فقه المُسْتَنْكَح!: سلاسلُ ذهبيةٌ في علاج الوسواس
منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري: وقايةً وعلاجاً (1)
المبحث الأول: لماذا البحث في الوسواس القهري عند فقهاء المسلمين؟
تعود أهمية البحث عند فقهاء المسلمين في هذا المرض إلى عدة أمور:
أولها: ثبوت أهمية العلاج المعرفي السلوكي وفاعليته في علاج الوساوس القهرية، وأثره في إحداث تغييرات في المخ تماثل التغييرات الكيميائية التي تحدثها الأدوية، وهذا يعني ضرورة الاهتمام بهذا النوع من العلاج ودراسة جميع ما يتعلق به.....
وحيث إن المعارف والسلوك المرتبط بها تتنوع وتتغير من بيئة لأخرى، بل من فرد لآخر، فإنه من الواجب مراعاة ذلك التنوع وملاحظة تلك التغيرات، لمعرفة العلاج المناسب الذي يحدث قناعات معرفية قادرة على إحداث تغييرات سلوكية لدى المريض.
ووجوب مراعاة الاختلاف أمر بدهي لا يحتاج إلى برهان، وقد كان منهجاً للنبي (صلى الله عليه وسلم) في مخاطبة الناس، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال: (هل لك من إبل؟). قال: نعم قال (ما ألوانها؟). قال: حمر، قال: (هل فيها من أَوْرَق؟) [أي: الأغبر الذي في لونه بياض إلى سواد]. قال: نعم، قال: (فأنَّى كان ذلك؟). قال: أُرَاهُ عِرْقٌ نزعه [أي يوجد في أصوله من هو كذلك فجاء يشبهه]، قال: (فلعل ابنك هذا نَزَعَه عِرْق).[البخاري:كتاب المحاربين/باب ما جاء في التعريض، مسلم: كتاب اللعان].
فقد خاطب النبي (صلى الله عليه وسلم) ذلك الأعرابي ومثّل له بالإبل التي هي من مفردات بيئته، ليصل معه إلى قناعة بثبوت نسب الولد منه رغم اختلاف لونه.
وعليه: ففي المجتمعات المتدينة -ومنها المجتمع المسلم- لا بد من خطاب المريض بالمفردات الدينية التي يفهمها، والتي تشكل عنده ثوابت غير قابلة للنقاش، ثم الانطلاق منها إلى العلاج الذي يتماشى مع تلك الثوابت.
ومن الطبيعي جداً أن تكون المناهج العلاجية الغربية غير قادرة وحدها على إقناع الموسوس العربي المسلم، وخاصة إذا كان وسواسه متعلقاً بالأمور الدينية، إذ ما الذي يجعله يقتنع بضرورة عدم الالتفات لتلك الوساوس وأنه يجوز له -مثلاً- إمضاء صلاته -غير الصحيحة في ظنه- إذا كان واضع العلاج لا يؤمن بالصلاة أصلاً فضلاً عن أن يعرف الجائز فيها من المحرم؟!!
فلا بد إذاً من أخذ علاجه من الفقهاء الذين هم أدرى بأحكام الشريعة سواء منها ما يخص الصحيح والموسوس....
ثانيها: بيان سبق المسلمين في وصف الوسواس وتسميته، وفي وضع أسس الوقاية منه وعلاجه.
فأما التشخيص وأصول الوقاية والعلاج، فقد وضع أسسها النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما كان الصحابة يستشيرونه في وساوسهم. وقد بنى العلماء سائر أحكام الوسواس القهري على تلك النصوص الواردة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، ثم على ما ورد عن الصحابة والتابعين من بعدهم.... (وسيتضح هذا من خلال المقالات الآتية إن شاء الله تعالى).
