المشاركة الأولى:
فريق استشارات مجانين، يا من تنيرون الدروب المظلمة اسمحوا لي أن أبدي إعجابي بكم، مع أنه تغيظني أحيانا بعض ردودكم، ولكني بالإجمال من أشد المعجبين بكم؛ لدرجة أني أتصفح موقعكم يوميا حتى قبل أن أتصفح بريدي. بوركتم على جهودكم، وكم أتمنى أن أغرس كل القيم التي تنادون بها في أبنائي حتى لا ينشئوا معقدين نفسيا مثل معظم شعبنا.
قرأت رسالة الأخت التي تشكو عقدة الذنب في "على حافة الزنا: مقصلة التلبيس والأساطير" فأثارت في قلبي الشجون، وأوقدت في رأسي الأسئلة؛ فهلا وجدت شجوني أذنا مصغية منكم! وهلا وجدت أسئلتي إجابات شافية من حضرتكم!
منذ زمن ليس بالبعيد كنت فتاة ذات قلب غض لم يختبر الحب، وإنما كنت أخبئ كل مخزوني من المشاعر لشخص واحد أرتضيه زوجا لي، ولقلة خبرتي كأي فتاة عربية أفرغت هذا المخزون للشخص الخطأ. طبعا رأيته وقتها فارس أحلامي، وبرغم معارضة أهلي تشبثت به، وبدأت بتنفيذ ما علمتني إياه فاتن حمامة ومريم فخر الدين وغيرهما من أنه عليّ أن أحارب الدنيا لأصل إلى حبيبي ولو كان في ذلك قطع رقبتي.. كنت وما أزال أملك قلب مراهقة برغم أنني تعديت العشرين.
ويا ليتك كنت هنا يا دكتور أحمد تخبر أهلي بأن عليّ أن أخوض التجربة لأتعلم؛ لأنهم بممانعتهم الشديدة حولوني إلى ثائرة ومجاهدة في سبيل الحب وانقلبت لدي كل القيم، تكوّن لدي انطباع بأنني طرقت باب الحلال ولم أجد الجواب؛ لذلك لا عتب عليّ إن أنا سلكت طرقا ملتوية للقاء من أحبه قلبي حتى ولو اختلينا في شقته.
في فترة قصيرة لم أعد أعرف نفسي، أصبحت أفكر بطريقة غريبة لم أعهدها من عقلي الرزين سابقا، ورويدا رويدا فقدت كل الصلات مع نفسي، وأصبحت كمن يتابع فيلما على التلفاز ينفعل مع الأحداث ولكنه ليس طرفا فيها وليس لديه القدرة على تغيير مجراها. حمت حول الحمى كما قالت الأخت، ولكني لم أقع في الزنا مع أنني لا أنفي عن نفسي الخطيئة؛ فمقدمات الزنا لا تختلف عن فعله كثيرا وبالنهاية نيتي كانت سيئة؛ ولذلك أعتبر نفسي ارتكبت أكبر خطيئة في الوجود.
والمشكلة أنني لا أستطيع إلقاء اللوم على الشاب؛ فقد أتى تائبا بعد أول قبلة لنا، واعتذر، وطلب مني أن نتوقف عن اللقاء حتى لا يستغلني، ولكنني بكل جرأة أخبرته بأنني رغبت فيما فعلنا ولم يجبرني هو على شيء؛ بل لا أبالغ إن قلت بأنني أغويته في كل مرة كنا فيها معا، وجعلته يظن أنه البادئ والمسيطر، في حين كنت أنا أتحكم بكل الخيوط وأديره كيفما أشاء. عندما أتذكر كل هذا أحس بأنني أتحدث عن شخص آخر لا يمت لي بصلة؛ فأنا في نظر الجميع فتاة بريئة وطيبة القلب، وكنت كذلك أيضا في نظر نفسي قبل أن يسقط القناع وأرى شخصيتي الحقيقية ذات الوجه البشع من خلال علاقتي بذاك الشاب.
