فخ الشات
مشكلتي ربما لا تكون مشكلة بالمعنى المفهوم، أنا فتاة ملتزمة، يعلم الله -عز وجل- أني كنت أحاول أن أفرغ قلبي من كل شيء سوى الله -عز وجل- وخاصة أني أعمل في مجال الدعوة، ولكني وقعت في فخ "الشات" كنت في البداية أتجنب استخدامه، ولكني وجدت أنه وسيلة لا بأس بها للتسلية وخاصة أن وقتي ممتلئ بأشياء كثيرة، وأنت تعرف كيف تتم هذه الأمور.
تعرفت على شاب من نفس البلد، وللأسف حدث ذلك في فترة كانت "إيمانياتي" في الحضيض، وتحدثت للأسف معه عبر الهاتف ولا تتصور كمّ الاحتقار الذي أكنه لنفسي، وخاصة أنك تعلم أن الفتاة التي لا تكون لها أي علاقات سابقة تتعلق بسهولة، إنني الآن أشعر أنني أهنت نفسي، وخنت عهدًا بيني وبين الله -عز وجل-
وأعتقد أني إذا تقدم إلي ملتزم وقبلته؛ فسيكون ذلك ظلم له،
وأشعر أني لست أهلًا لتبليغ دعوة الله –عز وجل-
وأخشى أن أحاول الاتصال به مرة أخرى فماذا أفعل؟
أرجوكم خذوا بيدي وساعدوني
19/12/2021
رد المستشار
أختي الكريمة، أود أن أبدأ بملاحظة منهجية يهمني أن أثبتها هنا بمناسبة سؤالك.
هذه الملاحظة تتعلق بخلط كبير يقع فيه بعض الملتزمين، أو لنقل الملتزمات بالدين حين يتداخل في أفهامهن حب الله مع حب البشر، وهو خلل وخطأ كبير في التصور والاعتقاد، فأين الله؟ وأين البشر؟! ومبحث الحب كله في حالة إلى معالجة متعمقة، وأنا هنا أختصر لك جدًّا.
يا أختي، تفريغ القلب من كل شيء سوى الله يعني ألا يغلب الإنسان شيئًا يحرفه عن طاعة المولى عز وجل، وفي الحديث الشريف: "ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان.. وذكر: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" فدل ذلك أن الإنسان المؤمن يحب الزوجة والأبناء، ويحب الوطن، ويحب الحياة الطيبة، والموت الشريف، لكنه يحب كل هذا في سبيل الله، ولا يكون عبداً إلا لله، ولا يكون ذلك إلا بكونه أشد حباً لله.. هذا من ناحية الدرجة، أما من ناحية النوع فإن حب لله سبحانه هو حب التعظيم والتقديس والعبادة، وليس حب تبادل المشاعر والمصالح والعواطف، وليس حب التراحم وطلب التواصل المادي.. إلخ فأين الله، وأين البشر.. يا أختي؟ تعالى الله علواً كبيراً.
إذن من الطبيعي أن يكون في قلبك أنواع من الحب متنوعة ومتدرجة، عند المؤمن فإنه لا تعارض، ولكنه تكامل واتساق، وارتباط بين أنواع الحب جميعاً، وبين أصل المحبة الذي هو المولى عز وجل. الظن بتعارض حب الله مع حب البشر هو اختراق يدخل إلى عقيدة الإسلام من رهبانية النصارى الذين يرون تعارضاً بين السمو في حب الله والتفرغ له، وبين الدنس في حب البشر والارتباط بهم، ولا رهبانية في الإسلام، والجهاد بأنواعه هو رهبانية هذه الأمة.
لعل رسول الله – قدوتنا وأسوتنا – أراد أن يفرغ قلبه لله سبحانه بالمعنى المرفوض فأراد الله له كمالاً متكاملاً حين حبب إليه الطيب والنساء كما قال المصطفى في حديثه: "حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة" وقال للنفر الذين قرروا بعض "معالم الرهبنة على أنفسهم، حين سمع عن ذلك: "ألا إني أتقاكم لله وأخشاكم له... أما إنني أصوم وأفطر، وأقوم وأركض، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"، صلوات ربي عليك يا سيدي يا رسول الله، يا من علمت الإنسان كيف تكون الحياة طاهرة ومتوازنة، فلا تصادم بين الروح والجسد، ولا تعارض بين عبادة الله وعمارة الأرض، ولا تنافر بين الدنيا والآخرة إلا عند من اتبع هواه، وأعرض عن ذكر الله.
