لعل المشكلة التي سأقوم بطرحها عبر موقعكم المميز مشكلة جديدة، فلا هي عاطفية ولا هي اجتماعية، وهي تحمل مفارقات عجيبة طريفة في حياتنا اليومية يعاني منها الشباب الطموحون الباحثون عن التميز، ومشكلتي بالمختصر المفيد صراع بين المادة من جهة والمعرفة والخبرة العملية من جهة أخرى، حيث تخرجت قبل سنوات بدرجة البكالوريس في إدارة الأعمال وكنت أبحث عن عمل مميز أستطيع من خلاله الحصول على الخبرة أولا ومن ثم العائد المادي الجيد، والحمد لله وُفقت لعمل؛ حيث حصلت على العائد المادي الجيد لكنني لم أحصل على المعرفة والخبرة التي أريد، حيث كان عملي روتينيا بحتا ولم يكن به أي نوع من الاحتكاك الفعال بأصحاب الخبرة، وصرت أقضي وقتي في العمل مكررا نفسي؛ حيث تمضي أحيانا ساعات أقضيها على الإنترنت دون أي فائدة تذكر ودون القيام بعمل مفيد حيث إن الواجبات المطلوبة مني بسيطة ومكررة ولا يوجد بها أي نوع من التحدي ولا تحمل أي جديد.
ومنصبي بالشركة لن يؤهلني لمستويات إدارية أعلى لا على المدى القريب أو البعيد، وهنا وقعت في حيرة؛ حيث لدي التزامات مادية عديدة، ومن جهة أخرى أريد أن أتقدم لمستويات إدارية أعلى ولمناصب أرقى من المنصب الذي أعمل فيه لثقتي بمؤهلاتي ولأنني بطبعي طموح وأعشق التحدي والإنجاز.
ثم حاولت مجددا الحصول على وظيفة أخرى لعلي أجد فيها ما لم أجده في وظيفتي الأولى والحمد لله حصلت على وظيفة (ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب) وقرأت الواجبات المطلوبة مني والتي يمكن أن أقوم بها من خلال هذه الوظيفة حيث رضيت أن أحصل على عائد مادي أقل مقابل الخبرة التي يمكن أن أحصل عليها والاحتكاك المفيد مع صناع القرار وأصحاب الباع الطويل بالعمل.
إلا أنني لم أحصل لا على هذه ولا على تلك، وصرت أدور في حلقة مفرغة، وتكررت القصة القديمة معي؛ حيث ساعات من الفراغ أقضيها بالعمل ومرت علي السنوات وأنا أحترق من الداخل وأشعر أن داخلي ماردًا بدأ بالتململ منذ زمن بعيد ويريد أن يخرج وينفس عن غضبه بالعمل والإنجاز، إلا أنه لم يجد بعد المكان المناسب لذلك، وقلت لنفسي لماذا لا تأخذ بعض الدورات المفيدة التي تعطيك المعرفة وتزيد من مؤهلاتك.
وفعلا حصلت على عدد من الدورات في مجال تخصصي لكن أين المكان الذي أطبق فيه تلك المهارات وتلك الدورات؟! وما الفائدة من تعدد ورش العمل والدورات دون وجود التطبيق العملي لها على أرض الواقع؟ وهي على فكرة واحدة من المشاكل الشائعة والتي أصبحت تعتبر موضة أيضا بين الشباب؛ حيث يتباهى كل فرد بأنه أخذ دورات أكثر دون أن يفكر في طريقة لتطبيق تلك الدورات عمليا.
ثم سافرت للخليج وحصلت على عمل جيد حيث العائد المادي الجيد جدا ولكن طبيعة عملي وبعد مرور ثلاث سنوات على عملي هناك اكتشفت أنها لن تؤهلني مستقبلا للوصول إلى مستويات إدارية أرقى، مع العلم بأنني بادرت أكثر من مرة مديريَّ السابقين والحاليين بالشركات التي عملت بها للحصول على واجبات أكثر وعلى مسئوليات أهم حتى أعطي انطباعا للمدير برغبتي في التقدم والإنجاز وقدرتي على تحمل المسؤولية.
إلا أنني كنت أواجه بالمبالاة وبأنني أجيد العمل الذي أقوم به حاليا ولا داعي لتسليمي مزيدا من المسئوليات، ومشكلتي في الحقيقة والتي اكتشفت أنها يعاني منها العديد من الشباب الذين لديهم طموحات ورغبة في تحقيق الذات لكن في أحيان كثيرة لا يجدون المكان أو الموقع المناسب ليطبقوا فيه ما تعلموه وما درسوه في جامعاتهم ولا يجدون أيضا الصلاحيات في مواقعهم وفي أعمالهم لتحقيق أفكارهم... وبعضهم وتحت وطأة المادة وتكاليف المعيشة المرهقة يضطر للتخلي عن أحلامه بالمنصب والموقع الوظيفي الجيد والخبرة المميزة مقابل الحصول على وظيفة بمستوى إداري أقل مقابل عائد مادي مناسب.