ما زال للقصة بقية؛ فقد وافق أهلي على زواجنا وتمت الخطبة، وسرعان ما اكتشفنا معا أن الحب الذي عاش في الأزقة العفنة احترق عندما واجه نور الشمس ولم يعد لدينا ما يربطنا فافترقنا.
بعد الفراق استيقظت فجأة، وشعرت بالصدمة الشديدة من أفعالي؛ فلم أتخيل أنني ارتكبت كل تلك الخطايا، وأصبحت أشمئز من نفسي، وكلما نظرت في المرآة سئمت من النظر إلى وجهي، حبست نفسي طويلا وبكيت طويلا؛ فقد كنت مصدومة في أقرب الناس لي أنا. من شدة كرهي لنفسي كنت أحيانا أضرب نفسي؛ كأن أضرب رأسي بالجدار، أو أصفع نفسي وأضرب أقدامي؛ حتى إنني حاولت مرة كسر رجلي ولكني لم أفلح، فضلا عن شتمي لنفسي بأقبح النعوت وإحساسي بأني حقيرة ولا أستحق الحياة.
حاولت الانتحار، ولكن بقية من إيمان منعتني، ويبدو أنني كنت أعاني من الاكتئاب، خصوصا أنه كانت تنتابني حالات ضحك هستيري ثم بكاء هستيري يمتد لساعات قد تتجاوز الثلاث ساعات من البكاء المتواصل.
عشت في عذاب رهيب ظنه الجميع رد فعل على فقدان حبي ولكنه كان في الحقيقة نتاج صدمتي في أخلاقي، بت لا أثق في نفسي، وأخاف الاقتراب من أي شاب حتى لا أغويه؛ حيث أصبحت أنظر لنفسي على أنني جرثومة متنقلة، ويجب حجرها عن باقي البشر حتى لا تؤذيهم، شعرت بالشفقة على أهلي؛ فما ذنبهم حتى أطعنهم في ظهرهم وأخون ثقتهم؟
وفي غمرة كل هذه المشاعر الغاضبة والإحساس بالدونية اقتربت من الله؛ استغفرته وتبت إليه، تحدثت معه في الوقت الذي لم أجد غيره ليسمعني، بثثته ألمي وشكواي وخوفي من عقابه، تضرعت إليه ليرحمني، ويبدو أنه استجاب لدعائي؛ فقد بدأت بالإحساس بالهدوء والتصالح مع نفسي، كما عدت نوعا ما اجتماعية ومحبوبة كما كنت، وبدأت أضع الماضي جانبا وأنطلق مرة أخرى للحياة.
ومما عزز في نفسي فكرة أن الله راض عني أنه بعث لي شابا رائعا أصبح الآن زوجي، وهو أكبر نعمة أنعم الله بها عليّ. ورغم أنني أحيانا أحس بأني لا أستحق كل هذه النعم، وأحس بتأنيب الضمير لما حدث في الماضي؛ فإنني أحس بأنني تخلصت من آلام الماضي وتقبلت فكرة أن كل بني آدم خطاءون.
يبدو أن مشكلتي تمركزت حول عقدة السوبرمان كما أسميها أنا؛ فالمجتمع لدينا يصنف البشر إما سوبرمان الكامل المواصفات الذي ينقذ العالم ولا يخطئ أبدا، وإما يصنفهم على أنهم الوحش الشرير الذي أتى للقضاء على البشرية. لا توجد منطقة وسطى في حكم المجتمع؛ أي لا وجود للإنسان الجيد حينا والسيئ حينا، عند أول خطأ يصنف الإنسان في قائمة الأشرار كما يحدث لخريجي السجون التائبين الذين يلفظهم المجتمع. هذه العقدة جعلتني أصدم عندما رأيت نفسي في خانة الأشرار، في حين كنت أظن نفسي سوبرمان، الآن أصبحت أرى المنطقة الوسطى ولم أعد أصنف الناس؛ ففي كل إنسان شيء جيد مهما ارتكب من شرور وخطايا. من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.
