أستسمحكم في البداية عن هذا الإطناب في عرض مشكلتي.. أنا فتاة أبلغ من العمر 29 سنة؛ وهبني الله فضلا منه ومنة قدرًا من الجمال، ولدت ونشأت في عائلة محافظة والحمد لله، وأحظى بحظ وافر من الحب والاهتمام والاحترام من جميع ممن يحيطون بي.. توفي أبي -رحمه الله- قبل نحو عامين، ثم أختي الكبرى -رحمها الله- التي كانت سندنا بعد الله ثم أبي، قبل ثمانية أشهر، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.
أما عن تكويني فأنا متحصلة على شهادة جامعية عليا، وأحسبني بإذن الله -ولا أزكي نفسي على الله- متدينة، وأدعو الله دائما أن يحفظ علي ديني وحيائي وحجابي؛ كما أعطي دروسا دينية في مسجد الجـامعة، وأدرس كذلك بنفس الجـامعة.
مشكلتي..، هي ربما خـواطر وأحاديث نفس أكثر منها مشكـلة.. ككل فتاة متدينة، كنت دائما أرغب في الزواج من شخص متدين، لست أقصد بالضرورة أن يكون ملتحيا ـبرغم أنها سنة واجبة قد يعوق الإتيان بها ظروف معينةـ ولكن على الأقل شخصا تظهر عليه سمات التدين، إنسانا حسن الخلق والخلق، حسن العشرة، طيبا ودودا محترما، ولم لا حافـظًا للـقرآن الـكريـم، أعيش معه على طاعة الله وننشئ أسرة إسلامية هـنيـئة كما يحبها الله عز وجل.
تقدم لي الكثير منذ سن مبكرة، في البداية كنت أرفض الزواج؛ لأنه لم تكن لي دراية بأمور الزواج، وأصلا كنت في سنواتي الأولى في الجامعة، ثم لما صرت أكثر نضجا أصبحت لي مبادئ أسير عليها، صرت أرفض من يتقدم لي إما لأنه لا يصلي أو لأنه يدخن أو لا يعمل.. لست مبالغة إن قلت إنني لم أرفض أحدا إلا ولي فيه عذر شرعي، وذلك طبعا بعد الاستخارة والاستشارة.
والآن تقدم لخطبتي شاب درس معي في السنتين الأخيرتين من مرحلة التدرج ثم في مرحلة ما بعد التدرج، والآن هو معي في نفس المخبر الذي أنا فيه، لكن طوال تلك الفترة لم أتكلم أبدا معه بسبب تديني من جهة، ومن جهة أخرى لأنني كنت أتضايق منه كثيرا خاصة في مرحلة التدرج؛ لأنه كان يلاحقني بنظراته أينما ذهبت، حتى أنني كنت أضطر للاختباء وراء زميلاتي في القسم اتقاء لنظراته تلك، وكان يحاول خاصة في سنة التخرج أن يستجلب الأسباب ليكلمني.
وبقيت على تلك الحال إلى أن طلبت من أحد زملائي، والذي كنت أثق في دينه وكان يلازمه دائما أن يطلب منه ألا يكلمني.. وكان ذلك، فلم يحاول أبدا أن يكلمني بعدها.. وقبل حوالي ثمانية أشهر، طلب من إحدى زميلاتي المقربات، والتي كانت تدرس معنا كذلك، أن تخبرني أنه يريد أن يبعث أهله لخطبتي، إلا أن صديقـتي تلك لم تخبرني بالأمر لعلمها بأنني كنت أتضايق منه وأخبرته بأنني مخطوبة -ولم يكن ذلك صحيحا طبعا-، وقبل حوالي شهر، أرسل إلي صديقة مقربة أخرى، وكانت أيضا تدرس معنا، للأمر نفسه لأنه شك في كلام صديقـتي الأولى.
ما دفعه لطرح الأمر من جديد، هو إحساسه بنوع من اللين في تعاملي معه -حسب قوله- وذلك أنه بعد وفاة أختي الكبرى -رحمها الله- جاء ليعزيني فـقـبلت تعزيته، وهل كان بإمكاني فعل غير ذلك...، ومنذ ذلك اليوم لم يكن بيننا سوى السلام إذا دخلت المخبر أو التقيت به في المعهد.. لذلك تشجع وعرض الأمر من جديد.