وأنا أشاهد هؤلاء يوميا بموقع عملي، مع أنهم من الأوائل على تخصصاتهم ومن النابغين فكريا وحتى في طريقة أدائهم لواجباتهم، كيف يمكن لي وللعديد من الشباب الطموحين المتعطشين للإنجاز أن يصلوا إلى المكان المناسب الذي يمكنهم فيه أن يحققوا الرضا بين ما يقدمونه في حياتهم وبين ما يحصلون عليه وبين ما يستحقونه فعلا؟! مع تحياتي
28/3/2024
رد المستشار
أخي الحبيب "فارس" .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
عظيم أن تحمل في نفسك كل هذا الطموح، وكل هذه الرغبة في النمو ولا ترضى بالوظيفة الروتينية التي تدر عليك دخلا جيدا، وواضح أن لديك همة عالية ورغبة في الإنجاز المتميز، ولكنك تعاني من أن منظومات العمل التي توجد فيها لا تسمح لك بهذا.. فلديهم حساباتهم ورؤاهم التي ربما لا تتفق مع ما تريده أنت.
ونحن لا نستطيع أن نلومهم أو أن نغير حساباتهم لمصلحة نموك الشخصي أو المهني، وأخشى ما أخشاه أن تمر السنون وأنت تقول لنفسك: لقد رغبت في التطور وسعيت ولكن الأبواب مغلقة. أو: إنني أحتاج لراتب الوظيفة لذلك سأستمر بها وأضحي بأحلامي في التطور والتفوق والتميز.
كل هذه أعذار غير مقبولة، بل ربما تكون وسائل دفاعية نتستر بها دون أن ندري حتى لا نتحمل مسؤوليات ومصاعب النمو والتطور. وسأضرب لك بعض الأمثلة تبين أن من لديه رغبة في تطوير نفسه وعمل شيء عظيم فلن توقفه أي ظروف:
فهذا رجل حكموا عليه بالسجن مدى الحياة، ولم يكن له علاقة بالعالم الخارجي غير نافذة صغيرة تقف عليها أنواع من الطيور تأتي من الغابات المجاورة للسجن؛ فعكف هذا السجين على ملاحظة سلوك هذه الأنواع من الطيور وكتب عنها موسوعة مفصلة أصبحت مرجعًا مهمًّا للعلماء.
وها هو العالم النفساني فيكتور فرانكل يتعرض لتجربة السجن والتعذيب في معسكرات النازي فيخرج منها بنظرية العلاج بالمعنى، وذاك نجيب محفوظ يعمل موظفا في وظائف روتينية، ولكنه يشغل وقت فراغه بالقراءة والتأمل والكتابة فيصل إلى جائزة نوبل في الأدب.
وفي تاريخنا الإسلامي نماذج مشرفة أذكر منها بلال بن رباح رضي الله عنه، حيث كان عبدا لدى أمية بن خلف ومع هذا لم يوقفه هذا الأمر عن أن يمارس إرادته وحريته في اختيار الدين الذي ارتضاه، وأن يتحمل كل الأذى في سبيل ذلك وأن يدخل التاريخ الإنساني بجوانب العظمة والصمود التي اشتهر بها.
إذن فلا عذر أمامك للتوقف، بل يمكنك أن تفعل شيئا موازيا لوظيفتك، فتمارس عملا إضافيا أو هواية مفيدة تجد فيها نفسك وتكتشف مواهبك، وحين يترسخ هذا البديل تستطيع أن تترك العمل الروتيني الذي ارتبطت به من أجل لقمة العيش إلى عمل آخر تحقق فيه ذاتك، وقد أعطى العصر الحديث فرصا هائلة للدراسة عن بُعد وللكتابة والتواصل بكل مكان في العالم؛ فيمكنك أن تستغل ساعات فراغك من العمل في أشياء مبتكرة موافقة لمواهبك وميولك. أما الدورات التي يأخذها الكثير من الشباب لمجرد التباهي أو لوضعها في سيرتهم الذاتية فهي بهذا الشكل لا تصنع نجاحا حقيقيا.
لا تتوقف عن محاولاتك لتحقيق أشياء عظيمة لك ولوطنك ولأمتك وستجد آلاف الطرق مفتوحة حتى وأنت تمارس وظيفتك الروتينية التي تغطي احتياجاتك المادية، ففي الحياة متسع لمن أراد.
وفي النهاية .. اجعل رغبتك في التطور نشطة طول الوقت، بحيث إنه كلما حانت فرصة للتغيير كنت جاهزا لها دون خوف من تبعات النمو.