لا وجود للخير المطلق ولا وجود للشر المطلق، هذا ما تعلمته وأود تعليمه لأبنائي، ولكن هنا يبرز سؤالي: كيف.. كيف أعلم أبنائي التعامل مع أخطائهم وحماية أنفسهم من الوقوع في أخطاء أكبر؟ فأنا لم يعلمني أحد، كيف أحمي نفسي من شرور نفسي؟ ولم تكن أمي قريبة مني لتنصحني، كنت وحيدة ولا أريد لأبنائي هذا المصير. إذن أتمنى منكم أن ترشدوني للطريقة التي أعلم بها أبنائي حماية أنفسهم من الخطأ، ثم عدم اليأس عندما يخطئون، بل أريد أن يتعلموا من أخطائهم وألا يكرهوا أنفسهم كما حدث معي.
أريد أن يشب أبنائي صحيحين نفسيا وأقوياء قادرين على مغالبة أنفسهم عندما تأمرهم بالسوء، ثم أريد أن أعلمهم ألا ينظروا إلى البشر من منظار الصح والخطأ، بل أريدهم أن يقدروا ظروف الجميع ويؤمنوا بوجود الخير في قلوب الجميع.
أعتذر عن قلة خبرتي في التربية؛ فلم يقم بتربيتنا أحد على هذه المعاني؛ لذلك لا أعلم كيف أغرس هذه الأمور في نفوس أبنائي، أتمنى منكم المساعدة وأشكركم على رحابة صدركم؛ فقد أودعتكم سرا ظننت أنه ملاحقي إلى القبر، ولكني الآن أريد أن يسمع الجميع قصتي حتى لا يعاني أحد مثلي وحتى نربي أبناءنا بالطريقة الصحيحة التي تخولهم أن يعيشوا بلا عقد نفسية. أترككم في أمان الله وعسى أن ألقاكم في جنانه. والسلام عليكم ورحمة الله.
10/6/2024
المشاركة الثانية:
جاء زوجي إليّ وقال: اقرئي هذه الرسالة، فنظرت إليها ونظرت إلى عنوانها: على حافة الزنا: مقصلة التلبيس والأساطير، فحكى لي القصة بالتفصيل دون زيادة أو نقصان، فأثرت في أيما تأثير ثم قرأتها.. حينها قال لي هذه أنت.. قلت في نفسي: نعم هذه أنا وزوجها أنت.
نعم عزيزتي أنا ضحية الشعور الشديد بالذنب وإن اختلفت أخطاؤنا وتفاوتت، لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة في نفسي ونفسك اللتين عشقتا المثالية فوقعن فرائسها، كنت أتمنى لو أنني كنت إنسانة عاصية فتابت، ربما استطعت أن أنهض من كبوتي، أما أن أكون ملتزمة -وليعذرني الدكتور أحمد على قولها، لكنني لم أقلها إلا لتوضيح مقصدي- فهذا ما لا يمكن أن يكون.
مارست العادة السرية منذ أن عرفت نفسي، ولم أكن أعلم حتى اسمها ولم أُلقِ لها بالا، نشأت إنسانة يشار إليّ بالبنان في تفوقي ونشاطي ودعوتي، لكن ما إن اكتشفت وجود شيء يسمى العادة السرية وأنها كذا وكذا حتى داخت بي الأرض ووقعت نهبا للشعور بالذنب.. ما دمت قد فعلت ما فعلت فكيف يهدأ لي بال؟ لا.. مستحيل أنا.. الملتزمة الداعية الـ.. الـ.. لا.. توبي.. لا.. انسير.. لا.. كفري عن ذنوبك.. لا.. إذن ما الذي تريدين؟ أتمنى لو أنني لم أرتكب شيئا، أريد أن أكون طاهرة نقية من هذه الأمور؛ فليس لي أن أقع في مثل هذا.. وبدلا من كل ما سبق وقعت في شراك الوسوسة ومن ثم الاكتئاب الذي يسلبك كل شيء.. حتى ما تبقى من اعتقاد أو إيمان.
