى واتجاهات ذلك التفاعل.
ومن هنا يتضح السبب الذي يدعونا إلى الجمع بين مصطلحي الثقافة والحضارة في سياق الحديث عن ممارسة العمل التشخيصي للثقافة. ونحن حيال هذا المصطلح (التشخيص الثقافي الحضاري) مواجهون بالعديد من الأسئلة المنهجية الصعبة التي قد يكون من أهمها ما يلي:
* ما المقصود بالتشخيص الثقافي الحضاري؟
* ما الذي يميز التشخيص الثقافي الحضاري؟
* هل التشخيص الثقافي الحضاري بديل عن التشخيص الثقافي أم أنه مكمل له؟
* هل نطالب كافة المشّخصين للثقافة بتبني التشخيص الثقافي الحضاري والصدور عنه؟
التشخيص الثقافي الحضاري هو لون من التشخيص والتفكير، بل هو مستوى أعمق من التفكير والتشخيص، تفكير وتشخيص يمنحانا القدرة على فهم تموضع ووظيفة الثقافة في مسار التحضر، أي أنه يجعلنا ندرك سير الأمة العربية الإسلامية وتقلباتها في ذلك المسار، الأمر الذي يزيد من الاستبصار الفكري الشمولي لدينا ونحن نضطلع بعملية التشخيص المنهجي للثقافة العربية الإسلامية، ويزيد من الدقة في تحديد درجة فاعلية تلك الثقافة في تحقيق النهضة الحضارية للشعوب العربية والإسلامية.
ولمزيد إيضاح للفروق بين التشخيص الثقافي والتشخيص الثقافي الحضاري، تعالوا بنا نتخيّل أننا واقفون أمام باحة منزل يتم تشييده في إحدى ضواحي المدينة التي نسكنها... في ذلك المشهد عادة ما نرى مجموعة من العمال يبنون هنا وآخرين يحملون رملاً وأسمنتاً هناك... يعملون جميعاً وبانتظام تحت إشراف فريق من المهندسين بقيادة كبير المهندسين، فأعضاء الفريق الهندسي يراقبون العمل بتفاصيله وأجزائه ومراحله ويشرفون على صيانة المعدات والأجهزة، ويقيمون كل ذلك ويوجهون العمال وربما يلفتون نظرهم أو يعاقبونهم إن كان ثمة أخطاء أو تكاسل...
أما كبير المهندسين فلا يكترث بالعمل اليومي بقدر ما يهتم بمراجعة المخططات الهندسية، وتقييم مدى الدقة في تنفيذها، ومراجعة جدولة الأعمال الهندسية للاطمئنان أن العمل سينتهي في الوقت المحدد، والتأكد من صحة واكتمال إجراءات استخدام وسلامة المعدات والأجهزة الكبيرة في موقع العمل، وهو حين يفعل ذلك يقوم بعملية (معايرة) للعمل أنه يحاكم الأداء في ضوء مجموعة من المعايير المتفق عليها التي ثبتت صحتها في إنجاز المشاريع الأخرى، مما يجعله قادراً على رسم خارطة ذهنية تمكنه من تتبع سير التنفيذ وتموضع المشروع مقارنة بالمعايير المقرة والمشاريع المشابهة الأخرى...
وفي هذا المشهد الرمزي يرمز (العمال) إلى أعضاء المجتمع وشرائحه، بينما يرمز أعضاء (الفريق الهندسي) إلى المثقفين الذين يضطلعون بمهمة (التشخيص الثقافي)، في حين يرمز (كبير المهندسين) إلى المفكرين الذين يتولون أعباء القيام ب (التشخيص الثقافي الحضاري)... وعلى هذا يمكننا القول: إن التشخيص الثقافي الحضاري بهذا المعنى يكون معنياً لا بسلسلة الحركات الصغيرة لمحركات الثقافة في باحة المجتمع العربي من حيث الأداء والفعالية والوقود والصيانة فحسب، وإنما يكون منشغلاً بما يمكننا تسميته ب(الرافعات الكبيرة) للثقافة، تلك الرافعات القليلة في عددها، الضخمة في حجم تأثيرها على مجمل الوضع الثقافي في المجتمع.