يا أختي، في مناخ تصنعه تصورات مغلوطة مثل هذه، وممارسات مختلة مثل: اللاعلاقة تنمو الأخطاء وتترعرع، ويدخل الشيطان بأساليب شتى، وهو الذي قال لأحدهم: "أدخل للناس من الشهوات والشبهات" ، فلو زالت الشبهات عن الفكر بالعلم، وانضبطت الشهوات بالشرع لما كان للشيطان على الإنسان من سبيل، وإن ظل يوسوس.
ولذلك فإن العالم أشد على الشيطان من ألف عابد إذن يا أختي لا تعارض بين إيمانك وحبك لله سبحانه، ورسوله الكريم -صلى الله عليه وسلم- وبين ميلك للرجال، هذا الميل الذي ركبه الله في النفوس لتنصلح الحياة، وتعمر الأرض، وعماد ذلك الزواج القائم على الحب.
هذا هو الأصل الذي اختلطت عليك معالمه فكان الطريق ممهداً لتقعي فيما وقعت فيه.
وكلها حبال للشيطان يدخل عليك بشبهة تعارض حب الله مع حب سواه، ثم حين تقعين في المحظور - كما تقع الفريسة في الفخ - يقبل عليك بندم زائف ومضمونه خطير، فهو يعني جلد الذات وتحقيرها، وعدم استحقاقها لتكون من الدعاة إلى الله، والحل الذي يطرحه الشيطان عند ذلك هو الابتعاد عن الدعوة وعن الصالحين وعن طريق الله، بل وعدم جواز الارتباط بملتزم بعد الوقوع في المعصية!!
إنها لعبته القديمة التي سجلها القرآن حين قال: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين" !! هذا هو منطق الشيطان.. بينما الأمر واضح ، فليس الملتزم معصوماً من الخطأ، وليس الداعية ملاكاً لا تجوز عليه بعض النقائص. إنما الملتزم بشر يصيب ويخطئ، ويزل ويستغفر وإذا حدث وأخطأ عاد لله وتاب وأناب، لا ينساق وراء الشيطان حين تكون الشبهة هي التهوين من شأن المعصية لتبرير تكرارها أو ارتكاب غيرها، كما لا ينساق حين تكون الشبهة هي قصم الظهر بتكبير الخطأ وتضخيمه، ليكون ذلك مقدمة لليأس والقنوط من رحمة الله.
نعم يا أختي وقعت في الخطأ والأخطر من ذلك أن تتورطي أكثر في السبيل نفسها، والأخطر مطلقاً أن ينجح الشيطان في إيقاعك في فخ الخروج عن مدارك الذي ارتضيته لنفسك بالالتزام، والانشغال بمساعدة الناس على سلوك الطريق القويم، وهو يخرجك عن هذا المدار والاختيار بشبهة أن الداعية لا ينبغي أن يخطئ، مع إنه "كل ابن خطاء وخير الخطائين التوابون"، ودون تهوين من شأن الخطأ أو تهويل له ينبغي عليك أن تعتبري هذه خبرة لك على طريقك فتكوني أرفق بالمخطئ، وأحكم في علاج جرحى مقاومة الشيطان بالمواساة والعون، والتفهم لما لهم أكثر.
مصاحبة ذوات الاهتمام المشترك ممن رجح عقلهن، واستقامت سيرتهن تفيدك، والندم الإيجابي الذي يشبه النار حين تصهر الحديد أو الذهب فيتطهر من الشوائب، هذا الندم ينفعك.
والثقة بالله، وما يتفرع عنها من الثقة بالنفس هي سبيلك لعدم معاودة الخطأ، والتسلية بما هو نافع وممتع، وفهم الحياة والطبيعة الإنسانية بعمق أجدى لك من الظنون الفاسدة عن إنسان مثالي وهمي باسم فراغ القلب أو فراغ الوقت لنشاط واحد، ولو كان الدعوة إلى الله.
في الحياة أنشطة متعددة فتعلمي هذا وذاك واجتهدي أن تجعلي كل الأنشطة طاعة لله وفي سبيله لا تنكري رغباتك المشروعة - في الحب والزواج - فتغلبك من طرق غير مشروعة، واعرفي أن الحب الصادق الجاد هو علاقة حقيقية لا تقوم عبر الشات، أو الهاتف، ولا تصلح في السر بعيدًا عن العيون، ولكنها مثل النبات الذي يحتاج للماء والشمس لينمو، واعلمي أن البديل لهذا الحب - الذي سيأتي يومه في حياتك بقدر الله - هو نباتات الظل، وهي كائنات عقيمة لا تعطي ثماراً، وتموت إذا خرجت للنور، إياك أن يتلاعب بك الشيطان فتعودي للاتصال بهذا الشاب، وإياك أن يصطادك بفخ القنوط من رحمة الله وتوبته، وقابلي الحياة بعقل أكثر وعياً، وروح أكثر تطهراً مما صقلته نيران التجربة.