واليوم أبكي.. لا لذنوبي إنما لشعوري بذنوبي وتعاظمي لأخطائي.. أبكي لأنه لم يعد يتبقى لي شيء، وأتمنى لو أنني كزوجي الذي وقع فيما وقعت فيه، حام حول حمى الله، وهو الإنسان الرائع الذي هو كذلك يربي كثيرا من الشباب هنا في المهجر، لكنني لا أنظر إليه كما تنظرين إلى زوجك.. إنني كلما رأيته قد التف معهم رفعت تنهيدتي، وذرفت دموعي على نفسي، وقلت: هنيئا لك.. هنيئا لك لأنك لم تقع فيما وقعت فيه لم تقع فريسة الشعور بالذنب، هنيئا لك لأنك استطعت أن تستمر في طريقك مع دوام استغفارك.
أمضغ مرارة الألم كلما رأيت زوجي يخشع في صلاته أو يلهج في دعائه أو يثني على الله في تداركه.. أبكي وأقول: ليتني فعلت ما فعل، ليتني تحررت من عقدة الذنب؛ لأن الذنب لا يستطيع أحد أن يتحرر منه، أو بالأصح لا يستطيع أن يكون دائما في منأى عنه؛ فنحن بشر ككل البشر، لا فرق البتة..
نعم عزيزتي نحن بشر نخطئ ونصيب، لسنا ملائكة، وإن كنا ملتزمين كما نصف أنفسنا؛ فعودي عودي قبل أن تخسري كل شيء، وأنت بذنبك ثم توبتك منه لم تخسري شيئا بل ستكسبين حب الله؛ فهو يحب التوابين. أما باستسلامك لتعاظمك لذنبك فسيجعلك تخسرين الكثير؛ فلا بد أن توقني أن ما أنت فيه من شعور بالذنب خطأ يحتاج إلى علاج، وأن زوجك مصيب؛ ولذا لم يخيب أمله بربه وحبيبه.
ولا تنسيني من الدعاء؛ فأنا ما زال حالي كحالك؛ بل ربما أصعب؛ حيث ليس لي وسيلة للعلاج في بلد لم نتحدث لغته بعد، وأرجو أن تظلي متابعة لمشكلتك لنطمئن عليك ولتخرجي من أزمتك سالمة.
واعذريني؛ فأفكاري مشتتة وكلماتي مبعثرة، ورغم أن ما أكتبه لك من صميم مشاعري وشعوري فإن الاكتئاب يسلبني حتى الكلمات التي أكتبها فتضيع مني ويسلبني ترتيب أفكاري فأتشتت وأظل على جهاز الكمبيوتر وقتا طويلا تتوتر فيه نفسيتي لاشتعال الحديث بداخلي، ولا أستطيع أن أعبر عنه كما يجب.
فلتعذريني وليعذرني الإخوة القائمون على هذه الصفحة العطرة التي أعتبرها وأعتبر موقعها من رواد التجديد تجديد المفاهيم المغلوطة والتي أنا الآن أتربى من جديد على يديها، وأنشر ما أستطيع بما أستطيع؛ فجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير جزاء وثواب.
28/8/2024
رد المستشار
أسمع كلاما كثيرا ممن حولي حين يقولون لي عني!!
أحدهم يقول: أنت عقلاني تحكم مشاعرك، وتحسب كل شيء، وإحداهن أرسلت مع زميلات لها يقلن: ردودك مؤخرا تتسم بالحدة أحيانا، واللامبالاة أحيانا أخرى!!
وأحسب أنني مثل كل البشر قد تغلبني مشاعري الإنسانية، وخاصة حين أرى أهلي يتخبطون في دروب الحياة، وأشعر وقتها أنني مسؤول لأنني أعرف "بعض الشيء"، وأتألم لأنني عاجز "بعض الشيء" عن إدراك الآفاق التي أحلم بها، وعن أداء الأمانة، والله سبحانه يعلمني ليل نهار، ويرزقني، ويسبغ علي نعمه ظاهرة وباطنة فتتسع المعاني وتضيق المساحة والعبارة عن استيعاب ما أريد قوله.