والتشخيص الثقافي الحضاري معياري النزعة من ناحيتين، حيث يمارس معايرة الثقافة العربية الإسلامية في ضوء منطلقات وأصول وقواعد الإطار الحضاري العربي الإسلامي، كما يمارس نوعا آخر من المعايرة ينفذ من خلالها إلى عمق التجربة الإنسانية في أطيافها الثقافية المختلفة ليحدث نوعاً من المقارنة الذكية بين وظائف وفعالية واقع الثقافة العربية الإسلامية وواقع الثقافات الأخرى، والنوع الثاني من المعايرة يشبه ما يعرف بالممارسة الأفضل Benchmarking في علوم الإدارة وغيرها.
ووصفنا للتشخيص الثقافي الحضاري على النحو السابق لا يعني أننا نسوّغ النظر إليه على أنه بديل للتشخيص الثقافي، بل هو مكمل له، وذلك لعدة أمور، من أهمها ما يلي:
1- أن الحاجة ماسة لكلا النوعين من التشخيص لاختلاف نوعية ودرجة التركيز في عملية التشخيص، فالتشخيص الثقافي يهتم بتفاصيل وإحداثيات الفعل الثقافي داخل بوتقة الثقافة الواحدة، ويمارس رصداً دقيقاً ل(يوميات الثقافة) وتفاوت درجات أدائها ومستويات فعاليتها وتقلب أمزجتها؛ حين يعتني التشخيص الثقافي الحضاري بالأطر والإحداثيات العامة للثقافة في إطار يستوعب تفاعل تلك الثقافة مع بقية الثقافات، بجوانبه الإيجابية والسلبية، الواقعية والمفترضة، الحاضرة والمستقبلة.
2- امتياز كل منهما بميزة يتفرد بها عن الآخر، وخاصة فيما يتعلق بالأدوات التحليلية فضلاً عن الجوانب الإجرائية، فالقول بالجمع بينهما على نحو ما يقود إلى عملية تراكم للرصيد التشخيصي في أدواته وتطبيقاته.
3- أنه لا يستطيع كل أحد ممارسة التشخيص الثقافي الحضاري. مما يجعلنا لا نطالب ولا نتوقع أن يمارسه كافة المثقفين، ولكن الأمر الذي نشدد على أهميته هو توفر وعي كافٍ لدى عموم المثقفين بمنهجية وأدوات ووظيفة التشخيص الثقافي الحضاري، أي توافر الحد الأدنى من الوعي به.
وقبل أن نختم هذا الموضوع نؤكد على أن التشخيص الثقافي الحضاري يحتاج إلى جهود بحثية تراكمية من أجل بلورة إطاره المنهجي والمفاهيمي، وهذا يقودنا إلى تقرير قضية مهمة وذلك بالتأكيد على وجوب أن يلج هذا النوع من التشخيص ميدان (الأكاديميا) العربية، لا أن يبقى معزولاً في جزر الكتابات والمقالات العامة ذات الطابع الفكري.
والواقع أننا نحتاج التشخيص الثقافي الحضاري في مجال البحث الأكاديمي وفي الإسهامات الفكرية العامة في آن، ليحصل له ضبط وإحكام منهجي من جهة، وليضمن له فضاءات محررة من القيود المنهجية الضيقة التي تجود بها (الأكاديميا)..
أي أننا نتوجه إلى الأكاديميا ونفر منها في الوقت ذاته عند ممارساتنا التشخيصية الثقافية، ولاسيما إذ رمنا دقة في المنهج وإبداعاً في المنتج... أي أننا نلتزم بالمنهج ونثور عليه، فلا شيء يمنعنا من ذلك!!!
اقرأ أيضاً:
متى نشخِّص الثقافة؟/ القابلية للانصياع.. والفتاوى الدينية!/ وعينا متوعك!!