والحق، أنه منذ أن التحق بالمخبر الذي أدرس فيه، وذلك قبل حوالي عام، لم أعد أحس بوقع نظراته كما في السابق، وشعرت أنه قد حصل له نوع من التغيير نحو الأحسن، حتى رفقاؤه الذين يلازمهم، درسوا معي، وهم شباب على أدب وخلق حسن، على الأقل هذا ما تبين لي منهم طيلة السنوات الأربع التي درسناها معا.
وكان قد أخبر صديقتي الثانية أنه كان يصطنع الأسباب ليكلمني في مرحلة التدرج من أجل أن يتعرف على طريقة تفكيري -حسب قوله- وكان يريد خطبتي في تلك الفترة، إلا أنه لم يجد الفرصة المناسبة لفعل ذلك وكذلك لعلمه أنني كنت سأرفضه حتما.. وهذا صحيح، فلو فعل ذلك وقتها لرفضته مباشرة.
أما عن علاقته بالتدين ـ وهذا هو بيت القصيد ـ فيظهر لي أنه شخص عادي، أخبر صديقتي الثانية أنه يصلي في المسجد، أما عن صلاة الفجر.. فهو ليس ينهض دائما لصلاتها، إذا وجد من يوقظه ينهض ويذهب ليصلي قي المسجد، وإلا.. ـ أليس هذا من قـلة اعتنائه واهتمامه بدينه، فلو كان يريد حقا صلاتها في وقتها لأتخذ الأسباب..ـ، أما عن الأمور الأخرى فلست أعلم بعد عنها شيئا.. وهو إنما يريد زوجة تعينه على أمر دينه ـ حسب قوله.
استخرت الله عز وجل، وكلمت أهلي عنه، لإعطائه موعدا لزيارتنا في بيتنا لأكلمه في حضور أخي.. وبعد أن كلمته ما زلت أشعر بنوع من التردد..، كل ما كنت أطلبه منه كان يجيب بأنه ليس معارضًا، وألا مشكلة بالنسبة إليه، وأنه اختارني أنا وليس غيري.. ويعرف جيدا لماذا اختارني؛ هو لم يتكلم كثيرا.. وكان ينتظرني في كل مرة أنا أسأله فيجيب.. ما أنكره على نفسي.. أننـي كيف أعطي فرصة لشخص كنت أتضايق منه بشدة.. بـسبب أخلاقه.. هو ليس بالشخص الملتزم الذي طالما تمنيته، فكيف تنازلت عن ذلك؟؟!! كثيرا ما أتساءل.. هل حقا تغير لله، أم يتظاهر بذلك ليلفـت انتباهي؟
ينتابني من حين لآخر شعور جامح بأنني أستحق شخصا خيرا منه... خاصة من حيث الشخصية، وأحس أنه ليس الشخص المناسب الذي يرضي طموحي... ومن جانب آخر، أحيانا أقول في نفسي، برغم كل الصدود الذي كنت أصده من تأفف وتذمر وعبوس، إلا أنه بقي مصرا علي، أليس هذا شيئا يحسب له؟ أحس أنه يحـترمني برغم كل شيء.. وهو مستعد لأن يتغير لو وجد من يعينه، ربما هو ليس سيئا إلى الدرجة التي تصورتها عنه، وكذلك، التكوين العلمي المشترك الذي تلقيناه يجعل لدينا نفس طريقة التفكير، مما يسهل علي كثيرا من الأمور التي أخشاها من حيث صعوبة التأقلم مع من لا يوافقني من حيث طريقة التفكير.
أرشدوني بارك الله فيكم، فلست أريد أن أظلمه معي أو أن أظلم نفسي، وعـذرا مرة أخرى على هذه الإطالة.
سامحوني، فالله وحده يعلم حاجتي وشدة خوفي من أن أسيء الاختيار، فـتضيع حـياتي وأهدافي.
ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته.
الراجية رضا ربها.. تسـنيــــــــم..