وأما التسمية -فمن الجدير بالذكر-أن المالكية سموا المريض الموسوس باسم مماثل في معناه للاسم العلمي اليوم، وقد ورد عند العلامة المالكي خليل بن إسحاق (ت: 776هـ=1374م) في كتابه "مختصر خليل" أن الوضوء ينتقض (عندهم دون باقي المذاهب) (....بشكٍ في حَدَثٍ بعد طُهْرٍ عُلِمَ، إلا المستنكِح [أي لا ينتقض وضوؤه بالشك بالحدث بعد الوضوء حتى عندهم خلافاً لغيره]..). [ج1/ص198]
فلفظ المستنكِح في اللغة يعني: المغلوب، جاء في "المعجم الوسيط": (اسْتَنْكَحَ النُّعاسُ عينَه: غَلَبَها).[مادة: نكح]
وفي التسمية الحديثة المستخدمة اليوم في الأوساط الطبية (الوسواس القهري) تأكيد على معنى الغلبة (قَهْرُ الوسواس للمريض).
وأما عبارة [الوسواس القهري] فقد ذكرها الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي (909-974هـ=1504-1567م) في كتابه "تحفة المحتاج بشرح المنهاج" عندما تكلم عن العَذَبة (قطعة القماش التي تنزل من آخر العمامة) فذكر أن أصل فعلها سنة ثم تكلم على الذي يخاف أن يرائي بها إن فعلها فقال: (ولو خشي من إرسالها نحوَ خُيلاء [أي كبر وفخر] لم يُؤمَرْ بتركِها -خلافاً لمن زعمه-، بل يفعلُها، وبمجاهدةِ نفسِه في إزالةِ نحوِ الخيلاءِ منها، فإن عَجَزَ [أي عن طرد وساوس خوف الفخر والرياء من نفسه]لم يضرَّ حينئذٍ خُطورُ نحوِ رياءٍ [يعني وروده على ذهنه]؛ لأنه قهريٌ عليه فلا يُكلَّف به كسائرِ الوساوسِ القهريّة، غايةُ ما يكلفُ بهِ أنّه لا يسترسل مع نفسه فيها بل يشتغل بغيرها ثم لا يضرّه ما طرأَ قهراً عليه بعد ذلك.......). [ج1/ص372]
وكذلك زين العابدين المليباري (ت:986هـ=1579م) -وهو فقيه شافعي أيضاً- ذكر في كتابه "فتح المعين" لفظ الوسواس القهري فقال: (..(تبطل الصلاة) فرضُها ونفلُها .....(بِنيَّة قطعها).......(وتَرَدُّدٍ فيه) أي القطع، ولا مؤاخذة بوسواس قهري في الصلاة [ أي لا تبطل الصلاة به]......). [ج1/ص343]
وسيأتي شرح هذه النصوص في مواضعها، غير أن مكان الشاهد هنا: تسمية الفقهاء للمرض -في القرن السادس عشر الميلادي- باسمه المعروف اليوم علمياً. بينما تذكر المراجع الغربية أن أول من ذكر الوسواس القهري في الطب النفسي هو الألماني كارل فيستفال Carl Westphal سنة: 1878م . [انظر: تاريخ اضطراب الوسواس القهري د.وائل أبو هندي].
وقد استفاض الدكتور مصطفى السعدني -في مقالاته في هذا الموقع عن تاريخ اضطراب الوسواس القهري- في إيضاح سبق المسلمين في معرفة الوسواس القهري وعلاجه معرفياً ودوائياً، فليرجع لتلك المقالات. (من أولها - لآخرها)
ثالثها: أن الفقهاء المسلمين إنما أخذوا منهجهم -في التعامل مع الوسواس القهري- من خالق البشر، العالم بنفوسهم وأمراضهم...، وهذا يجعلنا نوقن أن ما يأتون به هو الدواء الناجح لهذا المرض، وكل صانع أعلم بما صنع...، يستثنى من ذلك الأحكام التي ذكرها الفقهاء معتمدين فيها على المعلومات الطبية في زمانهم، فإنه يُنظر في تلك المعلومات، فإن وافقت المعطيات الطبية الثابتة حديثاً، أُخذت أحكامهم كما هي، وإن لم توافقها _أو لم يبحثوا في المسألة أصلاً-، نُظِر إلى القواعد الشرعية التي اعتمدوها في وضع الأحكام واستنباطها، ثم طُبِّقت على معطيات العلم الحديث ليُعرَفَ منها الحكم المناسب في الحادثة الطبية التي يُبحث فيها....