وإحداهن تقول: لا يليق أن يقول المستشار لإحداهن أو لمشارك: "هزتني كلماتك"، وأقصد بها حين أقولها أن مشاعري تحركت.. فهل المطلوب أن يكون المستشار محايد الأحاسيس لا يحتد ولا يهتز ولا يتأثر، أو إذا حدث له هذا أو ذاك يخفيه؟!
حسنا.. ربما.. ولكن إن كان هذا هو الأصوب فابحثوا لكم عن مستشار غيري، مع وعد أن أظل أنا وفيا للحقيقة، ولأقصى درجات الموضوعية الممكنة، وبعد هذا أرجو أن تقبلوني كما أقبلكم، وألا تنقطعوا عن الملاحظة والتسديد لتحسين العمل لا لتغيير طبيعتي؛ لأنني أحسب أن الوقت قد فات لأتغير كليا، أو بالأحرى لا أحب أن أتغير في هذه الناحية.
هذه مقدمة أعود بها إليكم بعد فترة حاولت فيها أن أتزود لأكون قادرا على تقديم جديد أعمق وأنفع، والله الموفق.
نعم.. حركت مشاعري رسالة أختي التي أخطأت، ثم تابت، وعفا الله عنها، وكذلك رسالة أختي التي تعيش في المهجر، ويقول لها زوجها: هذه أنت، فتقول: نعم.. وهذا أنت.
ومكافأة للرسالتين اصطحبتهما معي في رحلة مجانية إلى بلد رائع أحبه، وأحب أهله، وأدعو الله أن يجعل لنا وللإسلام فيه مستقبلا طيبا، وخيرا كثيرا، ولا تنقصه من مقدمات ذلك شيء، إذا توجهنا إليه بالاهتمام والجهد، وفيه من الخير المادي والبشري والروحي المذخور الشيء الكثير.
حملت الرسالتين معي إلى "البرازيل"، وحملت معي القضية المشتركة أتناقش فيها مع الناس هناك، وأذكرها هنا، وفي كل مكان، ومع كل أحد.
"الكذب" هذا الخلق الشيطاني النكد الذي ينبغي ألا يتحلى به مؤمن، "الكذب" خبزنا اليومي، وأساس حياتنا الاجتماعية والفكرية والسياسية؛ حتى أصبح الصدق "وارتكابه" مثل الفعل الفاضح وسط بيئة النفاق، ومجالس الخديعة، كانت قد زارتنا مجموعة من الأخوات الناشطات في الخليج، وتحدثنا عن التغيرات التي تجري هناك، وقلت لهن: يفيد أهلنا في الخليج كما يفيدنا هنا، وفي كل مكان أن نبدأ بالكف عن الكذب والنفاق والخداع، فردت إحداهن: إن الكثير من المجتمعات العربية تقوم أسسها على هذا الكذب.. فهل تريد لها الانهيار الكامل؟!
أدهشني عمق استيعابها لهذه الحقيقة البائسة، وقلت لها: ليس للكذب أي مستقبل في عالم مفتوح، وخير لنا أن نكتشف ونكشف ونستكشف المرض، ونعالجه معا، بدلا مما يحدث من اكتشافات فردية تقع يوميا، وتؤدي إلى هجرات مادية أو معنوية، أو كفر بكل شيء كما هو الحادث للعديد من شبابنا وفتياتنا حين يكتشفون أن جدران بيوتنا، وأصول مؤسساتنا، وأصباغ وجوهنا وغالب تقوانا، أو مظاهر صلاحنا هي باطل في باطل.
وما أروع الدرس الذي تعلمته أختي هنا عمليا حين فهمت من تجربتها أنها ليست ملاكا ولا شيطاناً، إنما هي -مثلنا جميعا- بشر، نخطئ ونصيب، ونعصي الله فنستغفر، ونشرد ثم نعود، هكذا خلقنا الله سبحانه فكنا، وآن لنا أن ندرك حقيقتنا، ونرسم خطتنا على هذا الأساس، وأن نكف عن الكذب والأوهام حول ذوات طاهرة لا تخطئ، أو شعوب مقدسة لا تزل، أو حكومات منزهة عن الفساد لأنها تقول إنها تحكم بالشريعة، أو مشايخ يزعمون أنهم ينطقون بحكم الله؛ فلا ينبغي بعد ذلك مناقشتهم ولا مراجعتهم!!