17/7/2024
رد المستشار
ابنتي،
يولد كل منا وهو لا يطلب من الدنيا أكثر من ثدي أمه يلتقمه فيشبع ويهنأ ويرتوي ويشعر بسعادة وسلام مع نفسه فينام قرير العين هادئ البال، ثم كلما مرت به السنوات تمرد على ما يحصل عليه ويتوق لغيره بحجة أن غيره هو الأفضل، هو الأحسن، أو بحجة أنه يستحق هذا الـ "غير" لصفة فيه أو قوة أو مميزات، وحين يمتد العمر، ويضاف إليه العلم والخبرة يصل الإنسان إلى مرحلة يصعب فيها إرضاؤه أو إشباعه، وتتكون قناعة قوية بداخله جدا أنه مختلف، وأن العناية الإلهية ترعاه؛ لأنه يستحق الكثير والكثير، علاوة على إيمانه الكبير بقدراته التي يستطيع بها أن يعيد تشكيل الواقع وتعديل مساره،
ثم يمتد العمر أكثر ويبدأ منحنى الشباب في الانزلاق نحو الشيخوخة، فيتعرف الإنسان على قيمة الأشياء، على حقيقتها، ببساطة شديدة لأنه اختبرها كلها، فيتأكد تماما أن كوب اللبن يظل دائما كافيا، وأن كل ماعدا ذلك يمكن الاستغناء عنه أو يستغنى هو عنك ولن يحدث ذلك فارقا كبيرا.. من حقك، كما هو من حق كل البنات أن تتمنى زوجا متدينا يحفظ الله فيها، ولا مانع أن يربيا معا جيل صلاح الدين والنصر المرتقب، إضافة إلى كونه وسيما أو مقبولا كما وصفته بكل وضوح: إنسانا حسن الخلق والخلق، حسن العشرة، طيبا ودودا محترما، ولم لا يكون حافـظا للـقرآن الـكريـم، أعيش معه على طاعة الله وننشئ أسرة إسلامية هـنيـئة كما يحبها الله عز وجل،
ولكن هل كل ما يتمناه المرء يدركه؟، لا،
وهذه الـ "لا" هي أصعب ما في القضية، فأنت عمرك يا ابنتي بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين، هنا قمة الإحساس بالذات وبالقدرات وبالطموح، فلا يمكن أن تفهمي لماذا لا يمكن الحصول على مطالبك وهى عادية وبسيطة بل وعادلة؟
نعم يا ابنتي ببساطة؛ لأنك لا تشتريها من السوبر ماركت، ولن تقومي بفرز رجال العالم لتحصلي عليها كما يمكن أن تفعلي في محل أقمشة أو ملابس،
قد يوجد هذا الشخص الذي يحمل كل ما تتمنينه، ولكن من قال إنه سيتمناك؟ من قال إنه قريب المنال؟ من قال إنه من نفس البلد أو العمر أو المستوى الاجتماعي والثقافي والفكري المناسبين؟
ملايين الأسباب تجعل من الاختيارات البشرية صعبة المنال، ولذلك كنت أقول لك إن الإنسان لا يرى ذلك إلا حين يقارب نهاية عمره،
لماذا كل هذه الفلسفة، ولماذا لا أدخل في صلب مشكلتك؟، لأن هذه هي مشكلتك، تريدينه أن يكون اختارك أنت وليس غيرك، أوليس هذا ما فعل، وصبر على جفوتك سنين، ماذا يستطيع هذا المسكين أن يقدم أكثر من ذلك ليثبت لك إنه أحب أخلاقك وتدينك وشخصيتك واختارك من بين كل الزميلات؟!!
تجدين نفسك تستحقين أفضل منه؟ بمعنى؟ أكثر تدينا؟ أكثر التزاما؟ أكثر حبا؟ على أي أساس أصدرت حكمك أنه ليس الأفضل في كل ذلك؟ من الذي أكد لك أن هذا الشاب الذي أعجب بك وتمسك بك وصمم على الارتباط بك فبدأ يبحث عما يجعله جديرا بك وفعله، فالتزم وتحسنت أخلاقه، من قال إنه لن يكون الأب الرائع لجيل من المسلمين الواعين القديرين حاملي راية الحق؟
إن قرار الزواج يحتاج استشارة، ويبدو أنها كانت في صفه بدليل موافقة أهلك عليه، واستخارة وهذه بيدك، ثم توافق ومشاعر بالرضا والسعادة والأمل في الغد، على شرط أن نمنح هذه المشاعر حرية الميلاد ولا نكبتها بالشعور بالتفوق أو العظمة أو التقدير المبالغ فيه للذات والتقدير الدوني للشريك،
افتحي قلبك بحرية وانظري إلى الرجل الذي اختارك وانتظرك وتحمل رفضك وتجاهلك بعين عادلة حكيمة.. وانسي نفسك تماما وكفي عن التفكير فيها، فأنت ستتزوجينه هو وليس نفسك، لأنك إن أردت نفسك شريكًا فلن يستطيع أي إنسان أن يكون كفئا أو ندًّا لها.