رابعها: أنه يجب على الطبيب المعالج معرفة ما يلزمه من أحكام تتعلق باختصاصه، ومعرفة ما يجوز العلاج به وما لا يجوز في كل حالة...
وكذلك يجب على المريض معرفة ما يتعلق بمرضه وعلاجه.....
مثل ما أنه يجب على التاجر تعلم أحكام البيع والشراء، وعلى الغني تعلم أحكام الزكاة دون الفقير، وعلى المعلم تعلم أحكام التربية والتعليم وما يتعلق بها، وهكذا......
قال النفراوي المالكي في "الفواكه الدواني" : (لا يجوز لأحد أن يُقْدِم على أمر حتى يَعْلَم حكم الله فيه) [ج2/ص272]، أي أنه يأثم إن عمل دون علم.
وهذا البحث يبين الأحكام الشرعية المتعلقة بالوسواس القهري، ويصوغها بشكل يظهر روح الشريعة، ليكون عوناً للطبيب والمريض في التعامل مع الوساوس القهرية، ولتكون العملية العلاجية مصدراً للثواب لكلا الطرفين....
* ويضيف د.وائل أبو هندي الأخت المستشارة الفاضلة رفيف الصباغ أتفق مع وأشعر بالزهو أيضًا بما جاء في سطورك هذا أنه ينشر على موقعنا مجانين وأشعر أنها بداية ما حلمت به أنا والسعدني ومحمد شريف سالم وغيرنا ممن نعرفهم ومن لا نعرفهم، فقط لا أقصر الدعوة هنا على الفقهاء بل أنا في الأساس أوجهها للأطباء وللعاملين في المجال النفسي في نفس الوقت أن ابحثوا في تراث فقهائكم وتعلموا أحكام الفقه الإسلامي وطرق القياس والاستنباط فيه إذا أردتم أن تحسنوا علاج مرضاكم خاصة بالوسواس القهري والاضطرابات الواقعة في نطاقه..... أشكرك يا رفيف وأسأل الله لك خير الجزاء وللجميع فائدة تفيض على مجانين.
المراجع:
تحفة المحتاج بشرح المنهاج: ابن حجر الهيتمي: دار الكتب العلمية-بيروت:2005م. ضبطه: عبد الله عمر.
صحيح البخاري: دار العلوم الإنسانية-دمشق: 1993م، تحقيق د.مصطفى البغا.
صحيح مسلم: دار ابن حزم-بيروت:1995م.
فتح المعين لشرح قرة العَين بمهمات الدين (مع حاشية إعانة الطالبين): دار الفكر-بيروت: 1998م.
الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: أحمد بن غنيم النفراوي المالكي: دار الفكر-بيروت: 2008م.
مختصر خليل (مع الشرح الكبير وحاشية الدسوقي): خليل ابن إسحاق: دار الفكر-بيروت: 2005م.
المعجم الوسيط: أحمد حسن الزيات وآخرون: مكتبة النوري-دمشق: الطبعة الثالثة.
ويتبع ............: منهج الفقهاء في التعامل مع الوسواس القهري (2)
واقرأ أيضاً:
اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية / هل هناكَ أنواعٌ من اضطراب الوسواس القهري؟ / هل اضطراب الوسواس القهري اضطرابٌ نادر؟ / الاستبصار واضطرابُ الوسواس القهريِّ