لقد شاهدنا في الأفلام العربية القديمة كيف أن هناك النماذج شديدة الطيبة والنقاء بلا أدنى شر أو خطأ، وفي المقابل النماذج شديدة البطش والشر والظلم والجبروت، ويدور الصراع حتى ينتصر الخير المتجسد في الطيبين على الأشرار، وهذا كله محض بلاهة وتبسيط في تصوير العالم وإدراكه.
شاهدنا الفتاة الضحية على طول الخط التي يخدعها الذئب البشري فيسلبها أعز ما تملك، وشاهدنا الجهاد والنضال في سبيل "الحب" دون أن يشرح أحد لنا عن حلال الحب وحرامه!!
ومن نتائج هذا الخلط والتلبيس والتجهيل والتسطيح نجد أغلبنا يعيش في وهم الملائكية؛ فهو أو هي أطهار لا يمكن أن تقع منهما الخطيئة فيتواعدان باسم "الحب الطاهر"، ويتقابلان.. إلخ، وحين يقعان في الخطأ ينقلب بهما الحال من إدراك خاطئ للذات بوصفها ملائكية لا شر فيها إلى إدراك خاطئ آخر للذات بوصفها مدنسة وبشعة وحقيرة وشيطانية... إلخ، وقد يتهيأ لهما أن الصلاح و"الالتزام" والنشاط الدعوي والبراءة كانت مجرد أقنعة كاذبة، وهذا كله تهريج وتشويش وخلل في المنطق والتفكير، وأخواتي غاضبات لأنني أحتد وأنا أرى أهلي وقومي يعانون ويتخبطون بسبب أنهم يجهلون ألف باء الدين، وألف باء الحياة، وألف باء العقل والمنطق!!
هذا ما يحدث على المستوى الفردي في حياة الكثيرين والكثيرات، ومثله يحدث على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي، إما تصورات بلهاء باسم البراءة، أو إدراكات محطمة ومحبطة بعد صدمة. وكل هذا ركام هائل امتد ليملأ حياتنا نكدا وتخلفا وانهيارا، ونحتاج إلى مصارحة فردية وجماعية على كل المستويات بأن هذا "فاشل" ولا مستقبل له، وأن للبشر طبيعة تحتاج إلى ضبط، وإلى استيعاب، وإلى طرق أخرى لإدارة الأمور غير هذا السفه والهزل والعسف الذي نتواطأ على تمريره، فيأخذنا إلى أعماق أشد ظلمة من ليل الكهوف.
ولا انفصال عندي بين الخاص والعام هنا؛ فنحن جميعا بشر: أنا وأختي هذه، وتلك، والحكام، والمشايخ، والناس أجمعون، وكل ما نستطيعه أن نتعاون على تيسير الحياة، وإدارتها في اتجاه الخير والعدل والحق والسعادة، وكلها نعم من الله سبحانه، وتحتاج إلى تعاون كما تحتاج إلى محاسبة، وتحتاج إلى تغافر كما تحتاج إلى اعتذار وإعذار، وتحتاج إلى جهد لنتغير ونتربى من جديد فعلا، ولتنصلح أحوالنا صدقا، أما الكذب حاليا فنحسنه جميعا، ويستطيعه كل أحد، وحين تتضارب المصالح والمقاصد فليعتصم بالله أنصار كلمته يريدونها العليا، ولا يريدون لأنفسهم علوا في الأرض ولا فسادا، والله حسبهم وهو نعم الوكيل.
ونحن نرنو إلى هذا الأفق أقول لأختي: إن الصدق ممكن، ولكنه يحتاج إلى تدريب طويل، وحبذا لو كان البدء في المنزل مع الأولاد، لا يصح أن ننتقد أمام الصغار مشاهد الفيديو كليب العارية، ونحن نشاهدها بعد أن يناموا!! فإما أن نشاهدها معا أو نتركها جميعا. لا يصح أن نحاسبهم إذا ارتفعت أصواتهم، أو تبعثرت أشياؤهم، ونحن نصرخ في وجوههم، وأشياؤنا نحن الكبار تملأ كل ركن في البيت بالفوضى!!
إذا صدقنا مع أنفسنا ومعهم فسيصدقون، وإذا كذبنا عليهم فسيكذبون علينا، وعلى الناس أجمعين، وسيتعلمون سريعا لعبة الأقنعة؛ فهذا القناع المناسب للحفل الديني، وهذا أنسب للسهرات الأخرى!! وكأنها أزياء نرتديها في الحفل التنكري الكبير الذي نعيشه!! أو الفيلم الدرامي الذي نندمج في أداء أدوارنا فيه!!
هل نستطيع أن ننتهز الفرصة لنشرح لأولادنا عن السوء والفحشاء؟! وعما يليق ويجوز في العلاقة بين الصبي والفتاة مثلا؟! وهل نقبل ونسمح لهم ولهن باللقاء ونحن معا وجميعا، أم نربيهم على الخوف من الجنس، ومن الجنس الآخر؟!.. إلى آخر قائمة الممنوعات على موائد حفلات الكذب، والتنكر، والصلاح المصطنع!!
أصارحك يا أختي أن المسألة ليست سهلة، ولكنها ليست مستحيلة، وهي شأن فردي، ولكنها أيضا أولوية أسرية، ومعركة اجتماعية لا بد أن نخوضها حتى لا نبني نحن، وينهدم ما نبنيه في المدرسة والشارع وبيوت الأصدقاء.
نحن محكومون بأنظمة اجتماعية وثقافية وترسانة عادات وتقاليد بالية، ولن تنصلح أحوالنا إلا بإسقاط هذه الأنظمة، وإقامة أخرى أكثر تحررا وانفتاحا واستنارة وعقلانية وتمدنًا وإنسانية كما يريد الله للبشر أن يعيشوا أحرارا مختارين، عقلاء متوازنين، وهذا أمر صعب، ولكنه ممكن.
ولا ينفصل هذا عن استعادة الفهم الصحيح والاعتقاد السليم في الله جل وعلا، فليس إلهنا هو الرب المحارب المتعطش إلى الدماء، وتقطيع الأوصال، وحرق الناس بنار جهنم، أو بعبء الذنوب، ولكنه الرحمن الرحيم الرءوف، التواب إلا على الجبارين الظالمين الذين معهم أسياط كأذناب البقر يضربون بها الناس في أرزاقهم، وخلف قضبان سجونهم!!
والذين ملئوا قلوبنا خشية ورعبا من الله؛ لأن أحدنا مارس العادة السرية، أو عابث امرأة، أو شاهد صورة عارية، أو كسل عن صلاة مكتوبة، وصمتوا في نفس الوقت عن الذين أضاعوا ماضينا وحاضرنا، ويفسدون مستقبلنا؛ الذين فعلوا هذا حسابهم عند الله عظيم؛ لأنهم كذبوا عليه، وكذبوا عنه، وغيروا وبدلوا، والكذب من الشيطان، وكذلك فإن اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته هو من أشد الكبائر، والله يحب المخطئين التائبين، يفرح بهم أشد الفرح لأنهم يغالبون سهولة المعصية، ويقبلون على صعوبة الطاعة من أجل وجهه الكريم، وحين يقعون في الخطأ لا يعتبرون هذا خارج المتوقع أو نهاية المطاف، بل يسارعون بالعودة، ويكفون عن الكذب والتنكر.
ومن تلبيس إبليس وأعوانه من الأنس والجن أن يزينوا لأحدنا المعصية حتى إذا وقع فيها قالوا له: هلكت، ولا أمل، ورءوسنا محشوة بأساطير وأكاذيب كثيرة، أعتقد أنكم تعرفون الآن بعضها، وسنخبركم وستخبركم الأيام بالمزيد، وتابعونا بالأخبار